في تونس حاضراً، يحدث أن تشاهدوا بأم عينكم تجمّع الناس زرافات في مكان واحد، وقد اتفقوا على طلاء وجوههم باللون الأزرق، ليذهب بكم الظن إلى كون ذلك حركة تشجيع رياضيةً قبل أن يتطور الأمر لاحقاً إلى الاعتقاد بأن في ذلك إعادة تجسيد لبعض مشاهد من فيلم "Brave Heart" لميل غيبسون، لما لمستموه من تحفز واستعداد. والحقيقة أنكم لم تكونوا مخطئين تماماً، فهؤلاء هم الذين باتوا يخرجون في كل موسم تلفزيوني رمضاني في تونس هجوماً على أي شيء، دفاعاً عن مثال في رؤوسهم.
في تونس، وإلى زمن غير بعيد، قناة رسمية واحدة وأخرى فرنسية بنصف دوام. خلال الساعات القليلة التي كانتا تبثّان فيها كان مواطن تونسي رقيب يقبع داخل ذلك التجويف الضخم في بطن التلفزيون الكبير، مستعداً لقطع سلك الإشارة إذا ما تحرّش الفرنسيون هناك في الضفة الأخرى بالشأن السياسي الداخلي الخاص بتونس، أو إذا ما عنّ لهم خصوصاً تمرير بعض المشاهد السينمائية الإباحية غير المرغوب فيها، ولعلّ واحداً من الدوافع القوية للتندر بالأمر في ذلك الزمن، هو أن جلّ تلك المشاهد المجتزأة تونسياً من التلفزيون الفرنسي كان مصدرها السينما التونسية الممولة أوروبياً بشكل عام، وفرنسياً بشكل خاص.
في الحقبتين، زمن "بن علي" أو زمن الرئيس "بورقيبة" من قبله، نزلت الدولة بكامل ثقلها لتحديد المربع الذي وجب على كل فاعل ثقافي أو فنّي احترام حدوده وشروط حرية الحركة داخله، لكن ذلك لم يمنع ظهور أعمال وآثار فنية وفنانين
في تونس دائماً، وفي زمن أبعد قليلاً، حرص القائمون على "دولة الاستقلال"، على اجتراح مثال ثقافي عمودي وموحّد تم سحبه فجأةً على كامل البلد من خلال تلك البنايات المتطابقة هندسياً والموزعة كيفما اتفق على المحافظات التونسية، والمسماة بـ"دور الشعب"، قبل أن يتم تغيير التسمية إلى دور الثقافة. وهو تطابق، جاوز الهندسة المعمارية ليصل إلى ضبط شكل جاهز وموحد لما يجب تقديمه ثقافياً، ولما وجب تجنّبه تحت ذريعة الخروج حديثاً من تحت نير الاستعمار وضرورة تدخّل الدولة لملء فراغات الوعي الجماعي بما تراه مناسباً في ما عُرف لاحقاً بمثال "الشاذلي القليبي للثقافة".
في الحقبتين، زمن "بن علي" أو زمن الرئيس "بورقيبة" من قبله، نزلت الدولة بكامل ثقلها لتحديد المربع الذي وجب على كل فاعل ثقافي أو فنّي احترام حدوده وشروط حرية الحركة داخله، لكن ذلك لم يمنع ظهور أعمال وآثار فنية وفنانين من غير الضليعين في علوم الانضباط في شكل فلتات فنية خارجة عن السيطرة.
مع انطلاقة الموسم التلفزيوني الجديد في تونس، المتزامن دائماً وأبداً مع شهر رمضان، انطلقت قناة "الحوار التونسي" في بث عمل تلفزيوني جديد موسوم بـ"فلوجة" للمخرجة التونسية "سوسن الجمني"، في عملها الثاني في القناة بعد "فوندو" الذي عُرض خلال السنة الماضية. المشاهد الأولى من العمل المقدَّم (بعد تمرير أربع حلقات)، تم تصويرها بنسبة تسعين في المئة أو أكثر في وسط مدرسي لمراهقين تجنح غالبيتهم نحو تعاطي المواد المخدرة وسط تشنجات مدرسية وأسرية ميّزتها حادثة اختفاء مريبة لتلميذة لم يُكشف عن مصيرها. قبل نهاية الحلقة الأولى بدقائق، ضجّت منصة فيسبوك بموجات من الاستنكار القطاعي رأساً، والأخلاقي عموماً، والديني بشكل خاص، حول "جريمة" تعدّ لها القناة في حق منظومة التربية في تونس، ليخرج في النهاية محاميان يبشّران برفع قضية مستعجلة في الغرض هدفها إيقاف بث المسلسل قضائياً.
في مصر، وخلال تسعينيات القرن الماضي، وإذا ما سمحنا لأنفسنا باستعارة عبارات اليوم لتركيبها على أحداث قديمة، فإن المحامي الإسلامي منتصر الزيات، قد مثّل وعلى امتداد فترات طويلة "التراند"، أو الاسم الأكثر تداولاً إعلامياً وشعبياً لذلك الكم من القضايا التي كان يرفعها كيفما اتفق لإغلاق قاعات سينما ودور عرض أو لمنع أعمال من العرض أو منع فنانات من الظهور أو حتى محاكمة وزراء الثقافة. شخصية الزيات، بمن يقف وراءه، يُعتقد أنها تحولت سينمائياً إلى "علي الزناتي" في فيلم "طيور الظلام"، وقد قدّمها الفنان رياض الخولي.
في صباح اليوم الموالي لعرض الحلقة الأولى من العمل التلفزيوني "فلوجة"، تدخّل وزير التربية التونسي في الأمر ليشير إلى أن العمل يحتوي على إساءة بالغة إلى الإطار التربوي والتلميذ.
في صباح اليوم الموالي لعرض الحلقة الأولى من العمل التلفزيوني "فلوجة"، تدخّل وزير التربية التونسي في الأمر ليشير إلى أن العمل يحتوي على إساءة بالغة إلى الإطار التربوي والتلميذ وأنه بصدد الإعداد لرفع قضية مستعجلة لإيقاف عملية البث بالتنسيق مع رئاسة الحكومة لتبقى النظرة الأخيرة موكلةً إلى رئيس الجمهورية في تحديد مآل القضية ومسارها بحسب وزير التربية دائماً.
منطقياً، يمتدّ شهر رمضان لثلاثين يوماً، أي لمدة أربعة أسابيع، بما يعني أربع خطب جمعة متتالية يسود فيها الاعتقاد القوي بوجود قرابة حقيقية بين القائم على تركيز مكبرات الصوت والمهندسة المعمارية الخارقة "زها حديد"، فسيطرته على الفضاء العام داخلياً وخارجياً وتوزيعه اللا متوقع جغرافياً لمكبرات الصوت يشبهان إلى حد كبير تلك التعرجات الخطرة في المبنى الخرافي الذي صممته "حديد" في سيدني الأسترالية، تماماً كما يمكن الاستماع إلى مكبّرات الصوت خاصتنا من هناك في سيدني.
في المسجد المجاور، قدّم صديقنا الطيب إمام الجمعة، بدوره، قراءته النقدية للعمل التلفزيوني، داعياً إلى إيقافه متّهماً إياه بالفسق والفجور وبالخروج عن ضوابط الأخلاق. ليلاً كانت كل المؤشرات تفيد بقفز "فلوجة" إلى أعلى نسب المشاهدات وطنياً، بينما كان القائمون عليه هناك يبتسمون في صمت بعد توسيع رقعة المساحة الزمنية الإعلانية ومطّها وربما رفع تسعيرتها.
في تونس، وخلال سنتين أو ثلاث سنوات على أقصى تقدير، قد لا نرى مجدداً أعمالاً فنيةً سواء في السينما أو في التلفزيون، فمنتجو هذه الأعمال وكاتبوها ومخرجوها تداهمهم ومنذ سنوات جبال من المحاذير والخطوط الحمراء الوافدة والمواضيع الواجب عدم الخوض فيها.
يحزنك فعلاً أن نقابة البريد التونسي، ومنذ سنتين تقريباً، نفّذت وقفةً احتجاجيةً بمناسبة مشادة كلامية في مسلسل تلفزيوني بين زوج وزوجة كانت في الأصل تعمل راقصةً، فذكّرته في سياق الغضب بأنه حين تزوجها لم تكن تشتغل في مكتب للبريد، وكذلك فعل الأمنيون حيال مشهد تسلّم أمني فاسد رشوةً في عمل تلفزيوني، وبالطريقة نفسها احتج قطاع مضيفات الطيران جرّاء مشهد تهريب مضيفة طيران لمواد مخدرة على متن رحلة جوية.
ينزع البعض من أصحاب النظر القصير إلى سحب "المودال" الذي يريدون على الأعمال الفنية سواء بمنظور أخلاقوي ضيق أو بتعصب قطاعي فج والحال أن الحديث الذي يُهمَل دائماً هو أننا بصدد تداول عمل فني قد نختلف على تفاصيل إنجازه، ولكن أن نصل إلى فكرة إيقافه وسحبه باستعمال القضاء والمحاكم فذلك أمر جلل ومنذر بما هو أسوء في تونس.
لم تتأسس حادثة "فلوجة" تونس، فوق الفراغ، بل هي نتيجة طبيعية لأمر غير طبيعي سببه الرئيس، "حقنة الرحمة" التي دُسّت في وريد الأصوات العاقلة قبل سقوط نظام بن علي بقليل، وعلى امتداد السنوات التي تلت ذلك بوجود مشهد إعلامي مكرّس للفراغ ومؤسس لفكرة "التراند" أو "البوز"، كما يطلَق على ذلك في تونس بالمنطوق الدارج، حتى صرنا نتحدث فعلياً عن أفكار وافدة وغير مسبوقة من قبيل "موت الناقد"، أو نجاته بنفسه، وخفوت صوته في سياق ديمقراطية الغوغاء وشعبويتها المفرطة في مواقع التواصل وخارجها.
الدولة التي حرّكت أسطولها لمنع عرض عمل تلفزيوني، قد يُختلف على طريقة إخراجه وتقديمه فنياً، لم تفلح في ذلك بعد أن أصدر القضاء التونسي كلمته بأنه غير مختص بتقييم عمل فني، وأنه لا يمكن أن يكون وصياً على الذوق العام
قناة الحوار التونسي، صاحبة العمل، هي واحدة من أهم مراكز صناعة المزاج الجمعي في تونسي، وهي تقريباً الأعلى مشاهدةً بالقياس والمقارنة مع بقية القنوات، ويحرص القائمون عليها منذ سنوات على تفصيل صورة مصغرة ومختزلة للمشهدين الثقافي والفني التونسي وتقديمها وفق رؤية تقوم على الاستثمار في فكرة ما يريده المشاهدون الذين يرفعون نسب المشاهدة ويرمون القناة بالحجارة، والإجابة التي ترد هنا على شكل سؤال لا أحد يجيب عليه، هي: ماذا فعل إعلامنا العمومي في المقابل؟
خلال عرض "فرططو الذهب" للمخرج التونسي عبد الحميد بوشناق، في إحدى القاعات، كانت الإضاءة كافيةً لنرى بعضاً من هوية الجالسين على الكراسي التي أمامنا، والذين كانوا مستغرقين في الضحك مع كل عبارة نابية في الفيلم، حتى إذا ما عادت الإنارة بانتهاء العمل، تبدلت الملامح إلى سخط ولوم للمخرج وممثليه لما استعملوه من كلام قبيح.
الدولة التي حرّكت أسطولها لمنع عرض عمل تلفزيوني، قد يُختلف على طريقة إخراجه وتقديمه فنياً، لم تفلح في ذلك بعد أن أصدر القضاء التونسي كلمته بأنه غير مختص بتقييم عمل فني، وأنه لا يمكن أن يكون وصياً على الذوق العام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...