شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
الحائط الذي حماني من الشفقة

الحائط الذي حماني من الشفقة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والفئات المهمشة

الأربعاء 26 أبريل 202312:40 م

الباب الوحيد لم أطرقه في صغري كان باب الناظر، الباب الذي لو طرقته لكنتُ بكيتُ كثيراً وأصبحتُ شريراً بنظري ونظر ملائكة أحلامي. في سنّ العاشرة، أي بعد مرور عقد على تواجدي في وعي الحياة، بدأتُ أعرف المعنى العميق لكلمة غابة، مدركاً أنّ الغابة قد لا تحتوي على حيوانات بالضرورة بل على ضحايا يتحوّلون إلى حيوانات...

كان ذلك عام 2008، حين دخلت إلى مدرستي الخاصّة الجديدة لأتباع دراستي الابتدائيّة بعد خروجي من مدرسة الراهبات-صور، حيث القوانين الأفلاطونيّة والتلاشي للغة العربيّة، حيث الضحك على مين يتبوّل تحته، والضرب للتسلية أو التجنيّ، كما حدث حين كتبت إحدى الرّاهبات الحلبيّات صفعتها القاسية على خدّي دون أن تسمع مرافعتي عن ذاتي. كنت أصرخ بخفوت: "والله يا soeur مش أنا"، لم تقتنع طبعاً أن نبيل سيكون أعجز من ضرب تلميذ يفوقه حجماً، كون إحدى المعلمات ذات مرّة وصفتني بالحيّة تحت التبن لمجرد أني ضحكتُ بصوتٍ عالٍ.

بهذا المناخ المتطرّف ذهبتُ إلى مدرستي الخاصّة الجديدة في الريف في قرية أسمها البازوريّة، ولم يكن أمامي، كي أتجنّب الخطر سوى المحافظة على طقوسي القديمة التي صارت عبئاً عليّ، فحين قلتُ مرّة لمعلمة اللغة الفرنسيّة: "je peux passer au toilette"، ضجّ الضحك في الصفّ كأني قلتُ نكتة أو أجبت عن سؤال سطحيّ بطريقة خاطئة.

كانت عشر سنوات من عمر لم ينقضِ بسرعة، والجدار هو صديقي الوحيد، يحميني من الشفقة ويحميهم من الطرد أو الأذى. كنتُ أحبّهم رغم ما يحصل لباطني وظاهري... أقنعوني بأنّي خلقتُ لأضرب وخلقوا ليضربوني

كان عليّ أن أبقى ساكتاً، ألحق الطلبة بدلاً من أن يلحقوني، كان صديقي (ح.ح) يتمتع بنفس الصفات التي أتمتع بها لكنّه كان محبوباً أكثر منّي، وحتّى الآن أسأل نفسي: "هل أثر الشجر في عينيه الخضراوين الكبيرين هو السبب؟ هل علاماته التي تفوق علاماتي بقليل هي السبب ؟ ما هو السبب؟ هل يتقن الصمت أكثر منّي؟".

لم أكن أعرف ولم أكترث. اعتبرتُ أن كل ذلك سيمضي وسأخرج من شرنقة الوحدة بشكل أو بآخر، حتّى بدأتْ النغمة الجديدة تتردّد على مسمعي: "نبيل طويل مربّع مستطيل"، كم تضحكني هذه العبارة الآن وكم آلمتني في صغري، لم أجد نافذة أطير من خلالها نحو من يحميني.

الكبار يقولون لي: "ترفّع..."، والكلمة أثقل من فهمي من ناحية المعنى، وبعضهم يسألني بخبث وتفاهة: "شو كيف الطقس عندك؟". كنت أشعر برغبة جامحة بركل أو لكم هؤلاء جميعهم، لكنّي لم أبكِ... أوّل دمعة سقطت حين استبعدني (م.س) الذي أصبح الآن مهندساً في أوروبا، من تشكيلة الفريق المدرسي لكرة القدم، بكيت كثيراً أمام أبي. قلتُ له: "أمي حين تغضب مني على حقّ، أنا فاشل وطويل وهبيلي"، لم أصدّق رسالة أبي وقتها: "ما تفكر انك فاشل، أنت الك مستقبل كبير". لم أصدقها الا الآن، حين بلغت السادسة والعشرين...  بكيتُ وصدقتُ أن طولي وكرههم لطولي هو السبب، بكيتُ ونسيتُ الى أن برزت مشكلتي الدراسيّة عام 2009، وبدأت الحرب على جسدي حين صعدت الى اللوح ولم أحسن حمل البيكار الخشبي.

صرخت معلمة الرياضيات في وجهي: "شو هيدددددددا!!!"، وضحكوا كلّهم، وجسدي اهتزّ وارتعش، ولم أسمع صوت أبي بأني لست فاشلاً، بل كانت أمواج قهقهاتهم تنتهك شواطئ مسمعي... ولم أستطع البكاء...بدأ صدري يغلي والأدرنالين يعلو ويهبط كأنّه بخار يريد التحرّر وصدغاي على وشك الانفجار...كأنّ دمي مجرد مياه آسنة لا تستحق التكرير...

نزلتُ من الصف وكان نهار الجمعة، واذ بقدم تفرض نفسها على خطواتي، وانهالت اللكمات على راسي وجسدي، وجرجرني (م.س) و (ع.ط) و(ع.ش) و(ح.ب) الى صف مهجور، أقفلوا الباب وبدأت الضربات على خصيتيّ ووجهي وبطني، والاتهامات الباطلة تأكلني.

كلّهم كانوا يصفعوني ولم أجد جداراً يحميني، يبدو أن جدران العمر تحمينا حين نبقى أوفياء لضعفنا

كانوا يتسلّون بي كل يوم عند نهاية الدوام "بالسحاسيح " ونفس النشيد "نبيل طويل مربع مستطيل"،  الى أن اقتربت من الباب وأحسنت الهروب، واختبأتُ خلف جدار الملعب ورجوتهم بنظراتي أن يضربوني خلف الجدار، كيلا يراني أبي أو الناظر ويتم أذيتهم وتنهال الشفقة عليّ...

كانت عشر سنوات من عمر لم ينقضِ بسرعة، والجدار هو صديقي الوحيد، يحميني من الشفقة ويحميهم من الطرد أو الأذى. كنتُ أحبّهم رغم ما يحصل لباطني وظاهري... أقنعوني بأنّي خلقتُ لأضرب وخلقوا ليضربوني.

وذنبي الأكبر أنّي خلقتُ لأصمت... خلقتُ لأتلقّى الأصوات العالية، ولم أستطع الدفاع عن نفسي إلّا حين كبرتُ قليلاً وصرتُ شبيحاً لمدّة سنتين مثلهم، صرتُ زميلهم ولم أصبح قائدهم الرسمي رغم تفوّقي عليهم.

تعوّدوا عليّ وبدأت أتعوّد على الفراق القائم بيني وبين الجدار، خنته بشجاعتي، فانتقم منّي حين بدأ حبّ الشباب ينبت في جبهتي، وبدأ النشيد الساخر منّي مطعّماً بنكات جنسيّة تضحك كلّ من حولي، كانوا يسخرون من ضعفي ولم أجد في عيونهم متعاطفاً، فركب الفشل جسدي، وأنا أظن أن كل شيء سيمضي، ولم يكن يمضي سوى يوم آخر من أيّام طفولتي المفروض أن تكون هادئة.

كلّهم كانوا يصفعوني ولم أجد جداراً يحميني، يبدو أن جدران العمر تحمينا حين نبقى أوفياء لضعفنا.

وانا أختم مدونتي يحضرني صوت وردة: "بحبّك والله والله بحبّك"، وأسأل نفسي: هل هو صوت الجدار القديم الذي أظهر وهني لأنمو مجدّداً قويّاً؟ أم هو صوت امرأة ستحبّني رغم عدائيتي ومزاجيّتي وعدم قدرتي على اتقان لغة مجتمع زئبقيّ السلوك والمزاج.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نؤمن في رصيف22، بأن بلادنا لا يمكن أن تصبح بلاداً فيها عدالة ومساواة وكرامة، إن لم نفكر في كل فئة ومجموعة فيها، وأنها تستحق الحياة. لا تكونوا زوّاراً عاديين، وساهموا معنا في مهمتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image