في الخامسة عشرة من العمر بدأ تامر فرح (43 عاماً) عمله كـ"أسترجي"، أي دهّان أثاث. وهي مهنة تعلمها لدى والده في محافظة دمياط المصرية. وبعد عشرة أعوام بدأ يعاني من حساسية في الصدر ثم بدأت رحلته مع العلاج. ومنذ ذلك الحين لا تفارقه البخاخات وجلسات الاستنشاق.
يقول لرصيف22: "رغم تدهور صحتي مفيش بديل. لو تركت مهنتي هشتغل إيه وأنا رب أسرة؟ للأسف مفيش خامات بديلة تحمينا من أضرار تلك المواد".
مخلص عبد الشافي (51 عاماً) انطلق هو الآخر في رحلة السعي والعمل مبكراً منذ أن كان عمره 12 عاماً، ضمن نفس المجال، ولم تمر سنوات قليلة إلا بدأ يعاني من حساسية في الصدر وضيق في التنفس. ورغم طول المعاناة التي تمتد نحو 30 عاماً لم يستطع ترك مهنته، يقول: "الأطباء نصحوني بتركها لكن مفيش بديل، 50% من دخلي بنفقه على العلاج".
رغم تدهور صحتي مفيش بديل. لو تركت مهنتي هشتغل إيه وأنا رب أسرة؟
أما الطفل محمد بسام، ورغم صغر سنه (11 عاماً)، وهو أقل من العمر المنصوص عليه في القانون للسماح بعمل الأطفال، فقد خرج من منزله تاركاً كتبه وكراساته ليبدأ رحلة العمل كأسترجي في سبيل مساندة أسرته الصغيرة بعد مرض والده، يقول: "خرجت للعمل لأساعد في مصاريفي أنا وشقيقاتي، أتقاضى 400 جنيه أسبوعياً كأجر (13 دولاراً)، ورغم معاناتي من ضيق التنفس نتيجة استخدامي مواد الدهان والطلاء لكن مفيش بديل أمامي. أريد أن أحقق حلمي بأن أصبح طبيباً".
وتنتشر ورش الأثاث في محافظة دمياط شمال مصر، حيث يعمل نحو 75 ألف صانع من بينهم أطفال في حرفتي الأسترجية والمذهباتية، وفق تقديرات الجمعية التعاونية لتصنيع الأثاث وتسويقه، ويستخدمون موادَّ ضارة بالصحة والبيئة مثل البوليستر والبروتان للطلاء وتغطية الخشب.
رصيف22 التقى بعض العاملين في تلك الورش بقرية الشعراء، عدد منهم تركوا مهنتهم مجبرين بعد إصابتهم بأمراض صدرية، وآخرون لم يستطيعوا تركها لعدم وجود بديل.
"رئة زجاجية"
حينما تطأ قدماك ورشة الحاج محمد عبد الخالق، تجد الجدران سوداء تماماً بفعل رش الدهانات التي غيرت ملامح ما حولها. بدأ عبد الخالق عمله منذ أن كان طفلاً، لم يتلقَّ التعليم كغالبية صناع الأثاث في مسقط رأسه، وعانى من أعراض تنفسية كالاختناق والكحة وضيق النفس، كما تأثر نظره إلى حد كبير.
يحكي لرصيف22: "أتردد منذ سنوات على أطباء الصدر بمحافظتي القاهرة والدقهلية، ولسوء حالتي ظن طبيبي أني مدخن بسبب رئتي الزجاجية، على الرغم من عدم تدخين سيجارة واحدة طوال حياتي"، ورغم متاعبه الصحية يعتبر نفسه أفضل حالاً من غيره.
أما محمد نعيم (40 عاماً) فقد باشر رحلته مع مهنته التي توارثها أباً عن جد مذ كان في الصف الرابع الابتدائي، وفجأة بدأ يعاني من أزمة ربو وحساسية أنف، ليدخل في رحلة علاج قلبت حياته رأساً على عقب، فمهنته التي لا يعرف سواها باتت غير ملائمة له.
يحكي نعيم قصته: "قبل أربع سنوات بدأت معاناتي مع المرض رغم حرصي على ارتداء الكمامة كلما عملت في رش الموبيليا، لكن كنت أشعر باختناق فالرائحة نفاذة جداً. نصحني الطبيب بترك مهنتي التي جعلتني عجوزاً مريضاً يعيش على البخاخات وجهاز الاستنشاق. عملت في مهن أخرى لأنفق على أطفالي الأربعة، ومنها بائع في معرض أثاث وفني تركيب كاميرات".
ويضيف: "بعد مرضي تخلى عني رب العمل، فلم يسأل عني ولم يدفع لي نفقات علاجي رغم عملي المتواصل لديه 14 عاماً"، متمنياً حصوله على معاش تقاعدي وعمل ثابت من أجل الإنفاق على أسرته.
الأضرار الصحية والبيئية
وفقاً لدراسة أجرتها جامعة الأزهر عام 2009، ينتشر الربو الشعبي المهني بين صناع الأثاث بنسبة 8.45%، وخضع للدراسة 1064 عاملاً في 13 مصنعاً بالمنطقة الصناعية بمدينة دمياط الجديدة، وتبين وجود علاقة وثيقة بين الإصابة بالربو والمهنة. وتسبب المواد المستخدمة في الطلاء الصداع والدوار والإغماء وفشل الجهاز التنفسي والدورة الدموية.
يقول لرصيف22 الدكتور عاطف وهدان الأستاذ المساعد بمجال الأمراض الصدرية في جامعة الأزهر: "تسبب مواد البوليستر والبروتان التهابات مزمنة في الشعب الهوائية، كما قد تسبب الإصابة بالربو الشعبي والانسداد أو التليف الرئوي على المدى الطويل، ومن الأعراض كحة مصحوبة ببلغم عند صعود الدرج أو بذل مجهود، بالإضافة لضيق التنفس".
قبل أربع سنوات بدأت معاناتي مع المرض رغم حرصي على ارتداء الكمامة كلما عملت في رش الموبيليا، لكن كنت أشعر باختناق فالرائحة نفاذة جداً. نصحني الطبيب بترك مهنتي التي جعلتني عجوزاً مريضاً يعيش على البخاخات وجهاز الاستنشاق
يتفق الدكتور يحيى ضيف، استشاري أمراض الصدر ومدير مستشفى الصدر بدمياط مع وهدان في ما يتصل بالضرر البالغ لاستخدام الدهانات، يقول: "تسبب هذه المواد ضيقاً في الشعب الهوائية وحساسية صدر والتهابات مزمنة بالإضافة للربو الشعبي، كما أن ترسبها على الشعب الهوائية يجعلها أشبه بالزجاج"، ووفقاً لضيف فإن غالبية العاملين بتلك المواد يعانون من هذه الأعراض التنفسية.
ويرى الدكتور طه عبد العظيم، أستاذ الكيمياء البيئية المتفرغ بكلية الدراسات والبحوث البيئية في جامعة عين شمس، أن للدهانات المصنعة من مواد كيماوية كالبوليستر آثاراً سلبية ناتجة عن انبعاث المواد المتطايرة، ومخاطر مباشرة على صحة الإنسان لما تسببه من كحة وحساسية وصداع ودوار وعدم وضوح الرؤية، وعلى المدى البعيد قد تسبب الإصابة بالسرطان.
ويضيف: "تنتج هذه المواد أيضاً غاز الأوزون الموجود في طبقات الجو العليا والناتج عن الأبخرة المتطايرة، مما يسبب دموع العين والحكة وبعض أنواع السرطانات، كما أن تلك الانبعاثات تجعل الهواء سيئاً وغير قابل للاستنشاق".
وتحذّر الدكتورة مها الصاوي أستاذة الكيمياء التطبيقية بكلية العلوم جامعة الأزهر من استخدام البوليستر، فهي مادة خطيرة صحياً، ووجود الورش وسط الكتلة السكانية يسبب تفشي الأمراض الناتجة عن استنشاق الأبخرة الضارة المشبعة بالمعادن الثقيلة. وتضيف أن "البولى إستر" مادة سائلة سريعة للاشتعال عند تعرضها للحرارة أو أي شرارة، كما أن الأبخرة الناتجة تكوّن مع الهواء خليطاً متفجراً، وإذا تلامست مع الجلد تسبب حروقاً وتهيجاً للجلد والعين، ويسبب استنشاق أبخرتها أضراراً بالغة للجهاز التنفسي.
وتوصي الصاوي بالعمل على تقليل تأثير هذه المواد الضارة عن طريق تفعيل اشتراطات الأمن الصناعي والمدني والبيئي لكل ورشة، وإغلاق الورش المخالفة، واستخدام مواد أكثر أماناً تندرج تحت مسمى "الكيمياء الخضراء".
كما ينصح وهدان العاملين في ورش الأثاث والمقيمين في محيطها بضرورة إجراء فحص دوري لجهازهم التنفسي، والتوقف عن التدخين، وتهوية أماكن العمل، إلى جانب استخدام أجهزة قياس نسبة التلوث في الجو في أماكن العمل، مع الالتزام بارتداء الكمامة والكشف الطبي فور ظهور أعراض مرضية، خاصة أن التليف الرئوي قد يحدث بعد سنوات من التعرض لتلك المواد.
إجراءات رقابية
تختص وزارة القوى العاملة بزيارة الورش والتأكد من توفر الظروف الملائمة للعمل. وتتمثل الإجراءات الوقائية المطلوبة بتركيب كبائن أو أفران بمواصفات خاصة ضمن الورش علاوة على ارتداء الصناع الكمامات، وتوفر مطافئ الحريق ورشاشات المياه داخل الورش مع عدم تخزين كميات كبيرة من الدهانات.
على العاملين في ورش الأثاث والمقيمين في محيطها بضرورة إجراء فحص دوري لجهازهم التنفسي، والتوقف عن التدخين، وتهوية أماكن العمل، إلى جانب استخدام أجهزة قياس نسبة التلوث في الجو في أماكن العمل، مع الالتزام بارتداء الكمامة والكشف الطبي فور ظهور أعراض مرضية
وتقول الدكتورة مها فايد مديرة شؤون البيئة في دمياط سابقاً: "يشترط لعمل ورش الدهانات أن يرش البوليستر داخل كبائن أو أفران مزودة بمداخن حتى لا ينتشر الرذاذ، وأن يكون الفرن أو الكبينة مطلة على شارع عرضه ستة أمتار، وأن تعلو المداخن الخاصة بها أي منازل مجاورة، وحال عدم الالتزام بتلك الاشتراطات يصدر قرار غلق المنشأة لعملها بدون ترخيص، مع تحرير محضر مخالفة لقانون البيئة وتغريم المخالف بمبلغ قد يصل إلى 20 ألف جنيه".
وحول الرقابة المطلوبة، يقول محمد الزيني رئيس الغرفة التجارية في دمياط: "طالبنا باستبدال ورش البوليستر بأفران صديقة للبيئة، فأخطرنا وزارة البيئة التي تواصلت مع الهيئة العربية للتصنيع من أجل تصميم أفران صديقة للبيئة"، وعليه تحول 30% من العاملين بالمجال لأفران صديقة للبيئة، حسب قوله.
وخلال الجولات، لم نرصد تطبيق معظم هذه الشروط، فجميع الصناع يرشون داخل ورشهم على الأغلب أو خارجها حسب ما يتاح لهم، من دون ارتداء كمامة لتسببها في الاختناق مع درجات الحرارة المرتفعة.
ونظراً لما تمثله ورش الدهانات من خطورة تُشَن حملات تفتيشية دورية عليها، وحصل رصيف22 على إحصائية صادرة من مديرية القوى العاملة بمحافظة دمياط، كشفت عن شن حملات على 790 منشأة تصنيع أثاث بين تموز/ يوليو وكانون الأول/ ديسمبر 2022، وتحرير 356 محضرا، فضلاً عن غلق إداري لستين ورشة.
في هذا الصدد، تقول منى الأطروش مديرة المديرية المذكورة أعلاه لرصيف22: "حررت المحاضر لمنشآت الأثاث لأسباب تتمثل في الخطورة الكبيرة، وعدم الالتزام بإجراءات الأمن والسلامة والصحة المهنية والوقاية من الحرائق، أو عدم إجراء الكشف الطبي على العاملين، بينما حررنا محاضر الغلق لبعض الورش باعتبارها ذات خطورة كبيرة، وعليه تنفذ الوحدات المحلية التابعة لمجالس المدن قرارات الإغلاق، ولكي تعود الورش للعمل لا بد من التزامها بتركيب كبائن ليتم رش الدهانات بداخلها".
ووفقاً لمصدر مسؤول بوزارة الداخلية تحدث لرصيف22 بشرط عدم ذكر اسمه، فقد كشف عن قيامهم بحماية مدنية والتأكد من تطبيق اشتراطات الحريق والمتمثلة في توفر مطافىء حريق داخل الورش بمعدل مطفأة من ستة كيلوغرامات لكل 50 متراً، مع تأمين أماكن التهوية برشاشات مياه، والتشديد على وجود كميات من الدهانات تكفي الاستخدام اليومي دون تخزينها داخل الورش لتقليل معدلات الخطورة.
لكن التابعي الغازي وهو رئيس الجمعية التعاونية لتصنيع الأثاث وتسويقه في دمياط، قال لرصيف22 إن الكبائن التي دشنت كخطوة وقائية لم تكتمل، لتضرر سكان المنازل المجاورة منها بسبب انبعاث الأبخرة. كما أن الذين ركّبوها لا يتخطى عددهم الستة، فتكلفتها مرتفعة وهو ما يعوق التوسع في استخدامها، خاصة أنها لا تمنع الضرر الناجم عن تلك المواد.
تصوير: سهاد الخضري
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com