الهامش/المتن
أنحدر من عائلة تلقب في مدينتنا بــ "عائلة الشاعر"، وعلى الرغم من هذا الاسم الذي تشعّ منه الثقافة مثل شمس في ظهيرة تموز، إلا أن الكتابة والمطالعة هي معادل الجنون بالنسبة لأهلي... أما بالنسبة إليّ، فقد كنت في البداية مختلفاً قليلاً، أو لنقل مختلفاً حدّ التخلّف عن أقراني الذين اتجهوا نحو اللهو وتركوني أقارع طواحين أفكار وهمية.
ومثلما لم أكن ذكياً متميزاً، لم أكن غبياً شارداً في أزقة المدينة أيضاً، كل ما في الأمر أنني كنت هامشياً بتطرّف. أتوغل في ذاك المكان الخالي من الأحداث والأشخاص، ولا أخرج منه إلا قليلاً...
في الهامش
لا نقاط تُسكت الجُمل
لا إشارات استفهام تنظم سير مواكب الأسئلة
ولا عصيّ تعجّبٍ تنهال على قدمي حوار مارّ.
المدى مفتوح لتمرد فكري
وضيّق بعرض سبابة ديكتاتور
فأرجو أن تتركوني هناك، مقيداً بحديد المفردة.
تصدّع القوقعة
هكذا كانت البداية، ثم وقعتْ بين يدي كتب منهاج الثانوية العامة التي أحضرها والدي لإكمال حلمه المبكر / المتأخر. حينها بدأت جدران هامشي بالتصدع شيئاً فشيئاً. فبعد اكتشافي لجغرافيا بعيدة عن حدود حيّنا، وتاريخاً يسحب دلو الفضول فارغاً، ثم يعيده مليئاً، وشِعراً يشبه الحفر في تربة هشة، اندفعت لعدم الاكتفاء، فصرت أداوم على المشي خمسة كيلومترات، ومثلها للعودة، لأسبح قليلاً في الكتب التي امتلكها أولاد عمتي.
مثلما لم أكن ذكياً متميزاً، لم أكن غبياً شارداً في أزقة المدينة أيضاً، كل ما في الأمر أنني كنت هامشياً بتطرّف. أتوغل في ذاك المكان الخالي من الأحداث والأشخاص، ولا أخرج منه إلا قليلاً... مجاز
في كل مرة أحاول اختلاق سبب للذهاب إليهم غير تلك الكتب، فاعتدت الكذب كيلا أظهر غريب أطوار في محيط لا يحتمل أكثر من نوع بشري أو بحري واحد.
إن كنت سمكة
اتبع خطى السلمون
وانصت لخرير المنابع
كي لا تجد نفسك وجبة في صحون "لو" المتكررة.
داخل أسوار المدرسة، خارج أسوار الحياة
في المدرسة أيضاً لم أكن متميزاً إلا بالهدوء وبالقفز عن السور هارباً من الدروس. وفي الحصة أستمع للجميع، أكوّن عالماً صغيراً لكل تلميذ، وعالماً شاسعاً للمعلم، عالماً مشرعاً على حوادث يومية وحروب، كأن أتمنى أن يلقى حتفه برصاصة أو بنزلة برد، أو أي مرض يشغله عن تكرار سؤاله المعتاد: لماذا تغيّبت البارحة؟
كنت كسولاً، بتأكيد علاماتي المتدنية ولسعات عصي المدير عالية الألم، وعلى الرغم من ذلك، أسّست لي المدرسة مساحة صالحة لزراعة الخيال، من مجموع العوالم التي خلقتها طوال سنين دراستي.
هذه الحياة مدرسة
والتلاميذ الذين أحببناهم
تغيبوا البارحة أيضاً
قفزوا تباعاً بمساعدة الحرب
خارج أسوار الحياة
هم مرتاحون الآن
فلم يعودوا مجبرين على تقديم مبرر لغيابهم.
نافذة ضيقة لعالم واسع
عندما أُطلقَ أثير قناة MBC2 في تلفازنا المشوّه، على الفور صرت من متابعيها، بل وذهب بي الأمر إلى حد الالتصاق الدائم بالشاشة الصغيرة، آكل وأشرب وأستمني وأنام أمام جمهرة من الممثلين الغربيين، الذين أحبوا وجودي مثلما أحببت عزاءهم بعد لوم أمي المتكرّر كلما دخلت الغرفة ووجدتني برفقتهم.
- اللهم رزقتني ولداً وحيداً، وها هو قد أصبح مجنوناً! لا يكتفي من التصرف بغرابة...
تطلق كلماتها مثل قذائف طائشة، ثم تخرج بحسرة تغمر قلبها، فأعود إلى ما أنا عليه، من دون إضاعة مشهد واحد...
مئات الأفلام عادلت مئات الكتب، جنوني الجميل ما زال ينمو. هذا ما خلصتُ إليه بعد محاولاتي الفاشلة للخروج من فقاعة الجنون التي نفثتها عائلتي حولي.
لست وحيداً يا أمي
فهذه الفقاعة ليست سوى طريقاً زلقة ومزدحمة
أولها إشارة لوم من يدك
وآخرها مفردات تحاول بجهد الوصول إلى رصيف الكتاب،
كهذه تماماً.
حين أمطرت الحرب رصاصها على أرضنا، لم أسع للحصول على مظلة آمنة تقيني الموت، بل فضّلت ارتكاب ما أنا بارع فيه، ولا أبالغ مطلقاً إن قلت: صرت ظلاً للمصائب، أتتبع الغربان إلى حيث ستلقي حجارتها، وأدوّن المشهد... مجاز
ظل للمصائب
أما حين أمطرت الحرب رصاصها على أرضنا، لم أسع للحصول على مظلة آمنة تقيني الموت، بل فضّلت ارتكاب ما أنا بارع فيه، ولا أبالغ مطلقاً إن قلت: صرت ظلاً للمصائب، أتتبع الغربان إلى حيث ستلقي حجارتها، وأدوّن المشهد.
في تلك المرحلة، نبتت أولى براعم الكتابة في تربتي، كتابة تشبه النواح، سطور تنبعث منها روائح الجثث والبارود والنار... وعلى الرغم من سوداوية المشهد، إلا أنني نجوت.
لتنجو...
اترك سطورك وما بينها
واجتز الصفحة
فليس لدينا حقائب
تتسع لحمل كل هذه الجثث.
هكذا قالت أمي ونحن في الطريق إلى قص الأسلاك الشائكة.
جنون رسمي
حين وصلت إلى حيث أنا الآن، لم أجد من أتحدّث إليه، راح الجنون -بشكل حقيقي- يحوم حول جثة عقلي التي باتت بحاجة إنعاش فوري، فكتبت.
هذه الحياة مدرسة
والتلاميذ الذين أحببناهم، تغيبوا البارحة أيضاً، قفزوا تباعاً بمساعدة الحرب
خارج أسوار الحياة
على الورق استحضرت كل من احتجت، صنعت أصدقاءً وحبيبة، أبناءً وزوجة وأهلاً غير أولئك الذين حاصروني بالحقائق، قطعت شجرة عائلتي وطبخت عليها سناريوهات لحياة جديدة، حاورت أعدائي وأطلقت عليهم الخضوع، حاورت حلفائي وأطلقت عليهم الرصاص... وهكذا.. إلى أن بدأت أحصل على جوائز لأفعالي...
في حضن هذا الفراغ
لا أفعل شيئاً
سوى
تسلق شجرة الفكرة
مثل حالمٍ
أو رميها بحذاء التجربة
مثل بائسٍ
لتُسقِطَ على أرضي
قصائدَ ناضجة
تزيد ذاك الجنون الجائع، شبعاً...
لوثة أكبر
اليوم تطعمني الكتابة وعائلتي خبزاً، تُلبسنا ثياباً، كما أنها نصبت لنا سقفاً يقينا مزاج السماء، ومع أنها باتت أكثر رقة وعطفاً من ذي قبل، وباتت أماً حنوناً لجميعنا، إلا أن عائلتي ما تزال مصرة على أن: الكتابة معادل الجنون.
أتعرفون؟
لو أن لي
لوثة أكبر
لأسكتّ عواء الحاجة بيد
وبالأخرى نحتّ على جدران رغبتي
مفردات أقرب إليّ من هذه...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...