في 1902، وفي عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، سليل الأسرة العلوية، تهافتت الأقلام في الصحف، للحديث عن إنجازات جده محمد علي الكبير وأفضاله على مصر، لكن الإمام محمد عبده كان له رأي آخر.
كان محمد عبده الإمام المشهور بالتجديد والإصلاح الديني، أحد أبرز من شاركوا في الثورة العرابية، ونُفي بعد هزيمتها لعدة سنوات قبل أن يعود إلى القاهرة بعفو من الخديوي توفيق، بوساطة من تلميذه سعد زغلول وإلحاح الأميرة نازلي فاضل، سليلة محمد علي، على اللورد كرومر، والذي قبل الوساطة شريطة ألا يعمل محمد عبده من جديد في السياسة، وهو ما قبله الإمام.
كان الإمام – للمفارقة- من المعارضين للثورة العرابية، من مبدأ رفضه لثورة يقوم بها "الجند" الذين "لو تم لهم ما يسعون إليه، ونالت البلاد مجلس شورى، لكان بناء على أساس غير شرعي، فلا يلبث أن ينهدم ويزول".
رغم ذلك، ما إن قامت الثورة العربية حتى انخرط فيها بكل قوّته، لإيمانه في النهاية بوطنية أحمد عرابي ورفاقه، إلا أن رأيه المعلن في رفضها في البداية كان حقيقياً كذلك، وله أسبابه التي لم تتغير: لا يمكن للتحديث أن يحدث من أعلى وبالقوة، بل كان يرى أن إصلاح الاستبداد هو ثمرة عملية طويلة، تنشأ من غرس التعليم والوعي داخل أهل البلاد.
كل إنجازات محمد علي، برأي الإمام محمد عبده، فشلت لكونها في الأساس لم تصدر عن الناس، بل عبر قهرهم وإجبارهم، فيرى أن محمد علي "لم يستطع أن يحيي، ولكن استطاع أن يميت"
ورغم أنه يعد عبر تلك الفكرة "إصلاحياً" لا ثورياً، ورغم أن يأسه بعد هزيمة الثورة العرابية دفعه لاعتناق فكرة المستبد العادل، إلا أن المقال الذي نشره في مجلة المنار، بعنوان "آثار محمد علي في مصر" والذي سار فيه عكس التيار المحتفي بإنجازات محمد علي الكبير، يشرح بشكل كبير لماذا يكره ثورة مصدرها الجند، حتى لو كانوا جنوداً وطنيين، فقد كان أحد همومه هو ألا تصطبغ الدولة بالصبغة العسكرية أو الدينية، وأن تحافظ على مدنية السلطة، وأن تنمو فيها الديمقراطية من داخل وعي الناس أنفسهم.
فكل إنجازات محمد علي برأيه قد فشلت لكونها في الأساس لم تصدر عن الناس، بل عبر قهرهم وإجبارهم، فيرى أن محمد علي "لم يستطع أن يحيي، ولكن استطاع أن يميت"، والموت برأيه هو موت للروح المصرية المبادرة، التي تظن أن إنجازها هو ثمرة عملها، وأنه يخصّها، وهو ما سلبه منها محمد علي بإنجازاته التي لم تخدم سوى ملكه ومملكته، وانهار أغلبها بهزيمته على يد القوى الأوروبية عندما أراد الاستقلال بمصر والشام عن الدولة العثمانية.
وبحسب الإمام محمد عبده، أن مصر كانت سائرة قبل مجيء محمد علي إلى نوع من الحكم المدني النابع من وعي الشعب، وإن كان بوتيرة بطيئة، فمنذ حكم المماليك تحت السيادة الشكلية للسلطان العثماني، تكونت طبقة من الأشراف، عبرت عن مطالب المصريين، وكانت تتشكل من خلال صراع هادئ، لكنه سيفضي – ولو بعد حين- إلى مدنية السلطة، فقد كان في صراع المماليك على السلطة ما يدفعهم للجوء إلى طبقة تشكلت من المشايخ والأعيان والتجار مضطرين إلى قبول مطالبهم، "فعظُمت قوة الإرادة عند أولئك الذين كانوا عبيداً بمقتضى الحكومة، وانتهى بهم الأمر أن قيّدوا الأمراء والملوك معاً، ولم يكن ذلك في يوم أو عام، ولكنه كان في عدة قرون".
ظلت الطبقة الوسطى راسخة، حتى بعد مجيء نابليون، الذي لم تسفر حملته ومقاومة المصريين لها إلا عن صقل لوعي تلك الطبقة بنفسها وبمطالبها التي كانت تعبر في الأساس عن مطالب عموم الناس، وبالعودة إلى مقال محمد عبده: "ولم تكن إلا أيام قلائل حتى أخذت القوى الحيوية الكامنة في البلاد تظهر، فكثرت الفتن، ولم تنقطع الحروب والمناوشات، يدلُّك على ذلك شكوى نابليون نفسه في تقاريره التي كان يرسلها إلى حكومة الجمهورية من اصطياد العربان لعساكره من كل طريق، وسلبهم أرواحهم بكل سبيل، واضطر نابليون أن يسير في حكومة البلاد بمشورة أهلها، وانتخب من أعيانها مَن يُشركه في الرأي لتدبيرها".
عندما نتساءل لماذا لا يشعر المواطن المصري في عصرنا الحالي بالإنجازات، نفهم السبب من مقال محمد عبده: تلك الإنجازات لا تخصّنا، وليست لنا، كل ما نعرفه عنها أنها تثقل كاهلنا بالمزيد من الديون التي ندفعها من جيوبنا
فكانت الخطوة المنطقية التالية بعد طرد الاحتلال الفرنسي، أو كما يشرح الباحث محمد شعبان أيوب، أن تتجمع "الأحزاب" المصرية، أي زعماء الطبقات الاجتماعية في البلاد، وتنتخب حكومة تسيّر شؤون المصريين، وتُصحِّح أوضاعهم، وتتلافى الأخطاء السياسية التي وقعت فيها البلاد سابقاً، ولكن مجيء محمد علي قلب المعادلة، ودمَّر القوة التي أنشأها المصريون لأنفسهم على مدار قرون.
وبشكل واضح، يضع محمد عبده إصبعه على مشكلة دولة محمد علي، في رأي كان سباقاً لدراسات لم تنجز إلا في الثلث الأخير من القرن العشرين، أن سلطة السوط والسيف لم تخلق الشعور بالهوية داخل نفوس المصريين، بل أخمدته، "ظهر ذلك الأثر العظيم عندما جاء الإنكليز لإخماد ثورة عرابي. دخل الإنكليز مصر بأسهل ما يدخل به دامر على قوم، ثم استقروا ولم توجد في البلاد نخوة في رأس تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن استقلالها"، وهو العكس؛ مما حدث "عند دخول الفرنساويين إلى مصر"، إذا كانت تلك الطبقة التي تعبر مصالح عن الشعب، بقيادة عمر مكرم آنذاك، تحمل شعور أن تلك البلاد تخصّها.
الأمر ذاته حدث بعد قيام ثورة يوليو 1952، رغم الفارق الكبير بين المشروع الشخصي لمحمد علي، والمشروع القومي لجمال عبد الناصر الذي ألهم الجماهير، لكنه انتهى للفشل للسبب عينه، أن الفكرة الأساسية فيه هو أن تلك البلد تدار من قبل فئة من الضباط لا ترغب من الآن فصاعداً أن تقاسم أحداً الحكم أو المشاركة، فقصمت مع استبدادها بالحكم جهود الجماهير والأحزاب المدنية التي ناضلت طيلة 74 عاماً من الاحتلال البريطاني، والتي كانت تسير نحو حكم مدني صرف – ولو بعد حين- وكذلك حدث سطو مماثل على وعي الجماهير بنفسها بعد انتهاء ثورة يناير 2011، إلى عودة البلاد إلى الحكم العسكري، الذي قرّر منذ لحظة حكمه الأولى أن يقصي الجميع ويدير اللعبة بمفرده، وعندما نتساءل لماذا لا يشعر المواطن المصري في عصرنا الحالي بالإنجازات، نفهم السبب من مقال محمد عبده، تلك الإنجازات لا تخصّنا، وليست لنا، كل ما نعرفه عنها أنها تثقل كاهلنا بالمزيد من الديون التي ندفعها من جيوبنا، كأن هذا هو كل ما نعنيه للدولة التي لم تعدم وسيلة لجباية المال من جيوب المصريين، منهياً بذلك ثمرة كفاح للأحزاب والتيارات المدنية.
رغم تبدل الظروف، ورغم إمكانية الاختلاف مع محمد عبده في عدد من النقاط، إلا أن هذا الوعي المبكر بأهم سؤال واجه المصريين طيلة قرون، تبدلت فيه عليهم كافة أنواع السلطات التي تمثل أقنعة لفكرة واحدة، أمر يحسب للإمام بلا شك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...