جلس مع أسرته يشاهد عرضًا مسرحيًا ما وسط قهقهات متوسطة من الجميع إلى أن حضر إلى خشبة المسرح النجم الكوميدي المنتظر، لم تكن نجوميته بسبب موهبته العظيمة أو الأداء المميز، لكن بضعة كيلوغرامات زائدة جعلت منه مادة للسخرية ونجمًا كذلك، بدأ في الركض هنا وهناك فتعالت قهقهات الأسرة سوى فرد واحد ظل يتابع المشهد في إحراج بالغ، لا يدري متى ستنتقل إليه أنظار باقي أفراد أسرته حتى يدركوا أنه قد يُصبح نجمًا لامعًا ذات يوم، فعلى كل حال هو أيضًا يمتلك الكثير من الكيلوغرامات الزائدة، ربما حتى تتخطى تلك التي يمتلكها الممثل الذي وضعه وزنه الزائد في مصاف النجوم، ووضعت نجوميته جميع نظرائه من أصحاب الأوزان الزائدة في مأزق التنمر.
وبما أن نجمنا يتقبل السخرية بكل أريحية وسعة صدر، فلم تجد الأسرة حرجًا في إعلان سعادتها بما يدور على خشبة المسرح، فالمعادلة بسيطة، أحدهم يُصبح تسلية مقابل أجر معقول وشهرة مقبولة، مُخلفًا وراءه العديد من الضحايا الذين لن ينالوا أي أجر ولكن ستلاحقهم تلك "الأفيهات" التي سخر بها المؤلف من الممثل صاحب الوزن الزائد. من يدري ما هو شعور المُشاهد البدين؟من يدري ما هو شعور المُشاهد البدين؟ الإجابة ببساطة أنني قد قضيت قرابة الـ 21 عامًا أحمل وزنًا وصل إلى 115 كيلوغراماً قبل أن أخسر منها أكثر 40 كيلوغرام وأستقر على الرقم 70، وأستطيع أن أُجزم بما لا يدع مجالًا للشك، أن في كل مرة كنت على وشك قضاء سهرة عائلية أمام التلفاز خلال الـ 21 عامًا، طاردني الارتياب من أحد تلك المشاهد الساخرة من أصحاب الوزن الزائد، وأنا أضع نظرات المحيطين بي في محل الاعتبار، ومن ناحية أخرى أنتظر تعليقًا لاذعًا من والدي، وبالطبع كلما كان "الأفيه" أشهر زادت معاناتي وسط الأصدقاء والنتيجة المنطقية بالنسبة لي كانت الاحتماء بالمنزل والغياب عن جميع المظاهر الاجتماعية لتجنب ذلك، وللعلم لم تكن سخرية البعض من وزني الزائد مصدرًا حماسيًا لي يدفعني إلى التغيير، نعم لا أنكر أن هذا يحدث للبعض وقلب السخرية إلى وقود لإرادة التغيير، ولكن ذلك لا يحدث مع الجميع، فقد انتظرت أعواماً عديدة حتى شاهدت تلك السيدة الكبيرة في السن بداخل محطة القطار، كانت تحمل "قفة" تبدو ثقيلة مليئة بالأطعمة على رأسها وترتدي عباءة غير مخصصة للركض بكل تأكيد، ولكن ها هي تركض لتختار العربات المجانية في القطار المتحرك وتنجح في ذلك، بينما وقفت أنا لا حول لي ولا قوة دون محاولة تقليدها واخترت الانتظار 3 ساعات كاملة على رصيف المحطة حتى موعد القطار التالي لأنني لم أستطع الركض، تلك الساعات الثلاث كانت السبب الوحيد في أن أقرر خسارة هذا الوزن الذي رجح كفة السيدة على كفتي وأنا شاب في عمر 21 عامًا.
فالمعادلة بسيطة، أحدهم يُصبح تسلية مقابل أجر معقول وشهرة مقبولة، مُخلفًا وراءه العديد من الضحايا الذين لن ينالوا أي أجر ولكن ستلاحقهم تلك "الأفيهات" التي سخر بها المؤلف من الممثل صاحب الوزن الزائد.
أستطيع أن أُجزم بما لا يدع مجالًا للشك، أن في كل مرة كنت على وشك قضاء سهرة عائلية أمام التلفاز خلال الـ 21 عامًا، طاردني الارتياب من أحد تلك المشاهد الساخرة من أصحاب الوزن الزائد، وأنا أضع نظرات المحيطين بي في محل الاعتبار، ومن ناحية أخرى أنتظر تعليقًا لاذعًا من والدي.
فبينما يُمكننا الاتفاق على أن الضحية واضحة وهي ملايين المُشاهدين ممن يتعرضون للتنمر بسبب وزنهم الزائد أو النحافة أو طول القامة.. إلخ، فإن تحديد المتهم أكثر تعقيدًا بعض الشيء، هل هو مؤلف النصوص التي تسخر من معاناة الناس؟ هل هم الممثلون الذين يُطلقون تلك الدعابات المُسيئة؟
جواسيس التنمر
في القضية عدة أطراف، فبينما يُمكننا الاتفاق على أن الضحية واضحة وهي ملايين المُشاهدين ممن يتعرضون للتنمر بسبب وزنهم الزائد أو النحافة أو طول القامة.. إلخ، فإن تحديد المتهم أكثر تعقيدًا بعض الشيء، هل هو مؤلف النصوص التي تسخر من معاناة الناس؟ هل هم الممثلون الذين يُطلقون تلك الدعابات المُسيئة؟ هل الجماهير التي تتفاعل بقوة يُمكن الزج بها إلى قفص الاتهام؟ سأجيب عن ذلك بنعم، ولكن ليس قبل إفساح مجال واسع داخل القفص لجواسيس التنمر، هؤلاء الذين وافقوا على تلقي الدعابات المسيئة وقابلوا السخرية بالضحك حتى أصبحت مهنتهم كلها تعتمد بشكل أساسي على وزنهم الزائد أو نحافتهم المُفرطة أو صف أسنانهم غير المستقيم، وبالطبع تلقوا أجر ذلك الكثير من الأموال مما يجعل تهمتهم مزدوجة، قبول الإهانة والتربح منها.
أعتقد أن لكل منا قائمة مطولة تضم بعض الأسماء التي يُمكن إضافتها كجواسيس للتنمر، الممثلة ويزو وحمدي الميرغني من عروض مسرح مصر أحد أخطر الجواسيس من وجهة نظري، لماذا؟ لأن جمهور تلك العروض عائلي بشكل كامل وعروضهم تجتذب الفئات العمرية الأقل سنًا، مما يجعلهما مسؤولين عن تربية جيل جديد يؤمن بأن التنمر حق، وأن السخرية وإهانة الغير مجرد أوقات سعيدة، مُستخدمًا في ذلك نفس العبارات التي أُلقيت على مسامعهم في أحد تلك العروض، وكذلك محمد هنيدي الذي يستغل حتى أدوات الوسائل الاجتماعية في السخرية من قصر قامته ويُمكنك فقط متابعة التعليقات على مثل تلك المنشورات لتُدرك حجم التأثير الواسع الذي سببته، فالجميع يبدأ مباشرة في ذكر صديق له أو أكثر في تعليق على المنشور حتى يقرأ أو يرى إهانته بنفسه. وقبل أن أُكمل فأنا أدعو الجميع إلى كتابة اسم واحد على الأقل في تعليقات المقال من أسماء (جواسيس التنمر) حتى يُعيد البعض حساباتهم مُجددًا، والحديث هنا عن صُنّاع الأعمال الفنية والممثلين والجمهور على حد سواء.
في الواقع هذا النمط من الاستخدام السيء للكوميديا لم يقتصر فقط على شاشاتنا العربية، فكثيرًا ما نجد أحد الممثلين من أصحاب البشرة السمراء في هوليود ينعت الآخر بلفظ "زنجي" الذي يعود لعصور العبودية، وبما أن القائل والمُستقبل من أصحاب البشرة السمراء، فقد لا يجد البعض حرجًا من الضحك على تلك النكتة، وكذلك ما يحدث بين دواين جونسون وكيفن هارت من سخرية متبادلة تجاوزت الحد، خاصة من التنمر ضد كيفين هارت بسبب قصر قامته، وقد يرضى كيفين بذلك أو حتى يسعى إليه، ولكن هذا لا يعني بأن التنمر أصبح مقبولًا، فالتأثير أبعد من ذلك بكثير، وحتى لو قرر كيفين تقاسم العائد المادي من نجوميته مع بعض قصار القامة في سبيل تعويضهم عن التنمر الذي سيطالهم بكل تأكيد، فمجرد رفض شخص واحد أن يتلقى إهانة في مقابل المال يجعل الاتفاق برمته ملغى وغير مقبول، والتنمر تنمر سواء كان من شخص نحيف أو سمين أو قصير أو طويل أو أحد ألمع النجوم العالميين.
في الفترة الماضية بزغ نجم أحد مشاهير السوشيال ميديا حاليًا بصورته فقط، لن أذكر الاسم حتى لا أعينه على ما يفعله ولكن بشكل عام بدأ الجميع في وضع صورة هذا الشخص بملامح رجل كبير وجسد طفل صغير على هيئة "كوميكس"، ثم بعد ذلك بدأ البعض في الامتعاض ضد هذا الفعل بدعوى أن الرجل يُعاني من خلل في النمو، ويجب أن لا يُصبح مثارًا للسخرية، لكن ذلك الامتعاض انقلب إلى رضا حينما علم الجميع أن الرجل هو من يقوم بنشر تلك الصور والمقاطع الساخرة من ملامحه بنفسه وأنه مدُوّن شهير في تلك النوعية، وكما هو حال نجوم المسرح والسينما والتلفاز، فالأمر ينطبق على مشاهير السوشيال ميديا أيضًا، أن يتقبل الرجل الإهانة أو يسعى إليها من أجل الشهرة، فهذا لا يعني أن على جميع من يعانون من خلل في النمو استقبال النكات التي بادر النشطاء في إطلاقها صوب رجلنا الشهير، سواء عبر قراءتها على صوره هو أو استخدام البعض لها تجاههم في واقعهم.
ختامًا، لا أدعو إلى مدينة فاضلة أو إلى التخلي عن مصادر البهجة بحساسية مُفرطة، لكن التاريخ يخبرنا أن كل تنمر مرفوض اليوم كان في يوم من الأيام فعلًا عاديًا يدخل البهجة إلى قلوب الجماهير، فبسبب البشرة كان الرجال السُمر يتقاتلون من أجل رهانات مالكيهم وسُمي ذلك منافسة، وبسبب العِرق أُلقي العديد من الرجال إلى ساحات القتال ضد الأسود والنمور من أجل تسلية الملوك وسُمي ذلك رياضة، ربما وقف حينها أحدهم ليُخبر الناس أن احتفال المقاتل الأسمر الفائز أو صيحة البطولة التي أطلقها أحد الرجال بعد تغلبه على الأسد ليست حُجة للاستمرار في فعل هذا، وبالتأكيد نظر الكثيرون إلى من أخبرهم بذلك بنظرة قاتل البهجة أو صاحب الحساسية المُفرطة، والآن الجميع يرى أن تلك الممارسات كانت حقًا أمرًا شنيعًا، لذا فعلينا أن نبدأ في خطواتنا نحو عدم تقبل ما يقدمه جواسيس التنمر في عصرنا الحالي وانتظار أن يتحول الأمر تدريجيًا إلى حالة ازدراء عامة تجاه من يرى أن التنمر حق طالما استمتع الطرف المعرض للتنمر بذلك، فقط كرر محاولات إيقاف ضحكاتك في المرات القادمة، ومع مرور الوقت سوف تُصبح غير قادر على الاستمتاع بسيرك المتنمرين هذا، ومع مزيد من الوقت سينفض الجمهور ويغلق السيرك وننتصر مجددًا في معركة متكررة ضد التنمر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.