عاش في مصر في عشرينيات القرن الماضي رجلان اثنان: طبيبٌ شرعي ونشال، أحدهما وُجِدَ حقّاً، والثاني قد يكون ابتدعه خيال صحافي عاش في تلك الحقبة الزمنية. النشال الذي ارتكب جنحاً صغيرةً والطبيب البريطاني الذي كشف خيوط جرائم كبيرة غامضة، تركا لنا مذكراتهما المنشورة حديثاً، والتي استطاعت بصورة أو أخرى تقديم شهادات حية عن مصر من منظورَين مختلفَين تماماً.
الجثة كوثيقة عن مصر
ماذا يمكن لرُفاة جسد أو بقايا عظام أن تخبرنا عن مصر في عشرينيات القرن الماضي؟ ما كانت طرق القتل الأكثر رواجاً، والسموم الأكثر استخدماً؟ ما هي دوافع القتل الأبرز التي حرّكت الناس لارتكاب جرائمهم؟ في كتاب "قارئ الجثث"، الذي صدر قبل بضعة أشهر عن "الدار المصرية اللبنانية"، ترجمة مصطفى عبيد، نجد أنفسنا أمام وثيقة مروّعة وغير مألوفة عن مصر، أنجزها سيدني سميث، مستشار الطب الشرعي للحكومة المصرية ومؤسس وحدة الطب الشرعي هناك.
ماذا يمكن لرُفاة جسد أو بقايا عظام أن تخبرنا عن مصر في عشرينيات القرن الماضي؟ ما كانت طرق القتل الأكثر رواجاً، والسموم الأكثر استخدماً؟ ما هي دوافع القتل الأبرز التي حرّكت الناس لارتكاب جرائمهم؟
عمل سميث رئيساً لوحدة الطب الشرعي في مصر طوال أحد عشر عاماً، بعد أن تتلمذ في إدنبرغ، الجامعة التي خرّجت الكاتب والطبيب سير آرثر كونان دويل، الذي ابتكر شخصية "شرلوك هولمز" المحقق الشهير. وبرغم أن كتاب سميث يتخذ صبغةً شديدة الواقعية ليبدو بمثابة مذكرات تسترجع حقبة دراسته، ومن ثم عمله في مجال الطب الشرعي، لكنه لا يخلو من التباهي بقدرات هذا النوع من التخصصات على التقاط الكثير من خيوط الجرائم التي تبدو في الظاهر معقدةً ومستحيلة الحل خاصةً في ذلك الزمن.
يرى مترجم الكتاب في مقدمته، أن هذه المذكرات تكتسب أهميةً خاصةً نتيجة غنى الفترة التي عاش فيها سميث في مصر إثر ثورة 1919، إلى جانب مساهمته في كشف ملابسات جرائم سياسية مهمة انحاز فيها إلى ضميره العلمي قبل انتمائه الوطني ما جعله يكشف تورط سلطات الاحتلال البريطاني في توظيف لصوص لاستخدامهم في قتل المتظاهرين وإثارة الشغب، كما لا يخفى في أثناء قراءة المذكرات تعاطف صاحبها مع الحركة الوطنية وسعد زغلول.
يصف سميث عمله في مصر بـ"الكثيف"، إذ تطلّب منه مراجعة الجرائم التي تحصل ويبلغ عددها ألف جريمة قتل كل عام، إلى جانب آلاف محاولات القتل الأخرى، ولهذا فهو يرى أنه نجح في مصر في تأسيس أشهر قطاعات الطب الشرعي المتطورّة في ذلك الوقت، لكنها أيضاً "الأكثر انشغالاً"، خاصةً مع الأخذ بعين الاعتبار أن سميث يشير في موضع آخر من مذكراته إلى أن عدد جرائم القتل في بريطانيا كان يبلغ ما يقارب 150 جريمةً كل عام.
ضمن سياق الكتاب، يسترجع سيدني بعضاً من أشهر جرائم القتل التي عمل على كشفها ومنها مثلاً جريمة قتل سردار الجيش البريطاني في السودان في القاهرة، وجريمة ريّا وسكينة التي بدأت وفق قوله بعظمة وحيدة وصلت إلى مختبره من الإسكندرية، ودفعته للذهاب إلى المكان ليكتشف مع الشرطة أربع عشرة جثةً ممددةً "مثل السردين" تحت أرضية غرفة واحدة. اتضح لاحقاً أن جميع الجثث تعود لسيدات أعمارهن بين الثامنة عشرة والخمسين يعملن جميعهن كعاملات جنس.
يذكر سيدني أيضاً الزرنيخ بوصفه أشد أنواع السموم شيوعاً في مصر، ويقول إنه قضى اثني عشر عاماً في القاهرة لم يخلُ فيها يوم من إجراء اختبار بحث عن الزرنيخ في جسد متوفى. إلى جانب ذلك، يذكر الطبيب بذور "التفاح الشوكي" و"الهيبان" كسموم مفضلة كانت تُستخدم من قبل بعض النشالين كمنوّم بعد خلطها بالتمر وتقديمها للمسافرين لسرقة حاجياتهم، لكنها أحياناً كانت تؤدي إلى مقتلهم.
في هذا الكتاب تستوقفنا الملاحظات التي يسوقها الطبيب حول دوافع القتل في المجتمع المصري، فهو يرى أن هناك انطباعاً مغلوطاً عن المصريين بوصفهم "متوحشين" و"قساةً" نتيجة العدد الكبير للجرائم المُرتكبة.
في هذا الكتاب تستوقفنا الملاحظاتُ التي يسوقها الطبيب حول دوافع القتل في المجتمع المصري، فهو يرى أن هناك انطباعاً مغلوطاً عن المصريين بوصفهم "متوحشين" و"قساةً" نتيجة العدد الكبير للجرائم المُرتكبة. لكن المصريين في نظره وبرغم ظروف حياتهم "المروّعة" وفقرهم المدقع، "أناس بسطاء قد يصبحون عنيفين حينما يغضبون".
يعزو سيدني دوافع العديد من الجرائم إلى تعدد الزواجات وانتشار الطلاق، إذ يرى أنه كثيراً ما تقوم الزوجة بمحاولة التخلّص من أبناء ضرّتها كي يستأثر أبناؤها بالميراث. في حين يتطرق سيدني أيضاً إلى الاختلافات الثقافية بين بلاده والثقافة المصرية، فيذكر مثلاً إصرار العائلات المصرية على إعداد طعام الغداء له احتفاءً به كممثل حكومي بارز، برغم أن تناول الطعام بعد دقائق قليلة من معاينة جثة متفسّخة ليس في قائمة تفضيلاته.
كما يورد سيدني سميث، في كتابه حادثةً طريفةً توحدت فيها جهوده كطبيب شرعي مع جهود متقفّي الأثر البدوي الذي استطاع دراسة الآثار على الرمال ونسب آثار الأقدام لأحد المتهمين بجريمة قتل، لتأتي نتائج الطب الشرعي مؤكدةً افتراضه و"دامجةً على نحو مثير العالمَ القديمَ بالحديث".
مصر بعيون النشالين
منذ الصفحات الأولى من كتاب "مذكرات نشال" الصادر عن "دار دون للنشر والتوزيع"، من إعداد وتقديم أيمن عثمان، نجد أنفسنا أمام وثيقة مختلفة تماماً عن مذكرات سيدني سميث الرصينة، من حيث اللغة المستخدمة وطبيعة النص وطرافته؛ فبرغم أن مذكرات النشال تتقاطع زمنياً مع مذكرات الطبيب البريطاني في مصر، لكن الرجلين كما يبدو عاشا ما يشبه الحيوات المتوازية. "مذكرات نشال" هي مذكرات سردها بالعامية المصريّة عبد العزيز النص، أحد النشالين المصريين، على مسامع الصحافي والناشر حسني يوسف، صاحب جريدة "لسان الشعب" التي بدأت بالصدور عام 1924 كجريدة أدبية أسبوعية. تروي المذكرات سلسلةً من المغامرات التي خاضها عبد العزيز النص، خلال عمله، حيث كان يتنكر بأزياء الباشاوات ويتظاهر بأنه من علية القوم كي يسلب الأغنياء نقودهم قبل أن يجمع ما يكفي من المال، ليقرر التوبة ويفتتح دكانه الخاص كتاجر مرموق.
تذكر مقدمة الكتاب أن محرره ومعدّه لم يستطع التأكد مما إذا كان عبد العزيز النص شخصيةً حقيقيةً وُجدت حقاً أم أن الصحافي حسني يوسف قام بابتداعها بالاعتماد على معارفه والتحقيقات التي أجرتها صحيفته حول النشالين في تلك الفترة. لكن النص وبرغم ذلك يقدم صورةً واضحةً عن الأساليب التي يتّبعها هذا النشال وغيره من زملاء المهنة لسرقة الناس وتنظيم الحيل والمقالب للحصول على المال والخروج من الورطات التي قد يقعون فيها. كما يضيء أيضاً على "أعراف مهنة النشل" إلى جانب الخرافات التي يعتنقها مزاولوها، كالامتناع عن النشل سبعة أيام في حال حصول موقف يشي بالشؤم، في انتظار أن يزول النحس ويعود النشال إلى عمله.
من جانبٍ آخر، تتجلى قيمة الكتاب أيضاً في الجهد الذي بذله مُعدُّه لتزويد النص بهوامش تشرح معاني مفردات قديمة خرجت من التداول وباتت عصيةً على الفهم في العامية المصرية الدارجة، إلى جانب تتبع التغيّرات التي طرأت على جغرافيا القاهرة وأحيائها وشوارعها بعد تتبع حركة النشالين والأماكن التي يشيرون إليها في أحاديثهم أو ضمن خريطة حركتهم اليومية.
سيدني سميث وعبد العزيز النص رجلان من خلفيات مختلفة مارسا مهناً متناقضةً، لكن مذكرات الرجلين بصورة أو أخرى تكمل إحداهما الأخرى، وتكشف جوانب غامضةً ومشوّقةً من الحياة في مصر في تلك الحقبة الزمنية
أما القسم الأخير من الكتاب، فخُصص لنشر نماذج من القصص الصحافية الإخبارية التي اعتادت الصحف المصرية على نشرها لتحذير القرّاء من النشالين وحيلهم إلى جانب تعريفهم باللغة الخاصة التي يعتمدها هؤلاء في عملهم؛ كأن يُسمّى النشال الأساسي "السهايرجي"، ومعاونه "البلطجي"، في حين تُسمى الضحية بـ"الكرودية" ويُطلَق لقب "التنبل" على النشال الطفيلي الذي ينتظر غيره ليقوم بالنشل، ومن ثم يبتزه لمقاسمته الغنيمة مهدداً إياه بفضح أمره إن لم يعطِه حصةً من الربح.
كلمة النشال مقابل كلمة الطبيب
في المحصلة، يؤكد هذا النوع من المذكرات على وجود زوايا غنيّة وغير منتهية يمكن منها النظر إلى تاريخ أي بلد خلال فترة زمنيّة ما، فسيدني سميث وعبد العزيز النص رجلان من خلفيات مختلفة مارسا مهناً متناقضةً -بل من غير المستبعد أن يكون أحد ضحايا النشال قد وُجد يوماً على طاولة التشريح في مختبر سميث- لكن مذكرات الرجلين بصورة أو أخرى تكمل إحداهما الأخرى، وتكشف جوانب غامضةً ومشوّقةً من الحياة في مصر في تلك الحقبة الزمنية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون