شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
حاشية على مؤخرة

حاشية على مؤخرة "سره الباتع"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 2 أبريل 202303:39 م

لم يشكّل انفجار مؤخرة رانيا التومي بصرياً في وجهي عبر مسلسل "سره الباتع"، مفاجأةً لي شخصياً، إذ سبق أن حلّلت هذه الظاهرة في روايتي "المشرط" (من سيرة خديجة وأحزانها)، منذ سنة 2003، عندما استلهمت أحداثها من قصة المجرم الشعبي الذي ظهر في تونس يطارد المؤخرات، وهو المعروف باسم "الشلاط". كان دافع الرواية وقتها سؤالاً طرحته أمام تمثال ابن خلدون في العاصمة التونسية، وأنا أتصفح خمس صحف تتحدث عن المجرم نفسه: ماذا يفعل صاحب المقدمة في زمن المؤخرة؟

كانت البلاد، وقتها، ترزح تحت نظام استبدادي قمعي غاشم. بعد ثلاث سنوات، وأنا أتابع كتابة الرواية، وأقلّب مخطوطاتها، يخرج قرار من النظام نفسه، يعلن عن إطلاق جائزة أدبية، ويطلب من الكتّاب الكتابة عن ابن خلدون، بمناسبة مرور 600 سنة على وفاته، فهرع "الكتبة" يحبرون عن ابن خلدون المصنفات كما لو كانوا يكتبون عن زين العابدين بن علي، مدحاً وتمسيحاً، فواصلت الكتابة بشكل مضاد. كتابة ضد ذلك الاستعراض المذل من الكتاب لمؤخراتهم أمام السلطة، وقدمت صورة ضدية لصاحب المقدمة الذي تحول في الرواية إلى مخبِر للبوليس، ولم تنجح كل محاولاته في الهروب من مهمته الحقيرة التي كلفه بها النظام.

"المؤخرة تتجول في كل الكرة الأرضية! بشكل ما، للشجر مؤخرة، لكن لا يمكن رؤيتها لأنها مغطاة بالأوراق. مؤخرتك، مؤخرتي، العالم يزخر بمليارات الأنواع من المؤخرات. للرئيس توجد مؤخرة، للعامل في غسيل السيارات مؤخرة. للقاضي والقاتل مؤخرة... حتى للدبوس الأرجواني مؤخرة!"

ما أن سمع "الكتبة" بأن الرواية في المطابع، حتى ركضوا يكتبون ضدها التقارير، وأشاروا إلى ما كانت تعنيه، وراحوا يفككون رموزها وعلاقتها بتشويه النظام لمنعها، وبالفعل أوقف النظام بيعها في معرض تونس الدولي للكتاب في نيسان/أبريل 2007، أياماً قبل أن أشن هجوماً مضاداً عليها مع عدد من الصحافيين العرب ليطلق سراحها.

لم يقبل النظام وسدنته أن أقاربه من تلك الزاوية الطرية اللزجة: المؤخرة، وهو الذي تعود أن يكون معادلاً ذكورياً وفحولياً. رفض أن يقع تشريحه بالمشرط ذاته الذي أطلقه في الشارع مع شرطة الأخلاق الحميدة وقتها لمقايضة الشعب: الأمن مقابل اللا حرية، وأطلق أغنيته الشهيرة في مدح البوليس بصوت صوفيا صادق: "بالأمن والأمان يحيا هنا الإنسان". وتطوّع أحد الكتبة ليشرح للنظام ما أعنيه بـ"المخاخ"، الشخصية العجائبية التي تشرب أمخاخ الأطفال ورمزيتها للسلطة وهكذا وضعوا اسمي على قائمة المستبعدين.

ظل الشعب التونسي يلاحق المؤخرات في كل مكان منذ ذلك الزمن الذي ظهر فيه "الشلاط"، وربما قبله بكثير، وكلما تراجعت الثقافة في بلادنا تمددت المؤخرة، وانتشرت في الأرض وخلقت مريديها ومطارديها، ولم يكن مشهد العجيزات المتفلتة في تونس، سوى نموذج من المجتمعات العربية الأخرى، لذلك ظهر المجرم نفسه فيها بالمواصفات نفسه والهوس ذاته؛ هوس المؤخرات. فظهر "سفاح المعادي" في مصر، وانتشرت نسخه في كل أصقاع العالم العربي: مجرم يطارد النساء بسكين أو مشرط، وتنوعت عليه النماذج التجريبية كالمهوسين بتمزيق النهود بدل "الأطياز".

وانطلقت عبارة "خديجة"، كناية عن المؤخرة على ألسنة الشباب، وهم يلاحقون النساء والفتيات: "خديجة كبرت لازمك أدخّلها تقرا"؛ كانت الجملة الأكثر شهرة على ألسنة المتحرشين.

في الغالب، لم تشارك في ذلك المرأة، بل كان نتيجة كبت ذكوري وفونتازم رجالي حتى جاء إنستغرام وفيسبوك وتيك توك، والتفتت النساء إلى الخلف في المرايا، وسقطن في غواية عجائزهن، كما سقط نرسيس في غواية وجهه في الماء.

لماذا نفزع من رؤية المؤخرة؟

كتب بوكوفسكي فقرة رائعة في روايته "مكتب بريد"، يتحدث فيها عن هذه الفوبيا من رؤية المؤخرة، ويدافع فيها عن أحقيتها في الحضور القوي في الفضاء العام:

"جيدة، صحيح يا حبيبتي؟".

مضغت الحلزون في فمها.

"مقلية بالزبدة الذهبية!".

التقطت بعضها بيدي، قذفت بها إلى فمي.

"هذا تقليد عمره مئات السنين، يا حبيبتي. ونحن لا يمكننا أن نفوته!".

ابتلعت أخيراً حلزونها، ثم تأمّلت ما تبقى في صحنها.

"لجميعها توجد مؤخرات صغيرة! شيء فظيع! مرعب!"

"ما الفظيع في المؤخرة، يا حبيبتي؟".

وضعت منديلاً على فمها. نهضت وركضت إلى الحمام. بدأت تتقيأ. صرخت من المطبخ: "ماذا يعيب المؤخرات، يا حبيبتي؟ لك مؤخرة، لي مؤخرة! تذهبين إلى المتجر وتشترين شريحة لحم بقر، وللبقرة مؤخرة! المؤخرة تتجول في كل الكرة الأرضية! بشكل ما، للشجر مؤخرة، لكن لا يمكن رؤيتها لأنها مغطاة بالأوراق. مؤخرتك، مؤخرتي، العالم يزخر بمليارات الأنواع من المؤخرات. للرئيس توجد مؤخرة، للعامل في غسيل السيارات مؤخرة. للقاضي والقاتل مؤخرة... حتى للدبوس الأرجواني مؤخرة!"

"أوه توقف! توقف!"

تقيأت من جديد. الفتاة اللطيفة القادمة من البلدة الصغيرة، فتحت زجاجة الكحول وبدأت أرتشف منها".

محاولة الإفحام عبر الخطاب الحجاجي لبطل بوكوفسكي، لم يقنع الفتاة اللطيفة، التي أكد بوكوفسكي أنها محافظة عندما أشار إلى أنها تأتي من بلدة صغيرة مقارنة به، هو الانفتاحي ابن المدينة الصاخبة الذي يبلع مؤخرات الحلزون بالكحول، فأخذت تتقيأ.

ولم يقنعنا خالد يوسف أيضاً ونحن أمام تلك المشاهد اللا متناهية من استعراضه لمؤخرة رانيا التومي، من دون أي مبرر درامي. ولا يمثل حضور مؤخرتها المبالغ فيه أي معنى يخدم بنية الحكاية الرئيسية. فمؤخرة الممثلة لا تظهر بشكل عفوي، بل تقتحمني بالقوة في حركات مدروسة جداً من المخرج للفت انتباهنا، فلم تكن مؤخرتها سوى جزء أساسي من الخطاب البصري، وإذا استحضرنا أن الخطاب البصري هو الأساسي في الأعمال الدرامية والسينمائية، فهمّنا أن الجزء الرئيس الذي يتحدث في جسد التومي هو مؤخرتها، وإذا استحضرنا أن هذا الخطاب البصري يقوده مخرج ما، فهذا يعني أيضاً أن العقل الذي يقود ذلك الخطاب وبتلك الفجاجة هو عقل قضيبي.

لن أذهب إلى ما قدمه الأدب العالمي من مقاربات عميقة لإيروتيكا المؤخرة عند ماريو فارغاس يوسا في روايته "امتداح الخالة"، ولا فن الرسم العالمي من التشخيصي إلى السوريالي مع سلفادور دالي، لكنني اخترت أن أتبع "الباتع" إلى باب نصه الأصل. فقادني التحري عن مؤخرة رانيا إلى إعادة قراءة قصة يوسف إدريس "سره الباتع"، من جديد، لعلّي أجد لمؤخرة رانيا التومي مشروعية، فما وجدت شيئاً سوى نص يميل نحو التصوف والزهد، ولم تكن هناك من شخصية نسائية إلا المرأة الأجنبية التي تُدعى "الإنترناسيونال"، والتي لم يتحدث يوسف إدريس أبداً عن مؤهلاتها الإيروتيكية، ولا عن حجم مؤخرتها، بل كانت شخصية إيجابية هي من أرسلت للبطل الوثائق التي تعرف من خلالها على حقيقة شخصية السلطان حامد.

تثبّتنا في النص الأصلي، لا يعني أننا نطالب المخرج وكاتب السيناريو بأن يلتزما به، فمن حقهما أن يغيّرا كما يشاءان، لكن لنثبت عدم وجود هذه العلاقة بين الشخصية وبين النص الأصلي، وأن هذه الشخصية ملفقة بمؤهلاتها. وكان الأمر سيُقبل داخل ما يُسمى في السينما والدراما بالاقتباس الحر، لكن المشكلة الأساسية في هذه الشخصية تكمن في الصورة التي ظهرت فيها مسيئة إلى الخط الدرامي للمسلسل، فالضعف الذي تظهر فيه بعد المشاهد وضعف الإنتاج الواضح والارتباك في المونتاج، كل ذلك يمكن أن يُقبل في مستوى من التلقي الشعبي الذي لا ينتبه إلى تلك الأخطاء. لكن ظهور تلك الشخصية كان في كل مرة يهز العمل هزاً، ويُسقط خطه الدرامي من عمل عميق إلى عمل ساخر وإسكتشات مضحكة لم يقصدها الكاتب ولا المخرج.

تحدث الناقد الفرنسي ديفيد لبروتون، في كتابه "أنثروبولوجيا الجسد والحداثة"، عما سماه بالجسد المعرض للنظرة، ذلك الجسد المختلف الذي ينتهك عبر النظرة الفضولية، والتي تتحول إلى نظرة عنصرية ونظرة عنف. في حالة "سره الباتع"، كانت كاميرا خالد يوسف، هي النظرة التي تعتدي على جسد الممثلة، بل كانت مشرط "الشلاط" الذي يعتدي على الجسد الأنثوي بتواطؤ الضحية معه هذه المرة، كما تتواطأ المازوشية مع سيدها السادي لإذلالها. فجسد الممثلة جسد يحمله رأس تحت سلطة قهرية: هوس بالأضواء والشهرة واستعداد للتضحية بكل شيء من أجل أن ينال تلك الشهرة المشتهاة، يؤكده خروج الممثلة في أثناء التصوير مرات لتعبر عن فرحتها، وهي ماسكة بوريقات دورها. مشاهد لم يسبق أن رأيناها مع ممثلات تونسيات تميزن في الدراما والسينما المصريتين، من هند صبري إلى درة وعائشة بن أحمد. بل إن هذا الهوس لم نرَه حتى مع الراقصة نجلاء، عندما ظهرت في أفلام مصرية بصفتها راقصة أو عاملة في كاباريه.

لهذا فزع المشاهدون من مؤخرة الممثلة، لأنها كانت تعنف بالصورة، وتعنف المشاهدين بشكلها الاصطناعي والمتوحش، فلم تكن مؤخرة أليفة وطبيعية. الفزع كان من تشييء البشر بتلك السطحية الفجة، وهم يتساءلون مع كل ظهور: كيف لإنسان يحمل عقلاً أن يصل به الاستلاب إلى أن يرضى بأن يُختزل في مؤخرة تُستعرض بذلك الشكل؟

مؤخرة يوسف الشاروني

وضع الناقد الكردي السوري إبراهيم محمود كتاباً بعنوان "الجسد المخلوع بين هز البطن وهز البدن"، وهو كتاب كامل خصصه للمؤخرة في الثقافة وفي الفنون والآداب من الموسيقى مع شاكيرا، إلى الرواية، ثم أصدر كتباً أخرى بعده جعلت من المؤخرة موضوعاً رئيساً منها ‫"مغزل المؤخرة: سلسلة نحو أمس دافئ أقوال وأمثال"، و"جنازة المؤخرة"، وفكك فيه كل تاريخ المؤخرة في الثقافة الإنسانية وسبقه إلى ذلك الفرنسي جاك لينك هينيغ، في كتابه "موجز تاريخ الأرداف". ‬‬‬‬

غير أن الحضور العربي للمؤخرة كان في مجمله حضوراً شعوبياً ساذجاً وبروزاً يتمحور حول الشهوة والإضحاك من الرموز الجنسية إلا استثناءات قليلة أهمها قصة قصيرة للكاتب المصري يوسف الشاروني، بعنوان "في المؤخرة"، والتي قارب فيها بذكاء منقطع النظير الواقع السياسي المصري.

خرج يوسف الشاروني من كليشيه المؤخرة النسائية، ودلالتها الإيروتيكية في الثقافة الشرقية ليتناول المؤخرة الرجالية، وهو بذلك ضرب مفهوم الرجولة بمعناها القضيبي في مقتل، عندما ثبت قصته على عضو يريد الرجل إنكار وجوده، لأن وجوده مرتبط ثقافياً بضعف الرجولة بمفهومها الذكوري الشرقي. وانطلق الكاتب للوصول إلى موضوع المؤخرة بنص قصير تحت عنوان "مثانتي"، ليعلن عن عطب في الجهاز التناسلي الذكوري كتمهيد للأزمة.

يقول الراوي: "قصدت ذات يوم طبيب مسالك بولية، أشكو له ضيق مثانتي، فرض علي طقوساً قبل الفحص: أن أصوم نصف نهار بل أن أفرغ جوفي تماماً بكل الوسائل المتاحة. في صباح اليوم التالي، التقط لي أخصائي الأشعة صوراً في مختلف الأوضاع. في اليوم التالي سلّمني طبيبي تقريراً أفرحني وأفزعني: ضيق مثانتك خلقي (بكسر الخاء وتسكين اللام)، فلا علاج ولا دواء. ومع ذلك -ومن باب الاحتياط- نصحني بعدم التعرض لبرودة بعد دفء، وتجنب الكحول والبهارات، والمثيرات والمهيجات، وإفراغ مثانتي أولاً بأول. في مدينة أزالوا منها دورات المياه العمومية، ونسوا أن يصدروا أوامرهم بأن تزال من الناس مثانتهم، فأصبحت أكثر قبحاً، كل حائط وكل ركن وكل جذع شجرة فيها مستباح".

وعبر هذا النص، والذي يليه "ميترو الأنفاق"، قدم الشاروني نقداً لانقلاب القيم في المجتمع المصري، وفساد الدولة عبر ما يحدث في الفضاء العام، ليصل بعد ذلك إلى موضوعه الرئيس: المؤخرة. ولتوصيف حالته التراجيدية التي تعكس حال المواطن المصري، روى البطل قصته في أثناء حرب الجيوش العربية ضد إسرائيل وأين شكّلت مؤخرته سؤالاً مركزياً فيها ومأزقاً وجودياً.

يقول الراوي: "عندما نشبت الحرب الثالثة بين العرب وإسرائيل، كنت مجنداً في القنطرة غرب، ذات مساء سمعت صفارة الإنذار، كنت في سيارة جيب مع ثلاثة من زملائي وسائق السيارة، غادرنا السيارة فوراً وانبطحنا على الأرض الرملية وهي لا تزال تحتفظ بدفء الشمس الغاربة. وجدت نفسي أمام بقايا خندق لا يتسع بالكاد إلا لنصف جسد إنساني فضلاً في البشرية. وكان علي أن أختار: أحمي نصفي الأعلى أم نصفي الأسفل، بل كنت قد اتخذت قراري بالفعل في أثناء تصرفي التلقائي، فلا مسافة بين اتخاذ القرار وتنفيذه. كنت قد أدخلت رأسي في الفتحة الأرضية بحيث أصبح أنفي يكاد يلامس ما تركه لي أخوتي البشر، وبينما استطعت أن أغلق عيني حتى لا أرى شيئاً، فإنني لم أستطع أن أفعل المثل مع أنفي، فكان عليّ أن أظل محتفظاً بمسافة -ربما لا تزيد على الملليمتر الواحد- بينه وبين ما يواجهني من دون أن أفقد اتّزاني. وقد انحنى بقية جسمي فوق الأرض ليصنع زاويةً منفرجةً مع نصفي الأمامي. وهكذا أصبحت مؤخرتي هي أكثر أجزاء جسمي تعرضاً للإصابة. وبينما كانت أصوات الانفجارات من حولي تتتابع ووهجها ينفذ من الفتحة نصف المعتمة التي أدخلت فيها نصفي الأعلى، خطر لي خاطر أفزعني تماماً: مؤخرتي مكشوفة الآن لأية شظية مجنونة. من قال إنني برأسي فقط أحيا، ليس بالرأس وحده يحيا الإنسان.

كيف أعيش إذاً لو شطفت مؤخرتي... وفجأة وجدتني أضحك وجسدي يهتز وأنا أحاول أن أضم شفتي حتى لا يتسلل بينهما شيء مما تزدحم به أرض الخندق... عندما ترامى إليّ دوي رهيب وتناثر الرمل على ساقي ومؤخرتي يلسعها في عنف، فتلاشت الضحكة في الحال وتأهبت لتقبل أهول النتائج، بينما أنفي -وربما فمي أيضاً- لا بد أنه اصطدم بما تحاشاه طوال الوقت. عندما أفقت من غيبوبتي كان أول ما فعلته هو أنني تحسست مؤخرتي فوجدتها سليمةً بحمد الله. غير أني سألت عن رفاق سيارتي وسائقها وعلمت أنهم ماتوا جميعاً؟ انتابتني نوبة صرع عانيت منها سنوات".

ظل الشعب التونسي يلاحق المؤخرات في كل مكان منذ ذلك الزمن الذي ظهر فيه "الشلاط"، وربما قبله بكثير، وكلما تراجعت الثقافة في بلادنا تمددت المؤخرة.

هذه الكوميديا السوداء التي كتب وصفاً فيها الشاروني، مأساة العرب وهزيمة 67، تعيده من جديد إلى واقعه الأسوأ الذي تواصل منذ ذلك الوقت وقد صار عجوزاً مريضاً بالإمساك المزمن والهمس من مهاجمة السرطان لمؤخرته بسبب التورمات التي حدثت لعجيزته والتي جعلته تحت تأثير الحمى كثيراً ما يردد جملته الأثيرة: "أخر يتأخر تأخيراً أخيراً فهو متأخر في المؤخرة... أخر يتأخر تأخيراً أخيراً فهو متأخر في المؤخرة".

كان يمكن للشاروني أن يكتفي بهذا النص في هذا المستوى ليترك مجال التأويل حراً مع أن الإحالات كانت واضحةً، غير أنه آثر أن يفسر ويقتل كل تأويل آخر في نبرة تعليمية كثيراً ما يسقط فيها الكتاب العرب الذين لا يراهنون على ذكاء القارئ، فيردفون النصوص بتفسيرات وتعليقات يعتقدون أنهم بها يوصلون المعنى فيستولون على مهمة القارئ ومهمة الناقد معاً.

يقول الشاروني: "في شبابي كنت أحلم بالثورة، واليوم أجري وراء الثروة. هل شخت أم شاخ مجتمعي، أم كلانا شاخ؟ صدّقني يا طبيبي شيخوختي ليست شيخوخة عمر بقدر ما هي شيخوخة إحباطات بلغت حد العنف أحياناً، وقدّمت في قفاز حريري أحياناً أخرى، وترك ذلك كله جراحه العميقة في نفوس جيلنا وآثاره المدمرة على أجسادنا، فلم ينجُ واحد منا من علّة جسدية خطيرة، وتساقطنا واحداً بعد الآخر على فترات متفاوتة، وأصبحنا كأنما نحن في سباق لا نعرف من الفائز فيه، هل من يموت قبل أو بعد الآخر؟

في منتصف القرن كان هدفنا أن تتحرر بلادنا من الدخلاء، وفي نهايته تواضعت مطالبنا لكي نتحرر أولاً من أخطائنا القاتلة، أخطاء أحرجت الصديق وأشمتت العدو، ودعت الدخيل لكن ينقذ الأخ من براثن أخيه ثم يطالبنا بالثمن الأفدح.

من المريض منا: أنا الذي أقاوم شرّ البلية بالضحك، أم الآخرون المتبلدون، الذين لا يبالون وفي طريقهم ماضون؟".

ثم يعود بعد ذلك لينهي القصة في مشهد درامي وقد انخرط معه طبيبه في غناء يشبه النحيب. يقول: "استعدنا ذكرياتنا الحلوة والمرة، أحوالنا الخاصة والعامة، فما مضى ثلث الساعة حتى كنا نحن الاثنين -طبيبي وأنا- نبكي معاً.

طبيب رأى مبتلى

قال له أنت رايح

فين وقف حكى قصته

بكوا سوا الاتنين".

تقديم هذا المثل الخاص في الأدب العربي في تناول "تيمة" المؤخرة، وتأويلاتها المختلفة، يعود بنا للتساؤل: أي عمق أراده المخرج خالد يوسف من استعراض مؤخرة رانيا التومي؟ وما هو إحساسها الآن بعد مشاهدة ما فُعل بها؟ بماذا يشعر صاحب النص وصاحب حادثة شرف في "تربته" من هذا الاقتباس؟ لم يكن يوسف إدريس يعاني من قلة الجرأة ليتدخل خالد يوسف ويضيفها إليه، فيوسف إدريس أحد روّاد الجرأة في الأدب العربي.

عمل طريّ لزج

يعاني العمل الفني من الكثير من العيوب التي لا تُحصى، لكننا سنكتفي بالتعليق على مشهد واحد بعد مشاهدة هذا المقطع: عادة، عندما يقدم مخرج سينمائي مسلسلاً، نتوقع أن تكون هناك إضافة كبيرة في مستوى الصورة والجماليات، ونقول هذا مسلسل بإخراج سينمائي ولنأخذ مثلاً أعمال المرحوم شوقي الماجري، الذي كان سينمائياً في أعماله التلفزيونية أكثر من تجربته السينمائية التي عندي عليها تحفظ كبير. إلا أن هذا لم يحدث مع خالد يوسف في "سره الباتع". بل تراكمت الأخطاء الدرامية التي لا تُحصى من أول حلقة.

لكن أطرف مشهد كان في الحلقة الأولى، هو مشهد سقوط الشاب أحمد فهمي، في الحفرة وعدم قدرته على الخروج منها مما جعله يصرخ مستغيثاً طلباً للنجدة، وفجأة عندما وجد الرسالة قفز إلى خارج الحفرة لكن المضحك ليس الخروج السهل فقط، بل لماذا رمى الرسالة إلى الأعلى وكان يمكنه أن يضعها في بنطاله الدجين؟ كانت الجيوب الخلفية للبنطال تنادي المخرج عبر مؤخرة الممثل وهي تتسلق الحفرة: أنا هنا.

رمي الأشياء إلى خارج الحفرة، واللحاق بها يكون في حالتين: إذا كانت ثقيلة أو حجمها كبيراً سيعوّق عملية التسلق. والأمر الآخر الذي لا يجعل الشخصية ترمي الرسالة هو أنها توقعت أهميتها وهذا يحول دون المخاطرة برميها وهي غير متأكدة أصلاً من نجاحها في الصعود من الحفرة، بعد أن فشلت مرتين.

فزع المشاهدون من مؤخرة الممثلة، لأنها كانت تعنف بالصورة، وتعنف المشاهدين بشكلها الاصطناعي والمتوحش، فلم تكن مؤخرة أليفة وطبيعية. الفزع كان من تشييء البشر بتلك السطحية الفجة، وهم يتساءلون مع كل ظهور: كيف لإنسان يحمل عقلاً أن يصل به الاستلاب إلى أن يرضى بأن يُختزل في مؤخرة تُستعرض بذلك الشكل؟

الخطأ الآخر في المشهد ذاته، لحظة عثور أحمد فهمي على الرسالة، فمن المفروض أن بين لحظة السقوط وانتباهه للرسالة أو ذلك الشيء هناك وقت، لحظة عادة يستعيد فيها الشخص توازنه لإدراك الأشياء من حوله بينما هو سقط ونظر تحت قدمه مباشرة كأنه شعر بلغم تحت قدمه. هذا فقط مشهد بسيط من جملة الأخطاء التي لا تُحصى والإخراج الضعيف.

من دون الدخول في مشكلات المسلسل الإنتاجية الواضحة من فقر كبير في الديكور وأكسسوارات الشخصيات وتأثيث الفضاء والملابس وحتى نوعية الكومبارس وضعف في المعالجة التاريخية وحشو. المسلسل بفقرات من النص الأصل ومن بحوث مرتجلة سطحية وإدارة ممثل مرتبكة جعلت الممثلين يقومون بأداء مسرحي تجريبي لا يستقيم أحياناً مع طبيعة العمل التلفزيوني زيادة على تشابه الطرح مع أفلام يوسف شاهين، غير محتاجة إلى دليل، وهاجس الحملة الفرنسية وحتى استدعاء منير للغناء. لكن المشكلة الأهم هي انفراد المخرج بكل شيء وذلك مرجع كثرة الأخطاء.

كلما وجدت مخرجاً يكتب السيناريو ويضع الحوار والمعالجة الدرامية والاقتباس، إلخ، تثبت أنه سيرتكب أكبر عدد من الأخطاء كأي ديكتاتور سياسي، وخالد يوسف كان ديكتاتوراً في عمله والأسوأ أنه من خلال ما رأينا كان ديكتاتوراً معدماً، أي فقيراً، فنكّل حسب رأينا بالعمل خاصة في قصة الرسائل المدفونة تحت القبور، والتي بدت تحويلاً ساذجاً لأصل القصة التي تشير إلى توزيع أعظاء السلطاء حامد، بعد تقطيعها لكيلا يتحول إلى مقام ومزار.

وتبقى مزية هذا العمل أنه سيدفع العشرات مثلي لقراءة أو لإعادة قراءة قصة يوسف إدريس، التي حجبتها شعبية قصة أخرى نُشرت معها في الكتاب ذاته وحمل عنوانها: "حادثة شرف". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image