أقسم أني لم ألوّث النهر، ولم أقطع شجرة، أو أقتل نبتةً... هذا جزء من قسم المصري القديم أمام محكمة العدالة ماعت، بعد موته. فقد بجّل قدماء المصريين الأشجار والنباتات، وعدّوا بعضها مقدساً، مثل شجرة الجميز، وشجرة المورينغا، ونبتة اللوتس. ولا دهشة في ذلك، فقد كانت الزراعة نواة الحضارة المصرية القديمة في الأساس.
"تطوير ومصلحة للمصريين"
اليوم، توجد حرب شعواء على الشجر والمساحات الخضراء في مصر، في المدن كلها تقريباً، وليس في العاصمة فحسب، لم يكن أولها مذبحة الأشجار في حدائق المنتزه في الإسكندرية، منذ الـ2018، وحتى الأسبوع الماضي، وكذلك الحدائق العامة في الإسماعيلية، والمنصورة، وبورسعيد لاحقاً. وفي شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، جاء الدور على حديقة المريلاند الشهيرة، في جنوب القاهرة، وأخيراً حديقة الأسماك في حي الزمالك، ما دفع بعض النواب لتقديم استجوابات للحكومة في مجلس النواب المصري، عما يحدث في المريلاند، وفي حديقة الأسماك، تحديداً، لأهميتهما التاريخية والأثرية.
انتفض قطاع كبير من المصريين، وأرسلوا العديد من الشكاوى والاستغاثات لمنع قطع الأشجار في أحيائهم وشوارعهم، ونددوا بمذابح الأشجار، والحدائق العامة.
ذلك كله بدعوى التطوير، والمصلحة العامة، كما صرحت الحكومة المصرية، متمثلة في وزيرة البيئة، إلى درجة تدعو إلى الدهشة والغرابة. تدمير الحدائق، وقطع الأشجار، يُعد تطويراً، ومصلحة عامة للمصريين! ربما نصدق ذلك الادعاء بخصوص الأشجار في الطرق العامة والشوارع، لتوسيعها، للحد من الزحام، لكن ماذا بخصوص حديقة الطفل في المنصورة، التي تمت إزالتها عن بكرة أبيها؟ أو حدائق المنتزه في الإسكندرية، أو الميريلاند في مصر الجديدة؟ وهي كلها حدائق مغلقة لها أسوار، ولا علاقة لها بالطرق والمحاور المرورية الجديدة، بل تم تجريفها، وقطع أشجارها، لإنشاء مطاعم "تيك أواي"، وأكشاك للسجائر.
من ناحية أخرى، على الورق، وفي الرسميات، تجد أن الحكومة المصرية من أكبر الدول الداعية للحفاظ على البيئة، والاهتمام بالأشجار، وزيادة المسطحات الخضراء، في عدد كبير من المؤتمرات والاتفاقيات والمبادرات، أهمها المبادرة الرئاسية اتحضر للأخضر عام 2019، ومشروع زراعة مليون شجرة في شوارع مصر، في العام نفسه، وكذلك سن البرلمان المصري قوانين صارمة على من يجورون على الأراضي الزراعية كلهم، بالحبس، وغرامة 50 ألف جنيه على كل من يقطع شجرةً. ومؤخراً، ترأست وزيرة البيئة المصرية الاجتماع الوزاري لاتحاد من أجل المتوسط، لمناقشة التغيير المناخي، وأكدت أن مصر تهدف إلى أن تصل إلى نسبة 50% من مشروعاتها، خضراء، بحلول عام 2024، في الوقت نفسه الذي وضع المتخوفون أمثالي أيديهم على قلوبهم، مع التوجيهات الرئاسية للحكومة بتطوير حديقة الحيوان في الجيزة، ورفع كفاءة المتنزهات العامة، خوفاً من تكرار مذابح الأشجار المعمرة، والنادرة، في حديقة الحيوان، وحديقة الأورمان في جوارها.
ذلك كله بدعوى التطوير، والمصلحة العامة، كما صرحت الحكومة المصرية، متمثلة في وزيرة البيئة، إلى درجة تدعو إلى الدهشة والغرابة. تدمير الحدائق، وقطع الأشجار، يُعد تطويراً، ومصلحة عامة للمصريين!
أشجار "الفيكس"
على المستوى الشعبي، انتفض قطاع كبير من المصريين، وثاروا إلكترونياً على مواقع التواصل، وأرسلوا العديد من الشكاوى والاستغاثات لمنع قطع الأشجار في أحيائهم وشوارعهم، ونددوا بمذابح الأشجار، والحدائق العامة، في محافظات مصر، لاسيما في العامين الأخيرين، ودشن الغاضبون مجموعات خاصة على فيسبوك، لتوثيق جرائم السلطة التنفيذية في الأحياء المحلية، في قطع الأشجار النادرة وبيعها، وتم بالفعل محاكمة مديرة حديقة المنتزه في حي بور فؤاد، في محافظة بورسعيد، بسبب قطعها أشجاراً نادرة، وبيعها، لكن لا زال التعدي على أشجار مصر مستمراً، بشكل مخيف، لا سيما مع معرفة أن المساحة الخضراء الموجودة في مصر، والحدائق العامة، أقل بكثير من الحد الأدنى العالمي، الذي يختلف من دولة إلى أخرى، حسب الطبيعة الجغرافية للدولة، وموقعها، إذ من المفترض في حالة مصر أن يتوافر لكل منطقة فيها خمسة آلاف نسمة، مساحات خضراء بمعدل 300 ألف متر مربع، وبتطبيق المعدل المذكور على عدد سكان مصر، ومساحتها، نجد حقيقة صادمة؛ فالمساحات الخضراء الموجودة بالفعل في مصر، أقل من 10% من المساحات الواجب توافرها لعدد سكان مصر الحالي، وفقاً للبيانات الرسمية الصادرة عن جهاز الإحصاء، وذلك قبل المذابح الأخيرة طوال العامين الماضيين. فمصر لديها 5،370 مليون متر مربع فقط، تتنوع بين حدائق نباتات، ومتنزهات عامة، بخلاف حديقتي "الحيوان والأسماك"، وما فيهما من أشجار كثيرة، ومساحات خضراء، في حين أننا نحتاج إلى أن يكون متوافراً لدينا نحو 58 مليون متر مربع من الحدائق والمنتزهات.
وسط ذلك كله، واستثماراً للغضب، أطلق البعض مبادرات لزراعة الشوارع في المدن المصرية، بأشجار مثمرة، مثل الليمون والبرتقال، التي لا تحتاج إلى الكثير من المياه، ويمكن الاستفادة من ثمارها، وتعطير الشوارع برائحة أزهارها، بدلاً من أشجار "الفيكس" التي لا يُزرع غيرها في شوارع مصر، منذ أكثر من ربع قرن تقريباً، وتحولت إلى وباء كبير على الشوارع، إذ تستهلك الكثير من المياه، وهي خضراء طوال العام، ما يجعلها ملجأً للأتربة، والحشرات، والقوارض. لكن حتى هذه المبادرات، رفضتها الحكومة، وحذّرت من زراعة الأشجار المثمرة في الشوارع، من دون تخطيط، مؤكدةً عدم نجاح الفكرة في مصر، بسبب تلوث الهواء الذي سيصيب الثمار بالأمراض الخطيرة، ويؤثر على صحة الإنسان إذا أكل منها. وراحت اللجان الإلكترونية الحكومية تروّج أن فلول الإخوان المسلمين، هم مَن وراء اشتعال الغضب الشعبي، مستغلين قطع الأشجار كحجة، لتأجيج الشعب ضد النظام المصري.
كم كنت ساذجاً
بالصدفة، العام الماضي، زرت "حي الأسمرات" في القاهرة، قبيل افتتاح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للمرحلة الثالثة من المشروع السكني الجديد، وكتبت تعليقاً على أخبار الافتتاح وصوره، مفاده أن الحي الجديد، على الرغم من جماله ونظافته، يخلو تماماً من الأشجار، أو أي مساحات خضراء، حتى ملعب الخماسي الموجود، أرضيته نجيل صناعي "ترتان"، وكأن من صمم الحي، ونفّذه، نسى تماماً أن هناك شيئاً اسمه "شجر". يومها، أحد الأصدقاء المبهورين بالمشروعات التنموية للدولة المصرية، وهذا حقه، لامني على رأيي، وملاحظتي التافهة، وكتب يعدد في أهمية المشروع في القضاء على عشوائيات المنطقة التي كان يعيش فيها عدد كبير من المصريين، حياةً غير آدمية. وأنه يمكن زراعة الأشجار في ما بعد. لكن حتى اليوم، لم تُزرع "قصرية" زرع واحدة حتى في الحي. كنت ساذجاً حين صدقت أن من يزيل الأشجار من الأحياء القديمة، سيكلّف نفسه بزراعة شجرة جديدة في منطقة انتهى العمل فيها، وزارها الرئيس، وقام بافتتاحها "خلاص"، واختفت عدسات الكاميرات، والبدلات الرسمية.
وراحت اللجان الإلكترونية الحكومية تروّج أن فلول الإخوان المسلمين، هم مَن وراء اشتعال الغضب الشعبي، مستغلين قطع الأشجار كحجة، لتأجيج الشعب ضد النظام المصري
تقليد أعمى للمدن
هذا العام، الصديق نفسه كلّمني منبهراً بالأشجار الموجودة على الترع، والجسور، في صعيد مصر، بعدما ذهب في زيارة سريعة إلى سوهاج، بالقطار، وشاهد طوال الطريق حتى وصوله، الأشجار العالية والكثيفة، على امتداد خط السكة الحديد، وتمنى أن أكتب عنها يوماً ما. أخبرت صديقي بأن هذه الأشجار بعضها يصل إلى مئتي عام وأكثر، وقام بزراعتها محمد علي باشا، وولده من بعده، الخديوي إسماعيل، اللذان اهتما بالمصارف، والترع، في الصعيد، بإنشاء العديد من الجسور، والسدود، والترع، للسيطرة على جموح النيل في فيضانه، وحماية الأراضي الزراعية، وقاموا بزراعة أشجار الكافور، والسنط، والصفصاف، والنخيل، واللبخ، وغيرها من الأشجار المعمرة التي يعرفها المصريون كلهم، منذ آلاف السنين، لتثبيت التربة للترع، والسدود، بجذورها العملاقة. وهي الأشجار نفسها التي كانت ممتدة حتى كورنيش النيل في القاهرة، وفي الحدائق العامة، والمتنزهات، والشوارع، في أحياء القاهرة الشهيرة، كما صوّرتها لنا أفلام الأبيض والأسود، قبل نصف قرن مضى، لكن تم القضاء عليها تباعاً، وبيعها لتجار الفحم. وحلت علينا لعنة شجر الفيكس، والكونكابارس، التي ليست لها أي فائدة على الإطلاق. حتى القرى في الصعيد، والدلتا، استبدلت أشجار النبق، والتوت، والجميز، التي كانت تملأ الشوارع، بأشجار الفيكس الغبية، كتقليد أعمى للمدن، بعدما أغرتهم أشكال الفيكس، وهي مقصوصة على شكل مربعات، ومثلثات، ودوائر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...