شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"نتنفس التنمر كالهواء"... يوميات "مختلفين" في الشكل والطول والبشرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 11 أكتوبر 202003:43 م

لا يختار المرء شكله حال ولادته ولا يولد الجميع بنفس الشكل، وهذا بديهي. لكن المؤسف أن من يولد بجسم خال من العيوب يعطي لنفسه الحق بالتنمر على من خلق بتشوّه أو مرض ما، فتقبل الآخر كما هو بات شبه حلم في المجتمع التونسي، رغم محاولات الإصلاح والتوعية، التي غالباً ما تبقى مجرد نظريات لا تطبق على أرض الواقع وفي الحياة اليومية.

يقاسي المختلفون الذين يعانون من "تشوه" في أجسامهم، أو بالأحرى اختلاف عن المعايير السائدة لأجسامنا ووجوهنا، سواء أكان خلقياً أم بسبب مرضٍ معين أو حادث، من نظرات الناس الغريبة ومعاملتهم القاسية أينما حلوا وارتحلوا، قد تصل أحياناً لحد العنف، وكأنه "واقع اجتماعي" على كل واحد منهم التكيف والتعايش معه.

"ابتعد سيأكلك الغول"

تسبب بعض الأمراض تشوهاً في الجسم والوجه، كالبهاق أو "البرص"، وهو مرض مناعي أعراضه الوحيدة بقع بيضاء اللون على الجلد، ويظهر غالباً في الوجه واليدين، وهو ليس معدياً كما يعتقد البعض، ذاك الاعتقاد الخاطئ الذي يمنح للبعض مبرراً للتنمر على المصابين به.

تقول ليلى (25 عاماً) طالبة من تونس: "أصبت بالبهاق منذ سنتين تقريباً، حيث ظهرت أول البقع البيضاء على وجهي ويديّ، ثم انتشرت في كامل جسمي. لا أخفيك سراً أن حالتي النفسية تعكرت حينها، حتى إني انقطعت عن الدراسة لمدة شهرين، ثم عدت بتشجيع من العائلة، لكن ما راعني أن معاملة صديقاتي لي ليست كالسابق".

"تخيلي أن صديقتي المقربة اعتذرت عن مصافحتي، أحسست بوجع لا يوصف، فالذنب ليس ذنبي، ثم إن مرضي عادي وغير معدٍ، ولا يستحق كل الاشمئزاز الذي أراه في عيون المحيطين بي"

"تخيلي أن صديقتي المقربة اعتذرت عن مصافحتي"، تضيف ليلى، تخنقها دموعها: "أحسست بوجع لا يوصف، فالذنب ليس ذنبي، ثم إن مرضي عادي وغير معدٍ، ولا يستحق كل الاشمئزاز الذي أراه في عيون المحيطين بي".

يحكم الناس على هؤلاء "المختلفين" حسب أهوائهم، حتى وإن كان "اختلافهم" بسبب مرض أصابهم أو ولدوا به، دون أن يفكروا فيما قد تسبّبه نظرة أو كلمة جارحة في نفوس هؤلاء، تماماً مثلما حدث مع سعيدة.

تقول سعيدة (45 عاماً)، ربة بيت: "ولد ابني بمتلازمة داون أو متلازمة الحب كما يسمونها، لكن نظرات الناس عندما أخرجه إلى الشارع لا يوجد فيها حب مطلقاً، فهي أقرب إلى الاشمئزاز وبعض الشفقة أحياناً".

تروي سعيدة لرصيف22 كيف منعت أم ابنها في الحديقة العمومية من اللعب مع ولدها. اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقول: "لقد قالت له بالحرف الواحد: ابتعد، غول سيأكلك، وأخذت ابنها وابتعدت".

"التنمر كالهواء"

يطلق لقب أطفال القمر على المرضى المصابين بمرض جفاف الجلد المصطبغ، وهو مرض وراثي نادر، يحتم على المصاب به عدم التعرض لأشعة الشمس، فيضطر للخروج ليلاً أو ارتداء لباس خاص به يقيه من الأشعة فوق البنفسجية ويشبه النقاب، ما يدفع المصابين به للتوضيح دوماً سبب ارتداء ذاك اللباس للناس، منهم من يتقبل الموضوع ومنهم من يضحك ساخراً.

تقول مريم (22 عاماً) طالبة من أطفال القمر في تونس: "التنمر أصبح كهواء أتنفسه باستمرار، فمنهم من يقول: لماذا ترتدين زي الأشباح، وأخرى تخيف أولادها بي إذا تشاجروا، وآخر يلقبني بالخفاش، وغيرها الكثير من الكلمات الموجعة. لا ذنب لنا سوى أننا مختلفون عنهم".

أما سندس (45 عاماً)، متخرجة من كلية التجارة، فقد ولدت هي الأخرى بـ"تشوه خلقي" في وجهها، وهو عبارة عن بقعة حمراء كبيرة تغطي نصف وجهها تقريباً، تقول إنها تتعرض للتنمر منذ الطفولة، بسببه تروي لرصيف22 كيف تقدمت لوظيفة وقبلت سيرتها الذاتية، لكن عند لقاء مدير العمل اعتذر منها، وقال بالحرف الواحد: "آسف لكن الجمال أيضاً مهم في شخص سكرتيرة الاستقبال"، تضيف سندس: "نزلت كلماته علي كالصاعقة. أصبت بإحباط وانزويت بالبيت لأشهر، ولم أبحث عن عمل منذ تلك اللحظة، خشية أن أتعرض لنفس الموقف".

اختلافي سر نجاحي

يحكم البعض على الآخرين حسب مظهرهم الخارجي دون سابق إنذار، ويرشقونهم بوابل من النظرات والعبارات القاسية، وهم لا يعلمون أن الجسد  الذي يرونه "مشوهاً" بإمكانه أن يحمل روحاً جميلة، والعكس صحيح. فبعض من يحملون "تشوهات خلقية" ناجحون في حياتهم الأسرية والعملية، على غرار لمياء حكيم (27 عاماً)، بنت القمر، تحصلت على الدكتوراه في مجال علم الجينات والوراثة، ولم توقفها عبارات التنمر عن التميز في دراستها وتحقيق أحلامها، وقد تقلدت دور البطولة مؤخراً في الفيلم التونسي "بنت القمرة".

أما ريما عبدلي (33 عاماً)، فهي شابة تونسية ولدت بضمور في الأطراف، وهي حاصلة على بطولة العالم في رمي الجلّة، وقد تحصلت على الميدالية الذهبية خلال بطولة العالم لألعاب القوى لندن 2017.

"يقولون أنظروا امرأة صغيرة، ثم الكثير من الضحك والهمسات".

تقول ريما لرصيف22: "بما أنك مختلف عنهم، ستتعرض للتنمر بغض النظر على طبيعة الاختلاف في الشكل أو الفكر أو حتى النطق، وعن تجربتي، بما أنني ولدت قصيرة القامة، فغالباً ما أسمع عبارات مثل قزمة، أو أنظر امرأة صغيرة، والكثير من الضحك والهمسات... لكن لا أعيرهم اهتماماً، حتى إن أمي قالت لي يوماً أتمنى أن أملك أذنيك في الخارج، لأنني لا أعير كلام الناس أهمية. ثم أني أشفق عليهم لأنني أفضل منهم ويتمنون أن يصلوا إلى ما وصلت إليه".

وترجع ريما سبب قوة شخصيتها إلى عائلتها وأقاربها والمحيطين بها، فأسرتها دعمتها منذ الصغر، وآمنت بموهبتها حتى وصولها لبطولة العالم الذي حلمت به. وتنصح ريمة المختلفين بقبول اختلافهم أولاً، لكسب ثقة عالية بالنفس ترتقي بهم درجات في سلم الحياة، بعيداً عن الجانب السلبي المظلم.

"التنمر أصبح كهواء أتنفسه باستمرار، فمنهم من يقول: لماذا ترتدين زي الأشباح، وأخرى تخيف أولادها بي إذا تشاجروا، وآخر يلقبني بالخفاش، وغيرها الكثير من الكلمات الموجعة. لا ذنب لنا سوى أننا مختلفون عنهم"

يعلق رضا الباهي، أخصائي في علم النفس الاجتماعي، لرصيف22: "التنمر ظاهرة خطيرة منتشرة بكثرة داخل مجتمعاتنا، فالمختلف يجد صعوبة في التأقلم والاندماج في المجموعة، بسبب العبارات والنظرات التي يواجهها يومياً، وهو ما يعمق أزمته النفسية وينتج عنها انزواء وتجنب الاختلاط بالآخرين، فقدان الشهية وإهمال المظهر الخارجي، وتصل أحياناً حد الانتحار، وهنا يكمن دور العائلة التي يجب أن تربي طفلها المختلف على قبول اختلافه أولاً، وتعزيز ثقته بنفسه، كتكليفه ببعض المسؤوليات داخل الأسرة حتى وإن كانت بسيطة، وهو ما يخلق لديه الشعور بالقيمة، وبالتالي يخرج للمجتمع بشخصية قوية، ويستطيع ردع كل متنمر والدفاع عن نفسه".

ويضيف الباهي: "لدينا مشاكل تعليمية تربوية بالأساس، فالتنمر منتشر جداً داخل المدارس، بسبب غياب التوعية وعدم تدريب المعلمين على حل المشاكل بين الطلاب بطريقة تربوية عادلة، وعدم التمييز بينهم خلال الدرس. فمجتمعنا تنقصه ثقافة تقبل الآخر كما هو، وهنا يكمن دور المؤسسات التربوية ووسائل الإعلام التي لها دور كبير في غرس تلك الثقافة داخل الناشئة والمجتمع ككل".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image