"كان يا مكان كان عندنا محمية البلعاس، وكنا نستمتع بأشجار البطم المعمرة ونمضي فيها ليالي السمر، فهي متنفس أهل مدينة سلمية وذاكرتها البيئية والتاريخية، وهي أيضاً ملهمة الشعراء والفنانين"، بهذه الكلمات استهل الكلام الناشطُ البيئي عبد الكريم ضعون، وهو من محافظة حماة وسط سوريا.
وأوضح ضعون أن هذه المحمية الضخمة جزء مهم من حياة أهل سلمية، ومكان شهد أفراحهم ومناسباتهم، لكن الحال تغير اليوم بعد الحرب، فغالبية أشجار المحمية تعرضت للقطع، واقتحمها المسلحون ونشروا فيها الألغام، حتى بات من العسير الدخول إليها.
كان يا مكان كان عندنا محمية البلعاس، وكنا نستمتع بأشجار البطم المعمرة ونمضي فيها ليالي السمر.
يسترجع ضعون، الموظف الحكومي السابق، بعض الذكريات المتعلقة بالطريق المؤدي إلى البلعاس، متحدثاً عن قصة مجموعة من شبان سلمية، قرروا القيام بنزهة في الطبيعة وشيّ خروف أحضروه معهم، ولكنه هرب منهم وضاع بين أشجار المحمية الضخمة، وبقوا من دون طعام ما دفعهم للبحث بين نباتات هذه المحمية واستبدال اللحم بالكمأة.
تعديات ما قبل الحرب
تقع محمية البلعاس ضمن البادية السورية، في الجهة الجنوبية الشرقية من محافظة حماة، بمحاذاة الطريق بين بلدة عقيربات ومدينة تدمر، وتتبع إدارياً إلى منطقة سلمية، وتعد إحدى أهم المحميات البيئية الحراجية افي البلاد، وهي مصنفة محمية وفق القانون الوزاري رقم 19 لعام 2003.
رغم التعديات الكبيرة التي عانتها المحمية بسبب الحرب، لم تسلم في الماضي من التعديات أيضاً رغم الجهود الحكومية لحمايتها، وتوضح إخلاص الدبيات، مسؤولة لجنة البيئة في جمعية "عاديات سلمية"، أن اللجنة من خلال الزيارات المتكررة للمحمية، رصدت تدهوراً كبيراً في أوضاعها، وكان التدهور يزداد عاماً بعد عام نتيجة التحطيب والقلع والرعي من قبل السكان القاطنين في القرى المجاورة أو النازلين في بيوت الشعر على محيط المحمية من كل اتجاهاتها، والذين يعملون في تربية الأغنام ، عدا الصيد وما إلى ذلك من حفريات أثرية غير مشروعة بالإضافة إلى غياب نظام الحماية.
من الأشجار المتبقية في محمية البلعاس
وتقول الدبيات لرصيف22 إن التدهور الواضح بدأ منذ مطلع عام 2005 نتيجة انخفاض أداء نظام الحماية، وكان ذلك من خلال ظهور مؤشرات لم تكن موجودة من قبل، مثل عدم فرز عناصر من حفظ النظام، وعدم تعيين حراس جدد لتغطية كافة المحارس في المحمية ومسيج الغزلان، وتجريد الحراس من أية أداة دفاعية أو أجهزة اتصالات رغم قلة عددهم وعدم تغطيتهم المحمية، وتقليص عدد الآليات المخصصة للحماية وتخفيض المخصصات من الوقود لهذه الآليات، وتحديد المسافات التي تتحرك بها الآلية مما انعكس سلباً على وتيرة العمل، إلى جانب توظيف أغلب العاملين في مجال الحماية من أهالي المنطقة، وهذا يتعارض مع طبيعة عملهم، فهم حماة المحمية من تعديات أقربائهم مما يضعهم في موقف حرج عند مواجهة المخالفات.
وتختم الدبيات بأن الأمور ازدادت سوءاً بعد الأزمة السورية، وتعرضت المحمية لتعديات كبيرة وقطع لأشجار البطم المعمرة ولم يبق فيها "إلا كل طويلة عمر" وفق تعبيرها.
لم يبق من غابات البطم الأطلسي، التي كانت تشغل 300 ألف هكتار في المناطق الداخلية من سوريا، سوى بضع مئات من الهكتارات بسبب الرعي الجائر والقطع. في الواقع لم تعد توجد غابات بطم بل أشجار مبعثرة، خاصة في الوديان المنخفضة
تمتلك البلعاس تنوعاً نباتياً كبيراً، بحسب ما يشرح المهندس بلال إبراهيم وهو مشرف على محمية الأرز والشوح في ريف اللاذقية، فهي تضم أشجاراً معمرة طبيعية، أهمها البطم الأطلسي، غير أن قطعها الجائر أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أدى إلى تراجع كبير في أعدادها وانتشارها.
ويوضح إبراهيم لرصيف22 أن تنوع النباتات الطبيعية والرعوية في المحمية أدى لتعرضها للرعي والتحطيب الجائرين، وتالياً وقوع أضرار كبيرة في معظم أنحائها، إلى جانب قطع الأشجار بهدف التوسع العمراني وهو بمعظمه مخالف قانونياً.
القطع الجائر
الشجرة الأبرز في المحمية هي شجرة البطم الأطلسي، وهي نوع شجري معمر يتبع جنس البطم، ويتميز بمقاومته للجفاف وبظلاله الوارفة، ويكثر في المغرب والمشرق العربي وبلاد الشام.
ويشرح عمر زريق من مديرية الحراج بوزارة الزراعة والإصلاح الزراعي، أنه لم يبق من غابات البطم الأطلسي، التي كانت تشغل 300 ألف هكتار في المناطق الداخلية من سوريا، سوى بضع مئات من الهكتارات بسبب الرعي الجائر والقطع، ويضيف: "في الواقع لم تعد توجد غابات بطم بل أشجار مبعثرة، خاصة في الوديان المنخفضة".
من قطع أشجار البطم في سوريا
وعن توزع هذه الأشجار في سوريا يوضح المهندس زريق أن أشجار البطم تنتشر بشكل مبعثر في جبل البلعاس شرق حماة بحوال، 120 كيلومتراً وعلى مساحة 12 ألف هكتار، وتنتشر أشجار متفرقة أيضاً من البطم الأطلسي على مساحة قدرها 4220 هكتاراً في جبل عبد العزيز في الجهة الغربية من محافظة الحسكة، بالإضافة لانتشارها في مساحة قدرها 10 آلاف هكتار بشكل مبعثر في جبل أبو رجمين شمال شرق تدمر بحوالي 45 كيلومتراً.
وتقول المهندسة شادن القصير رئيسة دائرة التنوع البيئي الحيوي في سوريا، إنها ابنة المنطقة وهي تعرفها بشكل جيد، "وواقع البلعاس اليوم لا يشبه واقعه في الماضي بسبب التعديات الكبيرة التي تعرضت لها، من أعمال التحطيب والرعي، خاصة بعد العام 2011، ونتيجة لهذا تراجع عدد شجر البطن من الآلاف لبضع عشرات". وتضيف: "وفقاً لإحصائيات 2002 كان عدد أشجار البطم الأطلسي وشجيرات السويد في البلعاس نحو عشرين ألفاً".
وتكمل أنهم خلال جولتهم الأخيرة على المحمية في تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، بعد إزالة الألغام من أحد أجزائها، لاحظوا وجود أماكن قُطعت فيها الأشجار، وبقيت مشجرتان أو ثلاث.
التدهور الواضح في محمية البلعاس بدأ منذ مطلع عام 2005 نتيجة انخفاض أداء نظام الحماية وعدم تعيين أي حراس جدد، والأمور ازدادت سوءاً بعد الأزمة السورية، وتعرضت المحمية لتعديات كبيرة وقطع لأشجار البطم المعمرة ولم يبق فيها "إلا كل طويلة عمر"
وتواصل: "رغم الواقع السيئ يوجد شيء من الأمل لمسناه من خلال حالة الغراس الجيدة التي زُرعت خلال مواسم التحريج السابقة في ثمانينبات القرن الماضي، حتى عام 2010 وبنسبة نجاح تصل 80%، كما يوجد تجدد طبيعي على جوانب المسيلات المائية، ولهذا قررت مديرية الحراج تزويد المحمية بخمسمئة شتلة بطم أطلسي لزراعتها عند المسيلات على أمل زيادة النسبة في السنوات القادمة مع تحسن الظروف". وتلفت إلى أنه في حال بقي الوضع على حاله من استمرار منع الرعي، يمكن أن نسترجع ألق المحمية خلال سنوات قليلة.
من الأشجار المتبقية في محمية البلعاس
بدوره أوضح الدكتور عبد الكريم المحمد، رئيس دائرة الحراج في مديرية الزراعة والإصلاح الزراعي، أن عدد أشجار البطم المعمرة قبل الحرب بلغ 4500 شجرة، تقلّص ما بعد الحرب إلى 150 شجرة بسبب القطع الجائر.
وعن الحياة البرية في المحمية، بيّن أنها موجودة لكن بأعداد قليلة، لأن انعدام الغطاء النباتي أدى إلى ندرة وجود الحيوانات البرية، التي كانت تنتشر فيما مضى ضمن المحية، مثل الذئاب والضباع والثعالب والغزلان، إلى جانب الطيور البرية مثل الحجل والقطا والهدهد واليمام والحمام البريان والبوم والعقاب، وقوارض وزواحف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.