شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
أسماك ملوّنة لابنتي

أسماك ملوّنة لابنتي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 1 أبريل 202311:30 ص

 

الساعة الآن الثالثة عصراً بتوقيت القاهرة. أجلس على أريكتي المريحة بانتفاخ بطني الذي يضم صغيراً بدأ للتو شهره الخامس، وبحزن وارتباك وفرحة عارمة وذكريات تتعارك داخل قلبي وتتساءل لمن الغلبة؟

أفتح اللابتوب وأفتح صفحة الوورد ولا أعرف تحديداً ما أود كتابته، هل سأكتب عن يوم مولد صغيرتي الذي يحل غداً، أم عن أوجاعي تجاه أسرتي التي لم تنته يوماً والتي جدّدتها ما قرأته للتو من مقال علياء طلعت، أم ما أنوي أن أعيشه مع ابنتي والذي يتجدد الحلم به في مارس من كل عام تحديداً مع قرب عيد الأم؟

لا أعرف هل لو كتبت سأمتلك شجاعة النشر؟ هل يمكن النشر دون الاسم؟ لا أعرف.

*****

"في حد هنا مامته متوفية؟" هكذا قطعت معلمة اللغة العربية الغبية كلامها لنا نحن طلابها في الفصل، بعدما أخبرتنا بأننا سنكتب موضوع تعبير عن عيد الأم. أخذت في شرح المحاور المطلوبة، وعدد الصفحات، ووقت التسليم... ثم فجأة ودون أي مقدمات طرحت هذا السؤال البغيض.

كنت الوحيدة من بين زميلاتي في الفصل التي ماتت أمها. رفعت يدي، وبشفقة غبية نظرت إليّ تلك المعلمة، ومن ثم استطردت: سنكتب عن "عيد الأسرة"، مفسرة سبب التغيير المفاجئ بأنها تذكرت للتوّ أن ذلك طلب الوزارة.

لم يحتج الأمر إلى شرح، فقد حاولت المعلمة تكحيل الوضع فأصابتنا جميعاً بالعمى، في ذلك اليوم لم أبك إلا ليلاً عندما خلدت إلى سريري، لم أبك إلا عندما أخبرتني زوجة أبي أنني أغار من ابنة خالي لأني فقط اشتريت حذاء يشبه ما اشترته قبل أسبوع.

لم أبك بسبب كلامها فقط، بل بسبب موقف أبي الذي لم يدافع عني ولو بكلمة واحدة.

"في حد هنا مامته متوفية؟" هكذا قطعت معلمة اللغة العربية الغبية كلامها لنا نحن طلابها في الفصل، بعدما أخبرتنا بأننا سنكتب موضوع تعبير عن عيد الأم... مجاز

في مثل ذلك اليوم- الرابع من مارس- قبل أربعة أعوام، دخلت في أوجاع متباعدة بعض الشيء، والتي كانت تعلن قرب قدوم ابنتي. وبعد ما يزيد عن أربعة عشر ساعة متواصلة من الألم، استيقظت من تأثير المخدر لأجد صغيرة بجانبي، لأطلب رؤيتها وأضمها إلي.

بكيت في لحظة ضمها بكاءً شديداً، يسألني الجميع عن السبب ولا أعرف الإجابة، وبعد ساعات في المشفى الذي وضعتها به، عدت بها إلى المنزل لأقضي معها أول ليلة بمفردنا تماماً.

*****

لم أذهب إلى المدرسة مطلقاً في يوم عيد الأم بعد ذلك، صار اليوم ثقيلاً بدافع الفقد وبدافع الشفقة المصطنعة التي أراها في أعين المدرسين والزميلات.

تقطع زميلاتي كلامهن عما تود كل منهن شرائه لأمها في عيد الأم بمجرد دخولي عليهن، أفهم ما يقصدن وأسكت تماماً وأبكي ليلاً.

مع الكبر يفهم الإنسان حقيقة الفقد والموت، وأنه مهما كانت عقائدك فمن المؤكد أنك تعلم أن النهاية الحتمية لكل حي هي الموت، قد نختلف فيما سيحدث بعد الموت، لكن حدث الموت نفسه لا يقبل الجدال.

أقبل موت أمي بعد أن أتخلى عن مشاعر المراهقة الواهية، وبعد أن أصبح أكثر عقلانية، وأصبح قادرة على الاعتراف، لنفسي على الأقل، أني لا أعرف إن كانت عاشت أمي أكثر، هل ستكون علاقتي بها قوية أم ستشبه علاقتي بأبي الذي اختارته شريكاً لحياتها؟

*****

" أنا عاوزة سمك ملون ياماما"... كبرت صغيرتي الآن بعض الشيء، وأصبحت تنتظر أخيها معي بفارغ الصبر، صغيرة تحب الحيوانات وتنام محتضنة ألعابها من الكلاب والديناصورات، وكل مجسمات الحيوانات التي تفضّل شراءها عندما نذهب لنختار لها الألعاب.

صغيرة تطلب مني شراء قطة لها، فأخبرها أني أخافهم وتحاول إقناعي بأن "القطط طيبة ياماما ومش هتعملك حاجة"، بعد مداولات طويلة تطلب مني شراء سمك ملون.

قرّرت أن أتغلب على خوفي من كل الحيوانات الحية، واشتري لابنتي سمكاً ملوّناً، لعلها تتذكرني به في لحظة خلاف مستقبلية متوقعة

*****

أعود بذاكرتي لأول عيد أم حقيقي يمرّ علي، العيد الذي قضيت ليلته كاملة مستيقظة للفجر، أضم الصغيرة، أهدهدها في محاولة فاشلة لجعلها تنام، كان عمرها خمسة عشر يوماً فقط.

أستيقظ في الصباح لأجد أكواماً من الأطباق ، أجليها جميعاً وأجلس لأحتسي كوباً من النسكافيه بهدوء قبل استيقاظ الصغيرة.

أفتح صفحة فيسبوك، منشورات كل عام التي لا تتغير ولا يتبدل منها حرف..."احتفلوا بصمت لأن هناك من فقد أمه"، "إلغاء حفلات عيد الأم في المدارس تضامناً مع الأطفال الذي فقدوا أمهاتهم"... منشورات تدين وتشجب، وأخرى تصبغ الموضوع بصبغة دينية أنه لا يوجد في الإسلام إلا عيد الفطر وعيد الأضحى، متوعدة من يحتفل بالخلود في نار جهنم والخروج من الملة.

كلام وكلام وكلام، أما أنا فأمسك بهاتفي الجوال وأكتب منشوراً ما زلت أتذكر نصه: "كل عيد أم وأنا طيبة وينعاد عليا بنسبة كالسيوم عالية ومن غير وجع في العضم والسنان".

أتلقى الإعجاب والتعليقات بفرحة عارمة، وأدعو الله بدعوة واحدة: "يارب أعني أكون لها ذاكرة حلوة، تفتكرني بالخير والحب دايما".

*****

هناك مقولة شائعة تخبرنا بأن" فاقد الشيء لا يعطيه" وهو الأمر الذي أثبت خطأه العديد من علماء النفس، الذي يؤكدون أن فاقد الشيء هو أفضل من يمكن أن يعطيه، في تجربتي الخاصة لا يمكنني أن أجزم إن كنت أفضل من يعطي أم لا، لكني أؤكد أنه يصبح مشغولاً به ويسعى إليه مهما كلفه الأمر.

الذكريات الطيبة هي أكثر ما أفتقده في علاقتي بأبي، بل بالمنزل بالكامل بكل من فيه، وهو أكثر ما أريد أن يتحقق في علاقتي بابنتي.

"عاوزة سمك ملوّن ياماما"...أمسك بهاتفي الجوال وأكتب: "كل عيد أم وأنا طيبة، وينعاد عليا بنسبة كالسيوم عالية ومن غير وجع في العضم والسنان"... مجاز

أقرأ مقال علياء طلعت عن الحبة الذي انفجرت بقلبها، وأعترف أنني أحمل تلك الحبة التي يمكن أن تنفجر بأي وقت، ولكن ما يشغلني حقاً: هل يعرف آباؤنا ما تحمله قلوبنا وما بداخل أنفسنا، ومن ثم تترجمه بعض نقرات على الكيبورد ليشكل كلاماً نشاركه في بعض الأحيان ونخشى في أحيان أخرى مشاركته؟

بالنسبة لأبي فالإجابة قطعاً لا... أبي لا يعرف أنني ما زلت أتذكر كلامه القاسي لي في الطفولة، وإن عَلِم سيبرّر الأمر بأنني أمتلك قلباً أسود لا ينسى.

أبي يراني عصبية متقلبة المزاج، ولا يعرف أن السبب – الذي علمته الآن بعد سنوات وفي خلال رحلة طويلة من التعامل مع صحتي النفسية- أنني افتقدت الحب صغيرة...

أبي لا يعرف أنني يمكن أن أكتب مثل تلك السطور، فهو لا يعرف أني أعمل بالكتابة، وهذا جل ما أخشاه في علاقتي بابنتي، لا أخشى بالطبع أن يكون لها حياة خاصة، ولكن أن تكون ابنتي من عالم لا أعرف حتى ملامحه، ألا أعرف انتماء ابنتي وأفكارها، سواء كانت نفس أفكاري أم أفكاراً مضادة لما اعتقده.

*****

تتجدد علاقتي بابنتي في كل عام في مارس الذي يضم مولدها، حيث تكبر بطريقة تثير دهشتي، عاماً بعد عام تسألني الصغيرة وتفهم وتستفسر، في هذا العام سألتني ابنتي عن معنى كلمة سمعتها لأحد أعضاء جسد الإنسان، ولكني أجبتها بلا خجل...

تسألني الصغيرة اليوم عمن خلق الله، وعن الشيطان، وعن معنى ألفاظ نابية تخترق آذاننا بينما نسير في الشارع، أحاول أن أشرح بقدر ما تفهم وأكرّر أن تلك الكلمات لا يمكن أن نرددها، وأفرح أنها لا تخاف من السؤال.

*****

منذ عامين تقريباً، قرّرت أن أجدد ذكريات مارس واستبدلها بأخرى أفضل مع ابنتي، وبالفعل أقوم بذلك قدر استطاعتي، ولا أضيع أي فرصة لذلك، لذا عندما قرأت أحد المنشورات على فيسبوك، تعلن صاحبتها أنها من تشتري هدايا عيد الأم لأولادها، أعجبتني الفكرة، خاصة في سن طفلتي التي ما زالت صغيرة.

لذا قرّرت أن أتغلب على خوفي من كل الحيوانات الحية، وأن أفتح لنفسي باباً جديداً للحياة، واشتري لابنتي سمكاً ملوناً، لعلها تتذكرني به في لحظة خلاف مستقبلية متوقعة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image