هنّ
كلما انتكستُ، حلمتُ بعجوز تسكن خيمة في صحراء واسعة، تقدّم لي مشروباً أزرق اللون في كأس خشبية، أشربه دفعة واحدة، ثم أتقيأ في قربة تحت أقدامي، تخضها العجوز بعدما أنتهي كثيراً، ثم تضعها على الأرض، فتخرج منها بنات صغيرات، يتسلقن أرجلي وظهري، فتستقرّ دقات قلبي، ويزداد ظهري صلابة وتعود الدماء لوجنتي، بعدها تخبرني العجوز بأنني عدت "زينة" وكل شيء انتهى.
لا أحد يكتب عن ألم النساء مثل النساء، ولا أحد يكتب عن الألم في المطلق مثل النساء، منحتني مذكرات إليزابيث جيلبرت التي طرحتها في كتاب "طعام، صلاة، حب"، إلهاماً كبيراً. كانت تجربة شعورية وحسية بالغة الصدق في بحثها عن السلام النفسي بعد تجربة طلاقها المريرة. أُلحق بعنوان كتاب إليزابيث سطر "امرأة تبحث عن كل شيء"، وكثيراً ما استخدمت هذا السطر في وصفي لنفسي، حتى أني دونته أسفل اسمي في جميع حسباتي على السوشيال ميديا.
"أبحث عن كل شيء"، استعارة واسعة المدى والمجال للتعبير عن رغبة النساء اللواتي يعشن الحياة بتلامسية غير عادية مع كل ذرة فيها حيوية أو غير حيوية. في الكتاب، كانت إليزابيث امرأة أمريكية عمرها 32 عاماً، متزوجة، كاتبة ناجحة، تملك شقة في مانهاتن ومنزلاً في ضواحي نيويورك، بمعنى آخر، كان لديها حياة كاملة لا ينقصها شيء في الشكل العام، أما في الشكل الخاص، فكانت تقضي معظم الليالي على أرض حمامها باكية بسبب دوامة الإحباط والاكتئاب، التي كان زواجها سبباً رئيسياً في جعلها عالقة فيها.
من وقت قصير عشت ألماً يشبه ألمي القديم الذي يرعبني تذكره، وفجأة وجدتني أبكي على أرض الحمام في منتصف الليل. سألت نفسي ليلتها: لماذا يصبح شكل ألمي مشابهاً للصور السينمائية التي تصنع من أجل تجسيد حجم البؤس؟ كنت لا أشعر بشيء سوى الألم، وأرضية الحمام كانت تجعلني أشعر بالبرد، وهذا ما كنت أحتاج إليه، منحتني الأرضية الباردة كثافة شعورية غير كثافة الحزن، أي أن الأمر أكبر من الصور الجمالية لما وراء المشاعر، الأمر كان يشبه قوة تدفعك لرمي جسدك على أي شيء صلب لينزف ويموت، فأصبحت على أرضية الحمام الباردة، وتذكرت إليزابيث.
عدت لقراءة "طعام، صلاة، حب" لأدفأ. سردت إليزابيث خلال فصول الكتاب كيف وجدت السلام النفسي بعد طلاقها الذي خرجت منه محطمة بشكل كبير، وكيف استخدمت الطعام والصلاة والحب للعلاج والنجاة. تركت إليزابيث كل شيء خلفها، وانطلقت في رحلة حول العالم لمدة عام، بدأتها بإيطاليا لتجد السلام في "الطعام"، ومن ثم سافرت إلى الهند، حيث معتزل مرشدتها الروحية، من أجل إيجاد السلام الموجود داخلها "بـالـصلاة"، ومن ثم أنهت عامها في أندونيسيا من أجل إيجاد التوازن بينهما، فوجدته في الوقوع في حب مطلّق برازيلي يعيش في بالي، فكان "الحب".
الرسالة الأولى
عندما وصلت إلى فصل سفر إليزابيث إلى إيطاليا، كتبت في دفتري كل جملة شعرت أنها لي، ثم وضعته تحت رأسي. تنفست بعمق وبشكل منتظم، ومددت أطرافي بشكل متباعد عن بعضها، وتركت اللحاف الثقيل يضمّد لحمي، وعلى طريقة إليزابيث أخبرت نفسي أنني أحبني، وأن الأفكار السيئة لن يكون محلها رأسي، وأن الحزن مكان مظلم لن أعود لسكناه، وأنني في النهاية لست سوى ما أفكر فيه، وعبادة الأفكار السوداء توبة عنها توبة نصوحة، وأنني سيدة أفكاري ولن أكون في ورطة بسببها، وأنني يجب أن أستسلم وأترك الرضا يأتي إلي، وغفوت.
لا أحد يكتب عن ألم النساء مثل النساء، ولا أحد يكتب عن الألم في المطلق مثل النساء... مجاز
في الصباح انطلقت مع صديقتي في رحلة قصيرة لأحد الأديرة التي تقيم مبادرة لرياضة الصمت، لتمكين الضيوف من تسكين الفوضى التي تضرب الحواس والجسد والعقل، وتجعلهم أكثر قدرة على ممارسة اليقظة على بعض الأفكار والصمت على غيرها. كانت الأجواء جيدة، وقادرة على منحك شيئاً من الهدوء. هدأت بعض أفكاري، قرّرت أن أسير على أرض الجنينة الخلفية للمسكن حافية. كنت أحاول استغلال هذه الرحلة لإعادة شعوري بالحياة، لأتلامس معها من جديد وأنظف مخازن الحزن. راحت الحشائش تدغدغ بطن قدمي، والأتربة تسكن بين أصابعي، والبرد يدمع عيني. جلست على أرجوحة متهالكة، وتركت جسدي يتأرجح في الفراغ، وأنا أتلو على نفسي نصّ قانون الحرية الذي كتبته إليزابيث في سيرتها.
"النهار بلغ نهايته، حان الوقت لكي ينتهي شيء جميل إلى شيء جميل، الآن اطلقي سراحه"، "أمنيتك بالثبات كانت دعاء، ووجودك هنا هو استجابة له، اطلقي سراحه"، "حرّري نيتك من العذاب الذي لا طائل له، ثم اطلقي سراحه"، "راقبي حرارة النهار تذوب في برودة الليل، أطلقي سراحه".
بعدها عدت حافية نحو غرفتي وأنا أرتجف من الارتياح، وأردد: "نعم، لهذا تكتب التجارب".
الرسالة الثانية
في محاضرة الصباح في اليوم الثاني، شرح راهب لبناني مسنّ فكرة لا أتذكر من هو صاحبها الحقيقي، كان موضوع الفكرة تصنيف النساء في الحب لأربعة أنواع، لا أتذكر منهم إلا صوفيا، لأنني وجدتني فيها. أخبرنا أن صوفيا تعني الحكمة باليونانية، والمقصود بصوفيا هنا المرأة التي تجمع بين الروح والجسد والعقل والقلب، لحظتها شردت في ذاتي، وسألتني بهدوء: "كيف ضحّى بكل هذه العطايا الحية، وفوقهم حب يشبه الشلالات المتدفقة الصافية، كيف وجد أن هجري أفضل؟".
في الاستراحة، حاولت أن أجد إجابة داخلي لسؤال جديد، وكان: "إن كنت مؤمنة بأنني كنت جيدة لهذه الدرجة، فلماذا أتألم إلى هذا الحد؟"، أكّدت لنفسي فوراً أنني صوفيا، وبنفس اليقين أضفت بأنه توأم روحي، ولهذا أتألم.
وقبل أن أعود للعبة الأسئلة المتقاطعة والتشكيك في أنه توأم روحي، بحثت عن صفحة كنت طويتها في الكتاب وخططت سطورها، وكانت إليزابيث تخبرني فيها بـمعنى أعمق لتوأم الروح، كتبت: "يعتقد المرء بأن توأم الروح هو الشخص الأنسب له، وهذا ما يريده الجميع، لكن توأم الروح الحقيقي ليس سوى مرآة. إنه الشخص الذي يريك كل ما يعيقك، الشخص الذي يلفت انتباهك إلى نفسك لكي تغيري حياتك، توأم الروح الحقيقي هو أهم شخص تلتقين به على الأرجح، لأنه يمزق جدرانك بقوة لكي تستفيقي، فتوائم الروح يدخلون حياتك فقط ليكشفوا لك طبقة من ذاتك، ثم يرحلون".
لا شيء أعظم من أن يجد المرء إجابات لهذيانه الذي يتوقع أنه مجرد تابع لخرابه الفريد من نوعه، شتت إليزابيث يقيني، ورحت أفكر في أنه لو كان توأم روحي، ربما يكون دوره في حياتي كان مقدراً في منحي الشعور بالجودة. أغلقت الكتاب وأنا أردد أخر سطر في الصفحة: "غير أن مشكلتك أنك لا تسمحين لتوأم روحك بالرحيل"، فهمست للقطط التي تتنازع بجواري على عظمة من فخذ دجاجة: "تركته يرحل".
الرسالة الثالثة
في اليوم الثالث في المعسكر، أعدّت موائد بأطباق من دول عديدة، صنعها مجموعة من الضيوف ليشاركوا بشكل أكثر حيوية خلفياتهم. الحريرة المغربية والخبز المسمن في أبهى صورهم، والتبولة اللبنانية على أصولها، أما المسخّن الفلسطيني فكان طبقاً لامعاً، ولونه الخمري منيراً، والكبة النية السورية بجوار المنسف الأردني مثّلا لوحة تراثية رائعة، والحمام المصري المحشو. قررت أنني سأتجنب طبق الحمام، لأنني أعيش في مصر من عشر سنوات ومللته، وأعود لفترة ما قبل آخر عشر سنوات، أي لأكل الشام والمغرب.
لا شيء أعظم من أن يجد المرء إجابات لهذيانه الذي يتوقع أنه مجرد تابع لخرابه الفريد من نوعه... مجاز
سافرت عبر الأطباق، تذكرت، وحبوب برغل التبولة المليئة بزيت الزيتون تضيع داخلي، قرية برجا التابعة لجبل لبنان، ولكنات النساء الجنوبيات وهن يتشاجرن في الضيعة صباحاً، ثم أكلت من جميع الأطباق. كنت بحاجة إلى شعور مربك من الداخل، ملأت صحناً من شوربة الحريرة التي منحتني دفئاً يشبه بيت جارتنا المغربية في الشتاء، ومضغت كميات من خبز البصل بالسماق من طبق المسخن، والذي جعلني أسمع صوت جارتنا الفلسطينية المسنة، وهي تروي لنا ونحن صغار كيف ضربت في رحلتها للضفة جندياً إسرائيلياً بشوبك العجين، ثم انتقلت للكبة النية والمنسف.
تضاربت النكهات وتضاربت معها مشاعري، حاكيت تجربة إليزابيث التي كان الطعام فيها وجهاً من وجوه رحلتها في التعافي، والتي يبدو أنني حاولت تطبيقها بطريقة مبالغ فيها، فمع حلول المغرب تقيّأت عدة مرات، انقبضت معدتي على محاولات التعافي بالطعام، ولفظتهم للخارج على مراحل، وفي الليل تجمعت نساء الرحلة حول موقد نار في الحديقة الخلفية للمساكن، وأعدت الفلسطينية، صاحبة صحن المسخن، الشاي، وحين مدّت لي يدها بالكوب، تذكرت حلم العجوز صاحبة المشروب الأزرق.
بدأت السهرة بانتقاد العجوز لي على كمّ الطعام التي قمت بتناوله، وسألتني كيف أتنقل بين الأطباق وأميز النكهات، كأنني جنية أو أعمل في الاحتيال؟ فأجبتها أنني جنية بالفعل ومحتالة، فسحبت من يدي كوب الشاي لتداعبني، وقالت: "مهو هاض اللي كان ناقصنا، يلا دشري هالكاسة وانصرفي". ضحكنا جميعاً، وقالت لي امرأة سورية وجهها في غاية الجمال والحزن: "الشعور باللحظة لنسيان الألم بيلزموا تكوني واعية على حالك"، لم أجادلها في حكمها على أنني كنت أحاول النسيان، فمن جديد امتلأت بفكرة أن النساء يشعرن بالحزن حتى لو كان أسفل الأرض التي يجلسون عليها، وأن النساء عالم داخل العالم، وأن النساء يحزنّ سراً، ويواسين علناً.
امتلأت بفكرة أن النساء يشعرن بالحزن حتى لو كان أسفل الأرض التي يجلسون عليها، وأن النساء عالم داخل العالم، وأن النساء يحزنّ سراً، ويواسين علناً... مجاز
تقلصت معدتي مرة عاشرة، فتألمت بصوت مرتفع بشكل مفاجئ. مسحت على رأسي راهبة لبنانية كانت جالسة بجواري، وقالت: "بعدك موجعة، يا دلّي عليكي"، وقاطعتها أمرأة اردنية تجلس في الجهة المقابلة لي، تشبه قطة جميلة تدخن سيجارة بشكل مغر، قائلة: "مبين أنك لعنتي أبو حرم معدتك، ديري بالك ترجعي هان"، وبغض النظر على أن جميع النساء الملتفات حول حلقة النار يعدن كل خمس دقائق لمواساة ألم معدتي، والحديث عن أسباب ممارستي المجنونة للنسيان اللحظي، إلا أنهم باختلاف جنسياتهن وخلفياتهن وشكل حياتهن، متألمات.
وفي كل مرة تتحدث واحدة، تدعم الأخريات ألمها وكأنهن خاليات وبألف خير. تحدثت صديقتي التي سافرتُ برفقتها عن كراهيتها لوالدها، وكيف يمثل إعاقة كبيرة في حياتها، ثم صمتت، وكأنها شعرت فجأة بالخزي، فافترضت الراهبة باقي قصتها التي توقفت هي عن سرد المتبقي منها، بشكل لبق ولطيف، ونصحتها أخرى بشكل عاطفي ذكي، وبغض النظر أن هذه السهرة خرجنا بسببها عما درسناه في رحلة الصمت، إلا أنها كانت سهرة حسية، مثل فيلم يجسّد دورة حياة ومشاعر النساء.
في صباح العودة، أهدتني الراهبة سلسلة تحمل رمز الطائرة، لأنها وجدتها تناسبني. عانقتها عناقاً طويلاً، وشعرت بأنني محظوظة وفريدة. تذكرت اقتباساً: "أن القصص لا تحدث إلا لمن يستطيع روايتها"، واتفقت من جديد مع صاحبها، ووددت إخباره بأن الألم أيضاً لا يحدث إلا مع من يستطيع روايته.
في عودتي، غرقت من جديد في قراءة رحلة إليزابيث، وبداخلي يقين كبير بأنني سأتعافى من جديد، مثلها، ومثلما تعافيت من قبل، وقرّرت لحظتها أن أدون شعوري هذا في دفتري، ووجدتني أكتب في أخر الصفحة: "شكراً إليزابيث... محبتي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...