شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"ترس الشمال"... شريان آخر يُقطع بين القاهرة والخرطوم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 28 فبراير 202303:16 م

تحوّل الطريق الواصل بين مصر والسودان من رابط بين شعبي وادي النيل، إلى خط مواجهة جديد، بعد إعادة لجان المقاومة إغلاقه في وجه الشاحنات المصرية القادمة إلى السودان، في محاولات حثيثة لإيصال رسائل سواء إلى السلطة العسكرية في الخرطوم أو شقيقتها في القاهرة، متهمةً الطرف الشمالي من الوادي باستغلال خيرات السودان، ومطالبةً بوقف صادرات الخام إليه مع قائمة من المطالب السياسية والاجتماعية الأخرى، وسط تخوفات من إحداث شرخ جديد يمس العلاقات الشعبية بين البلدين.

يُعدّ شريان الشمال طريقاً دولياً يصل الخرطوم بمصر، وسط المشاريع الزراعية، وهو يربط مدن الولاية الشمالية ببعضها البعض، كما يمتد ليربط بين دارفور والولاية الشمالية، وكان يتم عبره تهريب البشر والمحاصيل السودانية منذ سنوات، من دون أن يستطيع أحد إيقافه، بل تورطت أطراف من الحكومة نفسها في بعض عمليات التهريب، وهي مشكلة عامة موجودة على حدود السودان كلها، حسب ما قالت الصحافية السودانية، آفاق محمد، من أبناء الولاية الشمالية، لرصيف22.

ما هو ترس الشمال؟ وما سر أهميته لمصر؟

أوضحت آفاق، أن ترس الشمال هو عبارة عن عدد من الحواجز التي تغلق طريق شريان الشمال، ويُسمى كل حاجز "ترس" المنطقة التي يقام فيها، مثل ترس كوبري الحامداب، وترس الحفير الذي أقامته كل من لجان المقاومة في الولاية الشمالية، وتجمّع مزارعي الشمالية على فترات مختلفة، وهو يمنع الشاحنات المصرية التي وجدوا بعد تفتيشها أنها تهرّب ممنوعات مثل "إناث الإبل"، ولكنه يسمح بدخول باصات الركاب.

تقام التروس على مفارق الطرق بين شريان الشمال والطرق الفرعية، التي يعتقد القائمون على الترس أنه يتم عبرها التهريب.

طلبات "الترس"

"ليس هناك عداء تجاه الشعب المصري، كما يروّج بعض فلول النظام البائد"؛ بتلك الكلمات استهل عضو تنسيقية لجان المقاومة في الولاية الشمالية التي أسست ترس الشمال، وائل المحلي حديثه عن إنشاء الترس، مبيّناً أنه بدأ تتريس طريق شريان الشمال في صبيحة 25 تشرين الأول/ أكتوبر، مع إعلان الانقلاب العسكري بقيادة عبد الفتاح البرهان، من قبل لجان المقاومة في محلية البرقيق، ولجان مقاومة مدينة عبري-السكوت، وكانت أبرز المطالب حينها إسقاط الانقلاب وعودة النظام المدني الديمقراطي.

وأكد المحلي لرصيف22، أن المرحلة الثانية من التتريس لطريق شريان الشمال جاءت بعد إعلان وزير مالية السلطة الانقلابية الزيادات غير المبررة في تعريفة الكهرباء، لتكون ردة فعل المزارعين، الفئة الأكثر تضرراً من هذه الزيادات، بإغلاق الطريق بالتنسيق مع لجان المقاومة، المحرّك الأساسي، بتاريخ 9 كانون الثاني/ يناير الماضي، واستمر لأكثر من أسبوع، ليصدر قرار عن المجلس السيادي بتجميد الزيادات لامتصاص غضب الشارع، وتأتي المرحلة الحالية احتجاجاً على السياسات الاقتصادية لسلطة الانقلاب وعدم الاستجابة لطلبات الترس.

رفع ترس الشمال العديد من المطالب، وهي إسقاط سلطة الانقلاب ومقاومة جميع سياساته، ومقاومة نهب موارد البلاد من الخام عبر التصدير العشوائي، والذي يُعدّ نهباً لموارد السودانيين، والمواد التي يريد المحتجون منع تصديرها هي جميع المواد الخام ذات فائض القيمة، وعلى رأسها الأبقار وإناث الإبل، مبيّناً أنه يجب أن يستمر التبادل التجاري بين الشعبين السوداني والمصري، وفقاً لمصلحة الشعوب، وليس لمصلحة الأنظمة الاستبدادية.

يضاف إلى تلك الطلبات رفض المزارعين زيادة أسعار الكهرباء، والتي تأتي من ضمن سياسات السلطة الانقلابية، بحسب المحلي.

ويرى القائمون على الترس، أنه وسيلة لإيقاف الصادرات والواردات وخنق السلطة العسكرية اقتصادياً في سبيل إسقاطها، إذ إن أغلب الشركات التي تعمل في مجال التجارة بين مصر والسودان، شركات تتبع لجنرالات في المؤسسة العسكرية وقوات الدعم السريع، والتصدير يتم من دون تصديق من بنك السودان المركزي ومن دون رسوم عبور، بجانب استمرار وسائل أخرى مجربة من مواكب ووقفات احتجاجية واعتصامات، وتلك المواقف التصعيدية لمقاومة سلطة الانقلاب، وليست لخلق عداء مع أي دولة أو شعب آخر.

من المستفيد من خنق النظام السوداني الحاكم اقتصادياً؟

ويرى تجمّع مزارعي الشمالية، وهو إحدى الجهات التي شاركت في إغلاق شريان الشمال، أن الإغلاق لمطالب اجتماعية واقتصادية فقط لا سياسية، مشيراً إلى أن لديهم مصفوفةً تحتوي على 22 مطلباً، كان منها 3 مطالب عاجلة هي إلغاء تعرفة زيادة الكهرباء وإلغاء الجبايات والتحصيل على طريق شريان الشمال، وتوفير أسمدة اليوريا، بحسب المتحدث باسم تجمع مزارعي الشمالية، عثمان الملك.

وعدّد الملك لرصيف22، بعض المطالب التي يقول إنها أُجّلت مثل إدخال الكهرباء إلى بعض الجزر، كما طالبوا بنسبة الولاية في الذهب المستخرَج منها، وكذلك نسبة الولاية من كهرباء سد مروي البالغة 2%.

وأقام التجمّع عدداً من التروس، كان أبرزها ترس الحامداب، وهو الترس الرئيس لتجمّع مزارعي الشمالية، ويليه ترس تقاطع القرير عطبرة، مبيّناً أنه في أثناء قيام ترس الحامداب كانوا يتفقدون السائقين المصريين، ويحاولون قدر الإمكان إيجاد حل لمشكلاتهم، لأن منهم مَن يعانون من أمراض مزمنة، ويحتاجون إلى بعض العلاجات، لأنهم ضحايا للإغلاق، وقاموا برفع التروس مؤقتاً بعد استجابة الحكومة لمطلبهم الأساسي، وهو إلغاء تعريفة الكهرباء.

ويختلف أصحاب تجمّع الشمالية مع لجان المقاومة في عدد من النقاط، أولها رفضهم تسييس قضيتهم من قبل بعض الأحزاب والواجهات السياسية التي أرادت التسلق على قضية المزارعين العادلة.

كما رفض التجمع تفتيش أي شاحنة مصرية، لأن التفتيش ليس من اختصاصهم، نافياً ضبط أي ممنوعات أو مخالفات للسائقين المصريين، بل إن جزءاً كبيراً من السائقين كان يشارك في فعالياتهم الثقافية والفنية على التروس، مبيّناً أنها حيلة سياسية ساذجة من البعض لاستدرار عطف المجتمع السوداني. وأوضح الملك، أن أهل الولاية الشمالية لا عداء لهم مع مصر، بل يعدّونها عمقهم الإستراتيجي وغالبية معاملاتهم التجارية مع مصر وأهلها، وهذا غير التداخلات القبلية بين البلدين.


السائقون المصريون

لم تبدأ مشكلة السائقين المصريين مع قطع شريان الشمال، ولكن مع وصول الشاحنة إلى المعبر، يمكن أن تقف لمدة شهر، ويمكن لأي عسكري سوداني مهما قلّت رتبته، التحكم في السائقين، غير حالات السرقة بالإكراه التي كان يتعرض لها السائقون داخل الخرطوم، وفي وضح النهار، بحسب رواية سعودي محمد، وهو سائق شاحنة مصري تعرّض للتوقيف على ترس الشمال.

أكد سعودي لرصيف22، أن التاجر السوداني يتعامل مع السمسار وصاحب المكتب المصري، وهم يقومون بإغراء السائقين بمبالغ عالية للذهاب إلى السودان، غير مبالين بعودة السائق أو شاحنته.

فوجئ سعودي بعشرات الأفراد يغلقون الطريق بترس الشمال، ويسبّون مصر والسائق بأبشع العبارات ويتهمونه قائلين له: "أنت حرامي أنت جئت لأخذ خير بلدي"، وهذا غير عمليات "التفتيش" التي يدّعيها القائمون على الترس، وهي في حقيقتها عمليات نهب للشاحنة. حتى الهاتف الجوّال و"أواني الطعام" الخاصة بالسائق لا تنجو.

تم توقيف الشاحنات لوقت طويل، وتجاوز توقيف إحداها 25 يوماً، وتوفي أحد السائقين من الشرقية على إثر الانفعال خلال مشاجرة مع القائمين على الترس، بنوبة قلبية، وتعدّى الأمر المشادات اللفظية إلى الاعتداء البدني على السائقين الذين بادلوهم الضرب، ولا يزال بعض السائقين متأثرين بإصابات بليغة، فمنهم من ضُرب على عينه بحجر، وآخر كسروا زجاج سيارته، وتسبب الزجاج المتطاير في تشويه وجهه، بحسب سعودي. خسر السائق المصري 25 ألف جنيه، بسبب إيقافه على ترس الشمال، هذا غير أقساط الشاحنة التي تعثّر في سدادها.

مشكلات التنمية

يُرجع الخبير الاقتصادي السوداني والقيادي في الحزب الشيوعي كمال كرار، مشكلات الولاية الشمالية، إلى عهد البشير المخلوع، عندما تم تخصيص ملايين الفدادين لاستثمارات سعودية وأجنبية، وهي أراضٍ كان يستغلها مزارعون سودانيون، كما أن الولاية عانت من التهجير القسري وقُتلت عشرات المواطنين نتيجة مقاومتهم إنشاء سد مروي، غير جملة قضايا مثل التعدين العشوائي للذهب وتلويث المنطقة، وصناعة الإسمنت، التي تلوّث الجوّ.

وأكد كرار لرصيف22، أن الاحتقان والتظاهر كانا موجودين، لكنهما تفجّرا بشكل أكثر تعبيراً، بعد زيادة سعر الكهرباء بنسبة 500%؜، مما أدى إلى رفع تكاليف الإنتاج الزراعي، وألحق بالمزارعين خسائر فادحةً، وأثّر سلباً على قطاع الصناعة، وزاد من معاناة المواطن الذي أصبح غير قادر على تغطية تكاليف الحد الأدنى من استهلاك الكهرباء، حتى اعتمدت المقاومة تتريس الطريق إلى مصر للضغط على الحكومة، لتنفيذ حزمة المطالب، ومن ضمنها تخصيص أموال لتنمية المنطقة من حصيلة الصادرات.

وتطرق كرار، إلى الأسباب السياسية للترس وأبرزها ما يدور حول الموقف المصري الذي دعم الانقلاب العسكري في السودان، ووقف بجانب المكون العسكري.

الصادرات والواردات المصرية

تُعدّ أبرز مطالب المحتجين وقف تصدير المواد الخام، خاصةً إناث الإبل. وما صبّ الزيت على النار، هي عمليات التهريب، خاصةً بعد ضبط لجان المقاومة شاحنات تهرّب ذهباً وأسلحةً وأموالاً مزورةً، وثّقوها بالصور، مع شعور السودانيين بأن الصادرات المصرية هي سلع هامشية كالأواني المنزلية و"الشيبسي"، والكراسي البلاستيك، وغيرها من الأشياء غير الضرورية، وفق ما قال رئيس شبكة الصحافيين السودانيين المستقلين بكري عبد العزيز، لرصيف22.

وأوضح سعودي أن المصريين يستوردون السمسم والجِمال، نافياً تورّط السائقين في تهريب النوق، لأن الجزّار في مصر لن يشتريها، كما أن الجِمال السودانية ليست أصيلةً، أو تُستخدم للتوالد لكي تُطلب إناثها، ولكنها جمال للذبح تُستهلك لحومها، بينما تُحمَّل الشاحنات من مصر بكل شيء من الشوكة والملعقة والكوب البلاستيكي، إلى الحديد والصلب والإسمنت والسيراميك والبسكويت واللبن والدقيق والعدس والزيت والغلوكوز.

"ادّعاءات ترس الشمال ظالمة"؛ بتلك الكلمات استهل الأمين العام لمنسقية الاستثمار في القاهرة في المجلس الأعلى للاستثمار في الولاية الشمالية، أشرف يوسف عبد الحميد، حديثه عن الواردات المصرية، مبيّناً أن معظمها مهم للسودان، وتبدأ بالكهرباء بعد مشروع الربط الكهربائي بين مصر والسودان، مروراً بمادة الدقيق التي تقوم عليها الكثير من مخابز الولاية الشمالية، وصولاً إلى الحديد والإسمنت، والأدوات المنزلية.

تراشق شعبي

وأكد عبد المجيد، لرصيف22، أن السلع الاستهلاكية مثل البسكويت والشيبسي، تأتي في ذيل القائمة، مشيراً إلى أن الحملات على فيسبوك، التي تحرّض على مصر والتجارة بين البلدين، يقودها أفراد ينتمون إلى النظام السابق وحزب المؤتمر الوطني، لإفساد العلاقات بين البلدين، غير أصحاب الأجندات الإقليمية والدولية.

ترتبط مطالب المحتجين بوقف تصدير المواد الخام، التي تتطلب تطوير الصناعة السودانية أو إعادة تأهيل المصانع المعطلة، ولكن الأمر الآن غير ممكن في ظل تجاهل الصناعة وضآلة الميزانية المخصصة لها، بحسب كرار.

وناقش الخبير الاقتصادي السوداني، مطلب وقف استيراد السلع الهامشية وغير الضرورية، موضحاً أنه اقترح على حكومة حمدوك، منع تلك الواردات لوقف استنزاف النقد الأجنبي وتقليل عجز الميزان التجاري، ولكن هذا الرأي لم يؤخذ به، لأنه يتعارض وشروط صندوق النقد الدولي مع السودان.

ويؤثر الترس على الصادرات إلى مصر والواردات منها، كما له آثاره الاقتصادية السلبية، ولكن يجب تقنين تجارة الحدود عبر بروتوكول اقتصادي يحكم هذه العلاقة، لأن الكثير منها أقرب إلى التهريب عبر منافذ غير رسمية، وأن تتم الاستجابة لمطالب المواطنين وعدم اللجوء إلى الحلول الأمنية.

"يعكّر صفو العلاقات الشعبية بين البلدين"؛ هكذا وصفت رئيسة مبادرة مصر والسودان إيد واحدة، شادية الحصري، ترس الشمال، مبيّنةً أنه نتج عنه تراشق على صفحات التواصل الاجتماعي بين الشعبين، وزيادة الاحتقان مع نشر صور الشاحنات المحتجزة والاتهامات الموجهة إلى مصر والمصريين.

وأكدت الحصري لرصيف22، أن في مصر أربعة ملايين سوداني يعامَلون كالمصريين، بالإضافة إلى أن معظم المساعدات المقدّمة للحالات الإنسانية السودانية في مصر يقدّمها مصريون، وهو الواقع الذي يجهله أصحاب الترس وحملات فيسبوك ضد المصريين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard