في شتاء سنة 1933، في جبل صاغرو، وعلى قمة بوغافر، وهي إحدى قمم الجبل، حمل الشاب الأربعيني عَسُّو أوبْسْلَامْ، بندقيّته العتيقة، ووجَّه تعليماته الأخيرة إلى جيشه الصغير من رجال قبيلة آيت عطّا، قبل الدخول في مواجهة مع الجيش الفرنسي المدجّج بأحدث الأسلحة، والذي كان يتوقع حسم المواجهة في ساعات قليلة، قبل أن يتفاجأ بجيش باسل يقوده رجل غيور على أرضه، سيكبده خسائر ثقيلةً وسيرغمه على الجلوس على طاولة المفاوضات، رغم أن الجيش الفرنسي كان مكونا من 82 ثمانين ألف جندي.
متصوّف يقود قبائل صاغرو
حمل عسو أوبسلام، الإرث الصوفي عن جدّه داد عطا، وهو إرث له سمات مكّنته من حكم قبيلته في سنّ مبكرة، فالعديد من القبائل الأمازيغية التي كانت تتكون من تيارات مختلفة قد توحدت لتشكّل اتحادية آيت عطا، ويصفهم القائد العسكري الفرنسي جورج سبيلمان، المعروف بـ"الفقيه الحاج سليمان"، والذي عمل جاسوساً في منطقة درعة، بأنهم كانوا "غدّارين وقطّاع طرق، لكن فور تولي أوبسلام قيادتهم أيّدوا الاتحاد وقدّموا الولاء الكامل له".
لم ترضخ الاتحاديّة قط لحكم "المخزن"، ولم تستجب لنداءات الباشا الكلاوي الذي كان يبسط سيطرته على جلّ المناطق المتاخمة لجبل صاغرو، بالتراجع عن مقاومة القوات الفرنسية التي كان يُسمع وقع خطواتها من بعيد، وهي تقترب من الجبل. أمّا عسو أوبسلام الذي كانت في جعبته أسلحة لا تصلح حتى لمواجهة القبائل العادية، فقد كان يؤمن بتضامن جيشه، وبأن الدفاع عن سيطرة قبيلته على المنطقة الواقعة بين "خط دادس-تودغا-فركلة، وغريس شمالاً، وتافيلالت والداورة شرقاً، ودرعة غرباً، وجنوباً منطقة إيغيدي الصحراوية"، يستحق الموت.
لم ترضخ اتحاديّة "آيت عطا" لحكم "المخزن"، ولم تستجب لنداءات الباشا الكلاوي الذي كان يبسط سيطرته على جلّ المناطق المتاخمة لجبل صاغرو، بالتراجع عن مقاومة القوات الفرنسية
وُلد عسو أوبسلام سنة 1890، في قبيلة آيت عطا، في "صاغرو" الذي يبدو كـ"كتلة شديدة التقطع ذات تضاريس فوضوية". هناك تشبّع بالفكر "الصوفي"، وتتلمذ على يد أبيه الذي كان من "كبار" وجهاء قبيلة "إيملشان" الأمازيغية، وشكّل الوسط الديني الذي فتح عليه أوبسلام عينيه، أحد أهم مرتكزات شخصيته الفذة، التي جمعت بين التصوف والدهاء العسكري والتكتيكي، فهو الذي ألِف العيش وسط اتحادية آيت عطا، "مستقلةً" بشعبها الذي لا يشعر بالنقص، ورفض بذلك الرّضوخ للقوات الفرنسية وضحّى هو ورجالاته بالكثير في سبيل حماية استقلال المنطقة من الاستعمار الفرنسي.
في سنة 1919، سيجد وجهاء قبيلة آيت عطا، أن الشاب أوبسلام الذي لم يكمل الثلاثين من العمر بعد، الأكثر أهليةً لقيادتهم، بعد تزايد الأخطار واقتراب القوات الفرنسية من جبل باني، من خلال فرعه الرئيسي الذي يخترقه وادي درعة عند المضيق الصخري "لغم تاقات ن إلكتاون"، فكان التزامه الديني وقوة خطابه والاحترام الذي يفرضه على محدثيه، خلف تنصيبه قائداً لـ"اتحادية آيت عطا".
"تعال لتلقى الجواب"
"على من كتب هذه الرسالة أن يأتي إلى هنا ليلقى الجواب"؛ هذا كان رد أوبسلام على دعوات القائد الفرنسي سبيلمان، بعدما شنّت طائراته غارات "قويةً" على منطقة "إيملشان"، وساهمت المدفعية والمشاة في معارك دموية، استمرت لأكثر من شهر.
أمام الجيش الفرنسي المكون من 82 ألف جندي، ضمنهم فرقتان من الكتيبة الإفريقية المعروفة بـ"الرّماة السنغاليين"، وكتيبتان من جنود "السباي" الفرنسيين القادمين من الجزائر، و44 طائرة، كان هناك نحو 4 آلاف مغربي من التحالف القبلي، يملكون العزيمة لمواجهتهم.
في سنة 1919، سيجد وجهاء قبيلة آيت عطا، أن الشاب أوبسلام الذي لم يكمل الثلاثين من العمر بعد، الأكثر أهليةً لقيادتهم، بعد تزايد الأخطار واقتراب القوات الفرنسية
بحسب بعض الروايات التاريخية المغربية سقط خلال المواجهات 1300 مغربي، ومن الجانب الفرنسي 3500 جندياً، ما أجبر الجيش الفرنسي على اللجوء للمفاوضات لتأمين خروج "مشرف" من المعارك، التي قتل فيها قائد جنود "السباي" هنري دو بورنازيل الذي كان يحاط بهالة القائد المنتصر في كل معاركه في شمال إفريقيا، وانهزم خلالها الكولونيل ألفونس جوان، الذي سيصبح سنوات بعدها ماريشالاً في الجيش الفرنسي، وأحد أشهر القادة العسكريين للجمهورية.
فسّر الكولونيل الفرنسي في مذكراته، نوايا الرسالة قائلاً: "أرسلتها لأوبسلام وأوضحت من خلالها أننا لا ننوي الإبادة ومستعدون للتسامح في حال استسلامهم، لكن ردّه السريع فاجأني كما أدهشني صموده كل هذا الوقت".
"لقد كانت القوات الفرنسية منتشيةً بتراجع قوة المقاومة المغربية في العديد من المناطق، وكانت وقت تقدّمها نحو جبل صاغرو تتوقع حرباً قصيرة الأمد"، يقول سبيلمان.
ويقول أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس، سعيد حاجي، إن "جيش آيت عطا الذي كان في مواجهة القوات الفرنسية امتاز بالولاء الكامل للقائد أوبسلام، والذي كان بحكم تكوينه الصوفي، حكيماً في نظرهم، كما كان خطابه مؤثراً ويبث في نفوسهم الحماسة الكافية لمواجهة سلاح المستعمر المتطور".
لعبت العوامل الجغرافية دوراً حاسماً لصالح قوات أوبسلام، الذي ترعرع وسط جبل صاغرو المعروف بتضاريسه الصعبة، والتي جعلت الحل العسكري البري أمام الجنرالات الفرنسية أمراً مستبعداً، لتلجأ، يضيف حاجي، إلى "شن غارات جوية مكثفة على المنطقة، وهو ما عجل في استسلام أوبسلام، لكن برأس عالٍ وعن طريق مفاوضات شاقة، كان فيها المقاوم المغربي يفرض شروطه بقوة".
مفاوض "صعب"
تشير مذكرات الجنرال سبيلمان، إلى أن المفاوضات مع عسو أوبسلام، كانت "مرهقةً"، فقد "كان مراقباً ومتحفظاً في إبداء رأيه، ولا يخفي اعتراضه على مقترحاتنا على الرغم من انهزامه، كما يمتلك مهارةً جدليةً منقطعة النظير، وكان مستعداً للجلوس لأيام كاملة يناقش فيها الفكرة نفسها، وفي حال انتهاء وقت المفاوضات اليومي كان ينهض نشيطاً ماشياً بابتسامة واضحة مسافة خمس عشرة ساعة للالتحاق برجاله، بينما أعود إلى معسكرنا القريب من خيمة المفاوضات، منهار الأعصاب تماماً".
نجح عسو أوبسلام، من خلال ثباته القوي في المفاوضات مع القوات الفرنسية التي استمرت لثلاثة أشهر، في تحقيق شروطه الأساسية من "إبعاد عدوّه الباشا الكلاوي عن أراضي قبيلة آيت عطا"، مع "الاستسلام لقوات المخزن التي يقودها الاستعمار الفرنسي"، و"إبقاء السلاح بحوزة رجاله من المحاربين شرط عدم استخدامه ضد قوات المخزن"، بالإضافة إلى "عدم تشغيل سكان آيت عطا في أعمال السخرة"، وعدم "استدعاء النساء للغناء في الحفلات الرسمية".
لعبت العوامل الجغرافية دوراً حاسماً لصالح قوات أوبسلام، الذي ترعرع وسط جبل صاغرو المعروف بتضاريسه الصعبة
بعد توقيع الاتفاق سيبقى عسو أوبسلام، قائداً لقبيلة آيت عطا، وسيكسب الاحترام الكامل، وسيدوّي اسمه في ربوع القبائل المجاورة، كما سيلتزم ببنود الاتفاق الموقع مع القوات الفرنسية، إذ يشير الكاتب ميمون أم العيد، في مؤلفه "أوراق بوكافر السرّية"، إلى أن "الفرنسيين انبهروا بذكاء عسو أوبسلام، الذي رفض الدخول من جديد في صراع مع الجيش الاستعماري، بحكم تفوّقه في العتاد، وهو ما لمسه في المعارك الأخيرة التي أودت بحياة العديد من سكان قبيلته".
يشير الكتاب إلى أن "أوبسلام فقد ابنه في معاركه ضد الفرنسيين، وبرغم قساوة الأمر، فقد تجنّب الانتقام، وحافظ على خيار السلام، وذلك قصد تجنيب سكان قبيلته الحرب التي كانت ستودي بحياتهم، وربما بمستقبل قبيلته".
في الستينات من العمر سيترجل القائد أوبسلام، عن صهوة الحياة، بعدما عاش شامخاً وسط قبيلة آيت عطا، تاركاً بذلك الأحداث في الجنوب الشرقي تتشابك لتشكل مستقبلاً جديداً للمنطقة التي باتت تعرف ضمنياً بـ"ورزازات"، وهي المدينة المغربية الأطلسية، التي تعرف اليوم تأخراً كبيراً على المستوى التنموي، وتعيش موتاً بطيئاً بعد تراجع توافد السياح الذين تأتي غالبيتهم من فرنسا، "خصم" أوبسلام القديم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...