يقع حي الحطابة التاريخي في المنطقة المجاورة لجدار القلعة الشمالي، في نطاق منطقة القاهرة التاريخية.
لن يتغير موضعه منذ إنشائه في العصر الطولوني، مصاحباً قرار أحمد بن طولون عام 868م اتخاذ منطقة القطائع مقراً لحكمه، بدلاً من مدينة الفسطاط التي حكم منها المسلمون مصر منذ قدوم العرب قبل نحو قرنين من ذلك التاريخ.
مع مرور الوقت، أصبحت القطائع امتداداً لما سيعرف بعد قرون قليلة باسم القاهرة الفاطمية، إلا أنها اتخذت أهميتها الحقيقية منذ بناء القلعة كمقر جديد للسلطة الحاكمة في العصر الأيوبي، ولكونها الظهير الشمالي للقلعة الذي يطل عليه "باب المدرج" على مدار العصر المملوكي، ومحطة لتجمع ما تحتاجه القلعة من الحطب خلال العصر العثماني، ثم ما لبست الحطابة في عهد محمد علي أن أصبحت الممر الرئيسي لأهل الحكم بعد تمهيد الطريق المار عبرها إلى ميدان القلعة، ليناسب العربات المجرورة بالخيول التي عرفتها القاهرة لأول مرة عام 1824، وفقاً لأندريه ريمون في كتابه "القاهرة تاريخ حاضرة".
خارطة القلعة في العصر المملوكي "1250-1517"، نقلا عن أندريه ريمون
بموجب خطة "تطوير القاهرة التاريخية" وضعت الدولة عينها على منطقة الحطابة ضمن مناطق مجاورة أخرى تقرر إزالتها ونقل سكانها لاستكمال تحويل منطقة القاهرة التاريخية إلى متحف مفتوح، إلا أن خطة قدمتها جمعية الفكر العمراني-مجاورة تمكنت من إنقاذ الحطابة من قرار الإزالة.
تقع الحطابة التي تشتمل على 400 قطعة أرض، ويسكنها من 1700 إلى 2000 نسمة، بمتوسط 500 أسرة، ضمن الحرم الأثري للقلعة، وتظل تحت ولاية المجلس الأعلى للآثار الذي يرى في إخلاء الحي من سكانه ضرورة أثرية. حتى بعد إعلان اليونسكو القاهرة التاريخية موقعاً تراثاً عالمياً عام 1979.
تَتبع أم رانيا روتيناً صارماً دأبت عليه منذ عام 2004. تبدأ عملها في الخامسة فجراً، تجلس في ساحة بيتها وتباشر الخياطة، وتتوقف قليلاً للراحة في تمام العاشرة، ثم تنتقل لمواصلة العمل أمام دُكانها. ذلك الروتين اليومي يجعل الراحة والطعام والحكايات النسائية أيضاً تحاك في نسيج يوم العمل
وعليه، صنِّفت الحطابة عام 2011 منطقة عشوائية ذات خطورة من الدرجة الثانية، من قِبل صندوق تطوير العشوائيات، ثم تبعه قرار محافظة القاهرة عام 2017 إعادة تخطيط الحي، وعام 2020، أعلنت محافظة القاهرة عن كون الحطابة ضمن الخطة الرئاسية للإزالة وإعادة تسكين أبنائها في حي الأسمرات خارج العاصمة، وهو ما يمثل خطراً مباشراً على أهالي الحي وحياتهم اليومية بمظاهرها الاقتصادية والاجتماعية، وتهديداً لتَاريخهم ومستقبلهم، وهو ما يبدو واضحاً من خلال محاولاتهم المستمرة لصياغة مفهومهم عن مكانتهم داخل المكان والزمان، وإعادة تشكيل تصوراتهم عن علاقتهم بأنفسهم وبالمجتمع، وهذا ما يتجلى بوضوح في تاريخهم الشفوي ومنازلهم وحرفهم اليدوية.
خريطة منطقة الحطابة في العصر العثماني، نقلا عن أندريه ريمون
تعمل جمعية الفكر العمراني-مجاورة عبر مبادرة الأثر لنا منذ عام 2018 على تنفيذ مقترح تخطيط عمراني لتطوير حي الحطابة بالشراكة مع أهالي المنطقة ووزارة الآثار. يستهدف المقترح في المقام الأول رفع الجودة العمرانية للحي، وتحسين الأبنية السكنية، في محاولة لوضع معادلة عمرانية تجمع ما بين تطوير النسيج العمراني بشكل يحافظ على الأبعاد التاريخية للحي واحتياجات الأهالي، وبين رؤية الدولة للحي التي ترى فيه اعتداءً على الحرم الأثري للقلعة، من خلال إقامة مسار سياحي يبدأ من باب القلعة ويشتمل على مراكز ثقافية وورش تدريبية، لتنمية المنتجات الحرفية، ومنطقة فنية وتجارية لتسويق تلك المنتجات.
من المستفيدين من تلك المبادرة والمشاركين فيها أملاً في الحفاظ على منطقتهم البالغ عمرها ما يربو على 1200 عام، السيدة أم رانيا، التي ينظرإليها أبناء الحي العريق باعتبارها أحد أعمدة نسيجهم المجتمعي، وتشهد في حضرتها ذلك التدفق الحضاري والإنساني الثري للقاهرة التاريخية وسكانها.
بدأت أم رانيا رحلتها مع خياطة التَارك منذ عام 2004، تلك اللحظة التي قررت فيها الذهاب إلى منزل واحدة من جاراتها للتعرف على أسرار المهنة، مُصطحبة معها إحدى بناتها. وتفتخر أنها لم تحتج أكثر من ثلاثة أيام حتى تمكنت بمفردها من إنهاء تَارك (نسيج يدوي يجمع بين الجلود والأقمشة) بشكل كامل. تستعيد الذكرى وتملأ الابتسامة وجهها.
ابتسامة أم رانيا التي تجمع بين الفخر والسخرية، تعاودها عندما تتذكر الجنيهات الثلاثة التي كسبتها مقابل التَارك الأول، الذي استغرقها العمل عليه نحو أربع ساعات، وكذلك لدى حديثها عن أول أخطائها عندما حاولت "وضع العلام"، أي تحديد المواضع التي ستخاط فيها الجلود قبل البدء في خياطتها على النسيج، وكيف استوعبت الدرس تماماً حتى لا يتكرر ذلك، تقول:"العلام ممكن يعدم التارك كله، حد يَعلّم يروح مبوظ التارك كله، هيعمل علامة كبيرة وعلامة صغيرة، وفي حد بيعلم مظبوط".
روتين صارم
تَتبع أم رانيا التي بلغت السادسة والستين من العمر روتيناً صارماً دأبت عليه منذ عام 2004. تبدأ عملها في الخامسة فجراً، تجلس في ساحة بيتها وتباشر الخياطة، وتتوقف قليلاً لتريح يديها وعينيها في تمام العاشرة، ثم تنتقل لمواصلة العمل أمام دُكانها، في حركة مُعاكسة لحركة الشمس، ذلك الروتين اليومي الذي يجعل الراحة والطعام والحكايات النسائية أيضاً تحاك في نسيج يوم العمل، حقق لها ضمانة الاستمرارية، مما دفعها للالتزام به، حتى خلال انقطاع المواسم والفترات التي لا يتوفر بها التَارك، كما ألزمت بناتها على مدار هذه الفترة بساعات عمل يومية، من بعد انتهاء اليوم المدرسي حتى التاسعة مساءً. تقول: "لو مفيش شغل لازم أنزل أحسن أبوظ (أفقد قدرتي الحرفية)، يجي عليا أيام مالقيش الشغل ده، بس هلاقي الجلد أقصها، وأخرامها، وأركنها، وبعدين أبيعها بيع غناوة".
"أنا بعشقه، مش بحبه بس أنا بعشقه، أنا بقعد اشكي للتارك اللي فيا، أحكيله اللي مزعلني ومضايقني واللي مفرحني واللي أنا عايزاه، ده صاحبي وحبيبي"
يعكس هذا الروتين المنضبط الذي فرضته أم رانيا على نفسها وعلى من حولها، ارتباطاً عاطفياً ونفسياً عميقاً بهذه المهنة، حتى امتزجت حياتها الشخصية بالحياة المهنية، وتداخلت علاقاتها الإنسانية والعملية بقريناتها من نساء الحطابة بشكل قد يعوقنا عن التمييز بينهن. لكن أكثر ما يثير الاهتمام هو النظرة الفلسفية التي تتبناها أم رانيا تجاه التَارك. التارك الذي يستمع إلى شكواها، ويحفظ سرها، ودائماً يمحو الهموم عن كاهلها، ذلك التَارك الذي يؤمن احتياجاتها البسيطة، ويمنع عنها العوز. تقول: "أنا بعشقه، مش بحبه بس أنا بعشقه، أنا بقعد اشكي للتارك اللي فيا، أحكيله اللي مزعلني ومضايقني واللي مفرحني واللي أنا عايزاه، ده صاحبي وحبيبي".
تمتلك أم رانيا مهارة في الخياطة دون الحاجة إلى النظر إلى الإبرة، وقدرة استثنائية على الحديث أثناء العمل، فهي تعرف موضع خروج الإبرة من دون الحاجة إلى النظر إليها، وكأن الإبرة جزءٌ حيٌ لا ينفصل عن جسدها، فدائماً تفتخر بقدراتها الحرفية "حتى الإبرة لما ألضُمها مش زي أي حد"، وعن مَقدرتها على تمييز "شُغلها" عن غيره، ما يجعلها تشعر بالتميز والاستحقاق بين قريناتها من نساء الحطابة، سواء اللواتي كن على نفس المستوى الحرفي أو اللواتي بدأن مُزاولة العمل على التَارك منذ زمن بعيد، أو النساء التي مارسن الخياطة حديثاً تحت إشرافها، ولا يزلن غير قادرات على إنهاء تارك كامل بمفردهن، رغم تكرار مُحاولاتها في تعليمهن أصول المهنة.
حكاياتها لا تنتهي. وفي المقابل، يتدفق رأسي بالأسئلة التي تدور جميعها في فلك تساؤل مركزي هو كيف استطاعت أم رانيا بالاعتماد على مهنة الخياطة أن تبني لنفسها هذه المكانة بين أسطوات الحطابة، ومِقعد الصدارة بين نسائها؟
وتحرص أم رانيا بعد كل هذا الوقت على استمرار اتصال بناتها بخياطة التَارك، رغم انشغالهُن بحياتهن العملية والزوجية، ورغم علمها بتفاوت رغبة الاستمرار لديهن، فرانيا التي انشغلت بالعمل بعد تخرجها في معهد التمريض، تحرص على الالتزام بمساعدة أمها يومياً، على عكس دعاء التي درست الحقوق في جامعة القاهرة ثم انشغلت بحياتها الزوجية، ولا تجلس للخياطة إلا نادراً رغبةً في إرضاء أمها. ولكن تظل علاقة أم رانيا بحفيدتها جَنى هي العلاقة الأكثر مركزية. جنى التي تبلغ من العمر 11 عاماً، تعتمد عليها جدتها بشكل أساسي في تنظيم العمل بين العاملات والإشراف على جودة أدائهن. وبقليل من الجهد، يمكننا تتبع الرسائل غير المُعلنة التي تتلقاها جنى من جدتها: "أقولك إيه أهل الحتة كلها عايشين على كده، والستات بتعلم بعضها، أم محمود ماكنتش بتعرف، جنى علمتها، نجوى البقالة ماكنتش بتعرف جنى بردوا علمتها".
تحديات وتطلعات
يشتمل التَارك على طبقتين مُتصلتين من القماش على شكل مستطيل يشغل كلاهما مساحة خمسة أمتار ونصف، تمتلئ طبقة الوجه "تُوب الوش" بنقوش فنية مبدعة يتم طباعتها باستخدام الماكينات منذ انتهاء زمن التطريز اليدوي، ويشتبك قماش وجه التَارك مع قماش الظهر "القلع" من خلال شريط "المصري" الذي يُخيّط ألياً بالطبقتين من جوانب التَارك الأربعة. وتتلخص مهام أم رانيا وقريناتها من النساء على تثبيت 46 زوجاً من الجلد المُعَدة مسبقاً بـ خُرُوم مُخصصة لمرور الإبرة والخيوط "الخرز"، وذلك بالاعتماد على "القِردا" وهي خَرامة الجلد، وتتنوع تلك الجلود بين ذات الأربعة خُروم وهي المربعات، وجلود تشتمل على خمسة خُروم، وكذلك "التِلت"، بالإضافة إلى "الرُكنة" وهي جلود تأخذ شكل المثلث.
وتكمن الحرفة في التوزيع المنضبط للجلود على شريط التَارك "المصري"، بحيث يحتوي جانبا التَارك الأساسيان على 31 جلدة من الَخمسات موزعة ومُدعمة بـ "الكوشة" وهي حبال ملفوفة تثبت مع الجلد بهدف استخدامها في تثبيت التارك على أخشاب الصوان فيما بعد، بالإضافة إلى 15 زوجاً من جلد المربعات في الجانب المقابل، ثم أربعة جلود الرُكنة يتم تثبيت كل اثنتين منها على طرف من التَارك، وقد تحتاج خياطة تلك الخمسات إلى مزيد من التركيز والإتقان مما منع بعض السيدات من إجادة خياطتها، واقتصر عملهن على خياطة جلد المربعات فقط. تقول أم رانيا: "أطلع شغلي من وسط مِّيةـ شُغل، معظم الستات هنا بيعملوا العُقدة تحت الحبل، أنا بعملها فوق الحبل".
تذكر أم رانيا التي بدأت في عملها قبل نحو ثلاثة عقود، كيف اقتصر تعاملها تلك الفترة مع ثلاثة من معلمي الحطابة الكبار الذين أسسوا للمهنة وأرسوا أصولها بين أهالي المنطقة، وعلى رأسهم المَعلم عبد الباسط وهو أول من جلب التَارك إلى الحطابة في بداية الثمانينيات وفقاً لروايتها، ثم تستدعي ذكرياتها مع المعلم حماده وورشته في منطقة "الخوخة" التي "مكنتش بتفضى من الشغل"، ثم تسترسل في ذكر المعلم سيد محفوظ الذي خسرته الحطابة لدى وفاته، بعد أن فتح أبواب العمل أمام الكثير من أهالي المنطقة، وأصبح "صِبيانه" أصحاب ورش.
وتشير أم رانيا إلى اختلاف أوضاع المهنة عن عهدها السابق "في زمن المَعلمين الكبار" بعد أن بدأ صِبيانهم في السيطرة على المهنة، لكنهم لم يلتزموا بأخلاقها وتناسوا الأصول التي أقرها "مَعلمين الشُغلانة". وتستنكر على سبيل المثال، طريقة ربط الجلد التي اعتمدها أحد الأُسطوات الشباب رغبةً منه في ضبط أعداد وأحجام الجلود، مُعلنه أن ذلك شُغل مُبتدئين. وتضيف: "يُحط 46 جُوز ويُرصهم فوق بعض ويربطهم، علشان كل اتنين يبقوا قد بعض، طيب قدر جات واحدة كبيرة وواحدة صغيرة، هَرميهم يعني؟ لا طبعا، أحركهم بالإبرة، قالي علشان ماغلبكيش، قُولت له ده عند التلامذة بتوعك، أنا لا".
لكن أكثر ما يزعج أم رانيا هو إلحاح أرباب العمل واستعجالهم، إذ إنها لا تفضل أن تُلزم نفسها بإنهاء عدد محدد من التُروك في اليوم الواحد، ما قد يؤدي إلى العديد من المشكلات، أقلها جرح اليد، مُعلقة: "ضربة الإبرة أو الَمقص في الإيد وحشة"، ومؤكدة أن "لكل يوم ظروفه، ولكل شغل مواعيده"، فقد يستغرق تَارك ساعتين ونصف، وآخر قد يتم إنجازه في ساعتين، لذلك فهي تفضل ألا تعمل تحت ضغط العمل وإلحاح أصحابه، خاصة أنها تخصص يومها كاملاً للعمل. تكمل: "اللي يديني الجِنيه هشتغل معاه، واللي يحترم شُغلي هشتغل معاه، واللي هيجيلي كل شويه يقولي الشُغل خِلص هقوله شِيل شُغلك ومع السلامة".
على مدار شهر ونصف الشهر، ظللت ألتقي أم رانيا يومياً، أستمع إلى حكايات الحطابة والتارك وتحولات الحي ومعلميه. حكاياتها لا تنتهي. وفي المقابل، يتدفق رأسي بالأسئلة التي تدور جميعها في فلك تساؤل مركزي هو كيف استطاعت أم رانيا بالاعتماد على مهنة الخياطة أن تبني لنفسها هذه المكانة بين أسطوات الحطابة، ومِقعد الصدارة بين نسائها؟ بل كيف لها أن تُدير هذا الدور الاجتماعي والاقتصادي داخل مجتمع الحطابة الذي يبدو أول وهلة مجتمعاً تسوده القيم الذكورية؟
وكيف يمكننا أن نفهم من خلال حياة أم رانيا وحياة زميلاتها تلك العوالم المتداخلة التي رسَمنها لأنفسهن داخل الحي التاريخي العتيق؟ لكن يبدو أننا بحاجة لمساحات أكثر رحابة تتسع لصوت أم رانيا، وغيرها من نساء الحطابة، وقراءة ما هو أبعد من ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...