الخائف
بالأمس انفجرت هذه الحبة بعدما انفجرت أخرى في قلبي، وثالثة في كل جسمي، زلزلة نفسية أجبرت بشرتي على الحركة لتخرج كل ما فيها كما لو أنها تتقيأ قيحاً يتجمع على مدار سنوات عمري.
*****
"تسألني أختي ماذا لو كان أبونا غير هذا الأب، كيف تتخيلين حياتنا؟ أجيبها ساخرة: كنت سأفقد قدرتي على الكتابة، أجمل مقالاتي يدفعها غضبي من أبي، أو غضبي من أشياء تذكرني بأبي".
كامرأة اختبر الغضب يومياً، أغضب عندما يفترض شخص ما بصورة آلية أني لا أستطيع صف سيارتي بشكل سليم لمجرّد أني امرأة، أو يحاول آخر تخطي دوري لأني أبدو سيدة مهذبة لن تفتعل مشكلة، أغضب في عملي من تعديلات المحرّرين، وعندما يحترق طعامي الذي أطهيه لأن هناك أفواهاً تحتاج لطعام بلا أي رغبة حقيقة في الطهو، أو تصميم ابنتي على عدم القيام بواجباتها المدرسية على الرغم من كل الإغراءات، غضبات صغيرة تأتي مثل هبات واهنة من الرياح، وأعود مرة أخرى لحالتي الساكنة.
لكن هناك غضباً آخر اختبرته مرات لا تزيد عن الخمس في حياتي، غضب هادر، يجعلني أفقد السيطرة على جسدي، عنف يخرج بصوت عال لا أستطيع التحكم بطبقاته، كلمات سريعة للغاية لا يحتاج عقلي حتى لترتيبها، لسان يبدو حراً، يعلم ما يريد قوله بالضبط ولا يمكن إيقافه أو توجيهه.
تسألني أختي ماذا لو كان أبونا غير هذا الأب، كيف تتخيلين حياتنا؟ أجيبها ساخرة: "كنت سأفقد قدرتي على الكتابة، أجمل مقالاتي يدفعها غضبي من أبي، أو غضبي من أشياء تذكرني بأبي"... مجاز
لم تخطئ هذه التسونامي هدفها ولا مرة، غضبتي الهائلة ليس أمامها سوى هدف واحد: أبي. يبدو الأمر كما لو كان مشهداً سينمائياً يتم استعادته بالفلاش باك عدة مرات على طول شريط الفيلم، كومتيفة لها دلالة خاصة، المشهد يتكرّر تقريباً بحذافيره، الكلمات مختلفة لكن المفجّر واحد، والتصاعد حتى الانفجار واحد. شخص مقرّب مني يتعرض لقهر معتاد، يستعيد جسمي كل لحظات القهر التي لم يدافع فيها أحد عني، ويقرّر تولي الموقف بنفسه. أخرج منه، أصبح هناك بالأعلى، أشاهد هذا المشهد السريالي العجيب لجسدي يرتعش وصوتي يجلجل، وكلماتي لا يمكن إيقافها.
ثم أعود لجسدي بخلاياه المبعثرة كما لو أنه ضحية إعصار حقيقي: حلقي ملتهب، الطعام المصمّم على أن أتقيأه في جوفي، لا أعلم كيف ألملم كل هذا الشتات وأعود مرة أخرى زوجة، أخت وامرأة عاملة.
في أفلام الأبطال الخارقين، البطل/ الوحش هالك تنبع قدرته من غضبه، يتحول من دكتور بروس، الطبيب والعالم، إلى عملاق أخضر اللون، تتمزق ثيابه بطبيعة الحال، ثم ينكمش لجسمه الاعتيادي بعد زوال الغضبة بملابس مهلهلة ووجه مرهق.
بالأمس انفجرت ثلاث حبات، الأولى في قلبي، وأخرى في جسدي، وثالثة بجوار عيني تصلح لأن تكون مجازية لكنها حقيقية
*****
أجلس على أريكتي الحمراء، أبكي بصمت وأنا أحكي لصديقاتي عن آخر شجاراتي العملاقة مع أبي، ثم لزوجي وأخبره أني أريد استعادة سلامي النفسي مرة أخرى. لا يفهم أحد ما أتحدث عنه. لست حزينة لأني تشاجرت مع أبي، أو فسدت العلاقة بيننا للأبد، أنا حزينة على ما عملت عليه لمدة عام ونصف تقريباً.
منذ خرجت من علاقة عمل مسيئة وطويلة قررت أن يكون على رأس أولوياتي عنايتي بصحتي النفسية، طريق طويل من التعافي، استبدلت باليوجا والتمارين الرياضية والجولات حول مسكني تحت أشعة الشمس الأدوية النفسية الموصوفة لعلاج القلق، توقفت عن أخذ المنوم لصالح روتين نوم طويل ومريح للأعصاب، قَلت نوبات غضبي لما يدنو من الصفر، وأصبحت أهدأ بالاً، أبدأ يومي بتحية للشمس لأني حية ليوم آخر.
تلك حياة صنعتها بنفسي، اجتهدت وعملت عليها كأي مشروع صغير، ولكن الآن بعد تحولي لهذا "الهالك" عدت ووجدتني مثله في ثياب ما بعد الانفجار، خلايا جسمي مبعثرة لا تستطيع الالتئام مرة أخرى بسهولة.
أتخيلني أخرج فيلماً رديئاً، حول ابنة تقرر اللجوء إلى الطب الحديث، فتمسح كل ذكرياتها عن والدها من مخها لتحظى بحياة هادئة، سأجعل نهاية بطلتي سعيدة وغير نادمة... مجاز
لا أبكي على غضبة أو علاقة مضطربة، أبكي على هدوئي وسلامي وحياتي، أبكي خوفاً من عودة لنقطة صفر غادرتها بإرادتي، أبكي كيمياء مخي التي اضطربت مرة أخرى، أبكي رحلة صعبة خضتها وحيدة، أبكي لأني لا أستحق كل ذلك وأعلم أني لا أستحق كل ذلك.
أتخيلني أخرج فيلماً، رديئاً مكرراً، حول ابنة تقرر اللجوء إلى الطب الحديث، فتمسح كل ذكرياتها عن والدها من مخها لتحظى بحياة هادئة، تخبرنا القواعد السينمائية أن هذه الشخصية الرئيسية ستفتقد أشياء كثيرة من ماضيها متشابكة مع ذكريات الأب، فتندم على هذا الخيار، ولكني سأكسر أفق التوقعات هذا، سأجعل نهاية بطلتي سعيدة وغير نادمة.
أبكي فيقول زوجي محاولاً التخفيف عني وحثي على الضحك: "كيف تنهارين؟ أنتِ الفتوة الخاص بنا، من سيدافع عنا وأنتِ منهارة". يقدر زوجي دوري هذا، ويخبرني دوماً أنه لا يشعر بالقلق إن حدث له أي شيء لأني بجواره وسينال دعمي على الدوام، ولكن على مدار سنوات حياتي، اضطررت أن أكون "فتوة المنزل" الذي يحمي نفسه وغيره لأسباب عدة. دور مجهد وغير مقدر بما فيه الكفاية، ففي الكثير من الأحيان تخطئ الضحايا بين المعتدي والمدافع، وتظن أنه لو صمت الأخير ربما لعدّت الموجة بسلام.
لم أختر دور الفتوة أو الحامي، لم أوقع على أي عقود عند الولادة، لا أرغب في أن أُرسم بطلة أو قديسة، أتمنى أياماً اعتيادية وهدوء بال وروتيناً مملاً. أنا أيضاً ضحية لأني أجرّ لصراعات لا ناقة لي فيها ولا جمل، ضحية لأني أحب من أحب بالفعل، ولا أرى نفسي وبدون وعي إلا مدافعة عمن أحب حتى الموت، تلك هي أنا، خليط من الجينات والمبادئ لا يمكنني تغييره حتى لو رغبت.
مالم يقله زوجي أن الفتوة لا يوجد من يدافع عنه في معاركه النهائية، لا يُسمح له سوى بالنصر أو الهزيمة، جسدي يعلم ذلك، ومن بين الثلاثة أحوال التي أخبرتنا عنها العلوم التي يدخل فيها الجسم في الصراعات "Freeze, Flight, Fight" (التجمّد، الهرب، القتال) يقرّر جهازي العصبي كل مرة زجي بالدور الأخير.
*****
بالأمس انفجرت ثلاث حبات، الأولى في قلبي قطعت آخر صلة في علاقة ميتة بالأساس، وأخرى في جسدي زلزلت حياتي التي ظننتها متينة البنيان ومسيطر عليها، وثالثة بجوار عيني تصلح لأن تكون مجازية لكنها حقيقية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...