شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
لماذا يكره السياسيون الكرد في سوريا الكتّاب والكتابة؟

لماذا يكره السياسيون الكرد في سوريا الكتّاب والكتابة؟

رأي نحن والتنوّع

الاثنين 3 أبريل 202304:02 م

يعتقد كثيرون في الوسط السياسي الكردي، بأن الكتابة فعلٌ سهل، لا يتطلب ملكات التفكير النقدي، ولا العمق البحثي عن القضايا الملحة التي تهمّ المستقبل الكردي في سوريا، بل إن أصواتاً كثيرةً لطالما عدّت أن الثقافة والكتّابة لا يجب أن تأخذا الحيز والأهمية اللذين تحصل عليهما السياسة، والأكثر تسطيحاً للموضوع، كتلة الاتهامات التي تطال الكتّاب، وتنعتهم بالباحثين عن الشهرة، أو بجامعي المال، خاصةً إذا ما كانت المواد المنشورة تعبّر عن معارضة السلطة أو رفضها لسياسات جهة حزبية تسعى إلى تشكيل ثقافة ما أو فكرة ما، على حساب النسق التاريخي والفكري للقضية الكردية.

ينسى هؤلاء أن الكتابة فعل الوجود الأبدي للكاتب، وهو حين يكتب إنما يعبّر عما يجول في خواطر الناس، ويحول مشاعرهم وأفكارهم وقناعاتهم إلى كلماتٍ تتحدث عن أوجاع المجتمع المحلي ومخاوفه. يتحدى عبر كلماته وقلمه سوط الجلّاد ورصاص العسكري -وما أكثرهما في بلادنا- ويواجه أدوات الأحزاب في التشويه والتشهير. يُقدّم للقراء ما قد يخفى عن استشرافهم، فيوضح لهم المتاهات التي تضعهم السلطة فيها.

لا يمتلك الجميع ملكات الكتابة، لكن كثيرين يكفيهم أن يقرأوا نتاجات غيرهم، كحال الكثيرين الآخرين الذين همّهم تبخيس تلك النتاجات، فهم كُتل من الحقد والكراهية تجاه كل من يُرشد القرّاء، أو يوضح لهم الطريق صوب الحقيقة التي تتشارك السلطة والأحزاب القمعية في تشويهها. الكتابة هي إحدى أبرز مراحل انعتاق الروح من كوابحها وأمراضها التي اشتغلت تلك الأطراف على تكبيلنا بها طوال عقود.

ومع حساب نتائج سياسات الإجحاف والمظلومية التي لحقت بالكرد وقضيتهم، فإن عشرات المواضيع تحتاج إلى البحث والتقصّي الدقيق، فكل شيء تغيّر في سوريا، خاصةً ركائز القضية الكردية ذاتها، من طبيعة العلاقة التي تحكم الكرد مع السوريين، موالاةً ومعارضةً، إلى وضع الكتلة البشرية الكردية التي كانت تتواجد بكثافة كبيرة في مناطقها التاريخية، وجغرافيتها المتصلة، قبل تعرضهما للتفكيك بفعل الهجرة والحرب، وتضخم كتلة العداء من شرائح وأطراف سورية عديدة ضدهم، إلى مستقبل الهويّة وشكل الدولة، والاقتصاد والتربية والتعليم ومختلف قضايا الشباب، وغالبيتها لم تلقَ أيّ اهتمام من الأطراف الكردية والمنصات الإعلامية الكردية.

كثيرون لا همّ لهم سوى تبخيس النتاجات الفكرية، فهم كُتل من الحقد والكراهية تجاه كل من يُرشد القرّاء، أو يوضح لهم الطريق صوب الحقيقة التي تتشارك السلطة والأحزاب القمعية في تشويهها

والمشكلة لا تنتهي هنا، بمقدار ما تبدأ بعد ذلك. فغالبية المواد المنشورة عبر الإعلام العربي تخدم القضية الكردية، لكنها تتعرض لحملات واسعة من التشكيك فيها، أو اتهامها بالتجاوزات الفكرية والعقائدية، ويكفي وجود فكرة أو مصطلح يعتمده أحد المراكز البحثية كسياسة نشر، وغير معتمد لدى طرف سياسي كردي، حتّى تتحول المادة كلها وصاحبها إلى شيطانين كبيرين.

في ظل هذا المشهد السياسي الكردي الجديد، كجزء من المشهد السوري العام، برزت أقلام شابة واعدة استمرت في النشر عبر منصات التواصل الاجتماعي، والمراكز البحثية والمواقع الإخبارية، وكُلها ذات توجه سوري وباللغة العربية، وشكّل توجه الأقلام في تفاصيلها ونشراتها ضد ذلك الوضع، دوراً ضاغطاً سوسيولوجياً تجاه بعض القيادات الحزبية والتنظيمات السياسية التي لا تُحبذ رؤية الكتّاب يخوضون في مواضيع كانت تشكل تابوهات طوال عقود عديدة خلت.

تمركزت تلك الأدوار في ثلاث زوايا أرعبت القيادات السياسية، خاصةً الذين لم يتمكنوا من اللحاق بركب التفكير النقدي والقراءة الجادة، كما تتطلبها الحالة الفكرية. فتلك الأقلام كسرت احتكار السياسيين في مراكز القرار للكتابة والتعبير عن القضية الكردية. كما أنها نقلت صدى الشارع الكردي من الإعلام الكردي المحلي الذي لم يكن يتجاوز عتبة القرّاء الكرد، إلى الوسط السوري. وأيضاً تمكّن الكتّاب الكرد من الخروج من إطار الإعلام السوري البديل إلى المنصات والمراكز البحثية العربية والأجنبية، وإزاء ذلك لم تجد الغالبية المطلقة من القيادات السياسية والتنظيمية للأحزاب الكردية، مكانةً لها. ولو أقدم أحدهم على إصدار مؤلفات حول الواقع الثقافي والإبداعي الفكري للوسط السياسي الكردي، لخلت الغالبية العظمى من صفحاتها من نتاجات متصدري المشهد السياسي.

لذلك، بدأت الكتابة تفعل فعلها في الشأن الكردي السوري بشكل أعمق وأكثر فعاليةً، تزامناً مع نشر نتاجات قسم من الكتّاب الكرد في المنصات الإعلامية الجديدة، ما شكّل نوعاً جديداً من العلاقة بين المثقفين والكتّاب وعموم الحركة السياسية الكردية والعربية والشرائح الشعبية في سوريا، حيث لعب الكتّاب أدواراً متزايدةً في الأهمية في الوسطين الثقافي والسياسي، وأصبحوا جزءاً من أدب الثورات والحروب والحلول المقدمة للمشكلات الاجتماعية والسياسية، وتجاوز سرديات الخلافات الحزبية صوب نشر مواد معمّقة حول مختلف القضايا، ومنها رفض الكتّاب الكرد لاستمرار الوضع الكردي سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وفق تلك النمطيات التي ألحقت الضرر البالغ بالقضية الكردية في سوريا.

المؤسف أن خصوم الثقافة والتفكير والكتابة للقضايا الكردية المعاصرة، هم من الوسط السياسي الكردي، وهم الذين يلوكون تلك القضايا في معرض الترويج لذواتهم ليس إلا، وهو ما يؤكد تحولهم إلى أعضاء دائمين في نادي "نظام التفاهة"، خاصةً أن حماسةً شديدةً تعتريهم وهم يشنّون حملات هوجاء ضد "كل من تسوّل له نفسه التفكير خارج الصندوق"، ولا أبالغ في القول بأنه لو تمكّن هؤلاء من منع الشباب من الكتابة والإلغاء الجذري للنشر ولكل نشاط ثقافي لما ترددوا لحظةً واحدةً.

بعد أن ناضل الكرد لنصف قرنٍ من الزمن بحثاً عن قضيتهم وهويّتهم، وجدوا أنفسهم أمام نظام جديد أدّى، تدريجياً، إلى سيطرة نظام التفاهة، من خلال تبسيط القضايا الجوهرية، وتخوين المخالفين، ومحاربة المعترضين

لا فكاك من القول بأن ما يقوم به السياسيون، هو تآمر على القيم الفكرية، ومشاركة في تمييع القضايا الكردية عوضاً عن البوح بها والنشر عنها. هؤلاء لا يزالون ينتمون إلى العوالم الساحقة، ولم يستوعبوا بعد أن طوفان المعرفة يجتاح العالم كله، ولا يمكن لأحدٍ أن يُقاومه إلا بالمزيد من التفكير النقدي والتواصل الإيجابي مع الوسط الثقافي والكتابي.

في المحصلة، يعيش الوسط الكتابي الكردي أزمة تشويه الوعي خلال العقد الأخير، أكثر بكثير مما شُوِّه خلال نصف قرنٍ مضى، إلى درجة يصعب معها على أعداء الكتابة التعاطي مع المفاهيم المجردة، ما جعلهم يستعيضون عن لزومية فهم المفاهيم إلى رفضها ببساطة، لأن الأولى-الفهم- تتطلب قلق التفكير والفكر والبحث، في حين أن الثانية -الرفض- تحيل إلى اطمئنان اليقين وضمان تواجده ضمن "جيش الرافضين" لكل جديد.

لقد تحولت الكتّابة والثقافة والفكر إلى مصطلحات منبوذة ومرفوضة من العقل الجمعي الكردي في سوريا، وهو ما يُمكن أن نسميه الإحساس الاجتماعي المريض والمفكّك. وذلك كله لأننا نعيش مرحلةً تاريخيةً غير مسبوقة، فبعد أن ناضل الكرد لنصف قرنٍ من الزمن بحثاً عن قضيتهم وهويّتهم، وجدوا أنفسهم أمام نظام جديد أدّى، تدريجياً، إلى سيطرة نظام التفاهة على جميع مفاصل نموذج الحياة الكردية الحديثة، وأخطر تمظهراتها تبسيط القضايا الجوهرية، وتخوين المخالفين، ومحاربة المعترضين على تسفيه الحياة، كما سيكون الحال مع المعترضين على كتابة هذا المقال. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image