شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الدراما السورية... صورة البلاد الطاردة للأكراد

الدراما السورية... صورة البلاد الطاردة للأكراد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والفئات المهمشة

الأربعاء 5 أبريل 202302:43 م

في أفضل حال ممكن، تتشكّل القومية الكردية في الدراما السّورية بوصفها مادة استهلاكية للسّخرية، من خلال حشو مواطن كردي في المشاهد الدرامية، لا يجيد التحدّث باللغة العربية، عنيد لا يتنازل عمّا يتحدّث به، لاجئ يعيش في عشوائيات ويكافح في أن يصير مدنياً بتعريف الدراما السّورية للمدنية؛ أو إظهار المدن الكردية أقصى البلاد، بوصفها منافي عقابية. ثمّة تشييء للكرد في دراما ما بعد الثّورة، إظهارهم كونهم موجودين، كما يريد النظام السّوري إيجادهم، وكما يُحدّد حجم وجودهم، بحجم وجود قضيتهم في البلاد، في وجهة النظر ذاتها.

المجتمعات الهامشية في الدراما السّورية، لا تقتصر على الأكراد بطبيعة الحال، وما يتضمّنها من طرح تلك المجتمعات بشكل هزلي ساخر؛ فالمجتمع الشّاوي يتم طرحه بالمشهدية ذاتها، من خلال طرحه كبدوي متخلّف، لا يستطيع أن يعيش في العاصمة، دمشق، غير متفهّم لحياة المدينة ولا يستطيع أن يُغادر خيمته، فضلاً عن تحويل لهجته المحكية إلى أداة للسخرية.

هذا ينطبق على اللهجة الحلبية التي استُخدمت في الكثير من الأحيان بوصفها مادة للكوميديا، إلى جانب القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية التي يمتلكها أبناء هذه المجتمعات المهمّشة، والتي يُسخر منها، كي لا تكون سوريا، لهجةً ومدنيِة، سوى دمشق التي تختزل الدراما السورية كُلّها بداخلها، وباقي سوريا هو ريف طَرَفي للعاصمة، فضلاً عن مجتمعات كاملة لم يرد ذكرها في الدراما قبل الآن؛ كالأرمن والسريان والآشوريين والتركمان، وكأن البلاد لا تحتويهم.

في الحالة الكردية التي هي نقاشنا في هذه المقالة؛ ربّما ثمّة قدرة على خلق المُبرّر لصنّاع الدراما السّورية، كونهم لا يستطيعون أن يتحدّثوا عن القضية الكردية، مستواها وأهميتها في سوريا، وما يتعرّض له أبناؤها، في ظل غياب تام للحرّية السياسية في البلاد، وسيطرة الحزب الواحد والفكرة الواحدة على سوريا، والقمع والاستبداد اللذين يمارسهما الطغيان على كلّ مجالات الحياة، وهذا الأمر ينعكس على واقع الدراما السورية كلها، التي لا تناقش أي قضية سياسية أو اجتماعية في سوريا، وكلّ موادها النقدية مخترلة بموظّف فاسد وضابط ارتكب انتهاكاً، ومؤسّسة لا تقدّم الخدمات للمواطنين، وتبقى الطبقة الأبرز في الاستبداد عصية عن أن تَظهر والطبقات المتعرّضة للاستبداد غائبة، إلّا بما يشاء النظام أن يُظهرهم.

المجتمعات الهامشية في الدراما السّورية، لا تقتصر على الأكراد بطبيعة الحال، فالمجتمع الشّاوي يتم طرحه كبدوي متخلّف، فضلاً عن مجتمعات كاملة لم يرد ذكرها في الدراما قبل الآن؛ كالأرمن والسريان والآشوريين والتركمان

لذا يمكن القول بأنّ صنّاع الدراما، بصورةٍ ما، يُترجمون ما أرادته السلطة الحاكمة وجوداً للكرد في سوريا، السلطة القائمة على حشو الأكراد في البلاد بالإكراه، وتحويلهم إلى مجتمع ثانوي، لا ينفكّ عن المجتمع الرئيسي الحاكم، هي الدراما السّورية التي يظهر فيها الفرد الكردي حشواً في المشاهد، دون سياق درامي، ودون فكرة واضحة عن سبب وجوده؛ كأن تكون: ثمّة أكراد أيضاً، لكنهم هنا في هذه القيمة الممنوحة فحسب.

ثمّة زمنان للظهور الكردي في الدراما السّورية؛ أوّله الظهور المكاني الذي كان حاضراً قبل الثّورة السّورية. كان النظام السّوري يتعامل مع المنطقة الكردية في سوريا بوصفها منفى عقابي. في مشاهد متعدّدة، بحوار ثابت، يُعاقب الموظّف الفاسد بالنفي إلى القامشلي، إلى منفى سوريا، حيث حياة اللامدينة واللاحضارة، حياة التخلّف والبداوة والخيم، وطرقات الوحل، بعيداً عن سوريا، سوريا المُختزلة بالعاصمة.

في الزمان الثّاني، مرحلة ما بعد انطلاقة الثّورة السّورية، ظهر مواطنون أكراد في المسلسلات بشكل مفاجئ ولافت، مواطنون يعيشون في أحياء نائية في دمشق، يتحدّثون بعربية ركيكة، ويعزفون على البزق، ويعشقون فتاةً من دمشق، لكنّها لا تستطيع أن تكمل معهم الحياة بسبب الوضع المادي، لكن هؤلاء الأكراد جزء من النسيج السّوري كما يصنعه النظام السّوري. يتطوّر هذا الحضور إلى استحضار الصّور النمطية الّتي روّجت في المجتمع السّوري وصارت سمة يُعرّف بها الأكراد، كتلك العبارة الشّهرية "تنا تنا"، أو التأتأة اللغوية.

ليس ثمّة وجود لجماعة بشرية اسمها الأكراد في الدراما السّورية؛ هم غير موجودون بمعناهم السياسي أو الاجتماعي أو الثّقافي. وجودهم مكثَّفٌ بوجود عدد من الأفراد الطارئين على حياة العاصمة دمشق، دُخلاء بكلّ المعاني الممكنة تعريفاً. أفراد حضروا إلى العاصمة، أو إلى المَدنيِة بوصف أكثر دقّة، تعلّموا العربية بهشاشةٍ كبيرة، يسعون لأن يكونوا مدنيين، يتمتّعون بمزايا الحضارة كما تطرحها العاصمة وغالباً ما يفشلون في ذلك.

النمطية المكثّفة لأكراد في هذه الدراما، تطرح العاصمة ككيان يشمل سوريا ككل، ويطرح الأكراد كلاجئين فيها؛ هو فرع من فروع التعريف البعثي للأكراد المقسّم إلى أجزاء متعدّدة، أبرزها أنّهم لاجئون قرويون، سكّان الجبال والخيام، غير مندمجين بشكل كاف في الهوية القومية العربية، التي تنطلق من اللغة كمدخل رئيسي لتعريف العروبة، ناهيك عن النمطيات الاجتماعية الأُخرى، الّتي تحوّل مساعي الحقوق القومية والتمسُّك بها إلى صورة نمطية للتقليل من شأن هذه الجماعة.

في زمانٍ غير معلوم، سادت الصورة النمطية عنهم بأنهم عنيدون، وباتت تُطلق على كلّ الأكراد. غالب الأمر أن هذه الصورة النمطية ظهرت في النقاشات السياسية والثّقافية التي كانت تجمع بين الأكراد وشركائهم المفترضين في سوريا

في زمانٍ غير معلوم، صار الأكراد أُناساً عنيدين، سادت هذه الصّورة النمطية عنهم، وباتت تُطلق على كلّ الأكراد. غالب الأمر أن هذه الصورة النمطية ظهرت في النقاشات السياسية والثّقافية التي كانت تجمع بين الأكراد وشركائهم المفترضين في سوريا، ذلك أنّ ثمّة تمسّكاً كبيراً بالهوية القومية لدى الأكراد، في اللغة والتمايز الثّقافي والمشروع السياسي والطروحات الفكرية، بمقابل تمسّك شديد على دمجهم بهوية الأغلبية السكّانية، من خلال خلق الوهم القائم على الفهم اللغوي، والاشتراك الاجتماعي بالعادات والتقاليد، حتّى صار رفض الأكراد يُسمّى "تنَا تنَا/ بمعنى لا لا، أو لا يوجد لا يوجد"، كما ظهر في مُسلسل "النّار بالنّار"، بالدور الّذي تمثّله الفنّانة السّورية كاريس بشار، وللمفارقة تشير العديد من المصادر أنّ الفنّانة نفسها من أصولٍ كردية.

من نافل القول إنّ الدراما السّورية، في حالةِ الأكراد، تعكس حقيقةً شبه شاملة للوجود الكردي ضمن المجتمع السّوري، وجود معرفة الآخر المختلف بهذه القومية؛ فغالباً ما يكون الكردي في المجتمع السّوري اسمه: شيرو أو جوان، وفي حال التغزّل به يسمّى جيجاك (اللفظة العفرينية للزهور)، إلى جانب عوائل الواو الكردية، فكلّ الكرد في المجتمع السّوري هم من عائلة تنتهي بحرف "الواو"، والّتي نسمّيها لدينا "الواو الكردية للمفردات".

هذا تماماً ما يُقرأ به الكرد في الدراما، هؤلاء هم الظاهرون في المسلسلات، دون أن نتناسى العزف على البزق، أو الحديث بلغةٍ عربيِة ركيكة؛ المؤنّث مذكّر، والمذكّر مؤنّث، والمفرد جمع، وكلّ القواعد العربية معاكسة في لغة الكردي الظاهر في مشاهد محدودة، دون خط درامي واضح لأسباب وجوده، ودون أيِ معنى لظهوره، سوى أن يُصدِّر صُنّاع الدراما، ومن خلفهم أجهزة النظام السّوري، الكرد، بهذا الوجود الهشّ.

لا تستطيع الدراما السّورية القول بأن الركاكة اللغوية تأتي من أنّ الأكراد ليسوا عرباً، فُرضت العربية عليهم بقوّة السلاح وبعقوبة السّجن، لا تدخل إلى المجتمع الكردي وترى أطفالاً في السّادسة من العمر، يذهبون إلى المدرسة ويتفاجئون بأن ثمّة لغة أُخرى هنا غير الكردية التي يتحدّثون بها في المنزل ويلعبون بها في الشّارع، ولا ترى أياديهم المزرقّة بعصي موجّهي التربية لإجبارهم على تعلّم لغة لا ينتمون لها ولا يعرفونها، ولا تناقش الدراما الاغتراب الذي يعيشه الكردي، حينما تُجبره "دولته" على الحديث والعمل والدراسة والانشغال بالعربية، ويعود إلى حيِه وبيته لتعود لغته.

لا تدخل هذه الدراما القُرى الكردية البعيدة، تلك القرى الّتي من المفترض أنّ ثمّة سوريون يعيشون فيها، لا يتحدّثون ولا يفهمون سوى الكردية، حتّى تلك اللغة الركيكة التي تربطهم ببلادهم، وتعترف بلادهم فيهم من خلالها.

في كلّ الأحوال، هذه الدراما تنشغل بالنتائج الّتي أسّسها النظام السّوري، لتقديم الأكراد بهذا المظهر المشوّه. فالكرد اللاجئون "تماماً، اللاجئون" في العاصمة دمشق، الفُقراء الّذين لا يملكون القدرة على صناعة يوم كامل مليء بالطّعام، لجأوا إلى بلاد الدراما السّورية لأنّ ثمّة نظام استبدادي فرض عليهم الحصار الاقتصادي، ومنعهم من العمل، وهمّش محافظاتهم، وسرق مقدّراتهم، وتركهم دون مأوى، كي يفرّوا منها، يتركوها، ويصنع بها النظام السّوري التّغيير الديموغرافي الّذي يسعى إليه، ويعمل عليه. تلك الصناعة الّتي لا يمكن لصنّاع الدراما السّورية رؤيتها، فهذه الرؤية لا تعكس مسعاهم، ولا تعكس "الوطنية" السّاخرة الّتي يسعى أن يتم بناؤها، عبر اللاشيء، عبر اللاشيء بالضبط.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image