"الدوسة" أو "موكب الدوسة"، طقسٌ غريب كان يمارسه أتباع الطريقة الصوفية من المصريين في القرن الثامن عشر، احتفالاً بمولد النبي محمد، واللافت أنه اتخذ اسمه من الفعل ذاته، إذ كان شيخ الطريقة يركب الحصان ويمر به على أجساد الدراويش المُتراصة بجوار بعضها البعض، وكأنها سجادة، ولما كثرت الإصابات بسبب ذلك، وبغض علماء الدين هذا الأمر، أصدر الخديوي توفيق (1879 - 1892) قراراً بإلغائه نهائياً.
ما هي "الدوسة"؟
يُعرّف المؤلف مكاوي سعيد "الدوسة"، في كتابه "القاهرة وما فيها"، بقوله إنها "جزء من الاحتفال بالمولد النبوي الذي يجري لعدة أيام في العراء بجوار الكنيسة الإنكليزية (خلف قصر الإسماعيلية مباشرة وقد حلّ محله الآن مجمع التحرير)، تنصب الخيام في هذه الساحة الخالية على شكل دوار كبير، ويمثل كل منها أحد الشيوخ وأتباعه من الدراويش".
وفي الوقت ذاته، بحسب سعيد، كانت تُنصب خيمة فاخرة للخديوي، وبجوارها مباشرة أخرى للحاشية، وتقام الأفراح لمدة أسبوع متواصل، ويأتي المسلمون من كل حدب وصوب لرؤية أصدقائهم والصلاة والمشاركة في حلقات الذكر المهيبة، وما يرتبط بها من إثارة دينية محمومة.
ووفق ما نقل سعيد، فإنه على الرغم من أن "الدوسة" أميز وأغرب جزء في أهم احتفال ديني في مصر، فإن وجودها لا يتجاوز القرنين من الزمن، وتقوم على نظرية مفادها أن "الدرويش الصالح عن حق لا يصيبه أذى أو ألم حين يتعرض جسده للعذاب، لأنه في كنف الإيمان".
أكل الثعابين والزجاج والنار
في كتابه "البلاط الملكي المصري"، يحكي المؤرخ البريطاني ألفريد بتلر عن بدايات تعرفه على "الدوسة"، ومن ثم ينقل لنا ما شاهده بنفسه من أجواء الاحتفال بها.
يروي أن الخديوي توفيق قال لهم كأجانب وهو يصف المحمل المبارك الذي عاد بالحجيج من مكة: "أدعم هذا الاحتفال الهام في ديننا طالما لا ضير فيه ولا أذى، العبرة عندي ألا يحتوي الاحتفال على ممارسات بربرية متوحشة تُثير الامتعاض، كما يحدث في ظرف أيام قليلة حين تشهدون معي دوسة الدراويش التي أتحفظ عليها، ولي فيها رأي مختلف، ورغم ذلك لا يبدو إبطالها أمراً ممكناً".
ويصف بتلر الاحتفالات من أولها إلى آخرها، فيقول: "وصل الخديوي بحلول منتصف الظهيرة ونزل أمام خيمته، بعدها بقليل انطلقت همهمات وغمغمات تشير إلى اقتراب موكب الدراويش، وما هي إلا بضع لحظات حتى شاهدنا صفاً من الرايات الخضراء والحمراء مزخرفة بآيات من القرآن تنطلق إلى الأمام".
وعن الزي الذي يرتدونه، يكتب بتلر أن "معظم الدراويش كانوا معممين في زيهم العربي، بينما ارتدى آخرون ثياباً غريبة تخص قبائل بعينها، وحلق البعض رؤوسهم تاركين خصلة طويلة تتطاوح على أكتافهم، ولبس البعض دروعاً، وظهرت طائفة أخرى عراة الصدور حتى خصورهم، وعندما دخلوا المضمار أخذوا في الاندفاع بشدة، وزاغت عيونهم وأرغت أفواههم كالمخبولين، وشرعت مجموعة منهم في شق الثعابين بالأيدي وتقطيعها بالأسنان بشكل عنيف جداً، ثم تناول أجزاء منها بنهم مفرط، ناهيك عن أكل الزجاج والنار".
ودفع عناصر مجموعة أخرى المسامير الصلبة في خدودهم وأذرعهم، وانشغل قسم ثالث في قرع الطبول ولف الرتالات (جمع رتالة، وتشبه الشخشيخة لكن طريقة عملها مختلفة)، وانبرى بعضهم في إدماء وجوههم وصدورهم بالمُديات والخناجر، بينما أخذ آخرون منحنى أكثر هدوءاً فرفعوا سيوفاً في الهواء نصالها مسلطة على حناجرهم، في رمزية للتضحية بالنفس.
"صدرت إشارة فانبطحوا جميعاً على بطونهم بشكل عنيف، وأخذ كبراؤهم في رصهم، والتأكد من أن أجسامهم ملتحمة ولا توجد بينها ثغرات، وكان البائسون يرتعشون ويتمتمون"... احتفال "الدوسة" الغريب الذي مارسه صوفيون في القرن الـ18 وألغاه الخديوي
في السياق ذاته، يصف عالم المصريات الفرنسي بيير مونتيه، في كتابه "الحياة اليومية في مصر" (ترجمة عزيز مرقس) موكب "الدوسة"، بقوله: "يخرج الشيخ محمد المنزلاوي (شيخ الطريقة السعدية وهي إحدى الطرق الصوفية) من منزله مرتدياً بنش أبيض اللون، وفوق رأسه قاوون أبيض، يلتفّ حول عمامة موسيلين زيتوني قاتمة، وفي الجزء الأمامي منها شريط من الشاش الأبيض ربط مائلاً، ويركب حصاناً متوسط الارتفاع والوزن، ويدخل منطقة الأزبكية في القاهرة يسبقه موكب هائل من الدراويش الذين ينتمون إلى طائفته، وفي الطريق إلى المسجد تنضم إليه طوائف عديدة من الدراويش، من أحياء متفرقة من العاصمة، بالإضافة إلى الأهالي، ويخرجون من كل حي وهم يحملون الأعلام الخضراء".
على أجساد الدراويش
يواصل مؤلف "البلاط الملكي المصري"، وصف أجواء الاحتفالات، بالقول: "عند اكتمال وصول المجموعات ووقوفهم على الأبسطة والحصر، كل في مكانه، صدرت إشارة لهم فانبطحوا جميعاً على بطونهم بشكل عنيف، وأخذ كبراؤهم في رصهم، والتأكد من أن أجسامهم ملتحمة ولا توجد بينها ثغرات، وكان البائسون يرتعشون ويتمتمون بأفواه مطبقة (يا الله... يا الله)، ثم خلع المرافقون نعال الراقدين ووضعوها تحت وجوههم، كما أمسكوا بكعوبهم وجذبوها جذبة خفيفة حتى يساووا بين أجسادهم في خط واحد، بغية خلق مسطح عريض وممهد للحصان، بعيداً عن الرقاب والأرجل، وعندما انتهى تنظيم الصف بدأ تحرك الفرس الذي يحمل كبير الدراويش، مرتدياً عمامة خضراء كبيرة، وقفطاناً جملي اللون، وزناراً مرقشاً".
يتفق مونتيه مع بتلر في رصد الظواهر، إذ يقول في كتابه: "يتوقف الموكب على مسافة قريبة من بيت الشيخ البكري (خليل البكري الصديقي، ويرجع نسبه إلى أبو بكر الصديق)، فيبدأ الدراويش، ويبلغ عددهم ستين أو ضعف هذا العدد، بإلقاء أنفسهم على الأرض، الواحد تلو الآخر متلاصقين، ظهورهم إلى أعلى وأرجلهم ممددة وأذرعهم منثنية تحت جباههم، وكلمة الله يردِّدونها بلا انقطاع، ثم يأخذ نحو اثني عشر درويشاً أو أكثر، وقد خلعوا نعالهم، يجرون فوق ظهور زملائهم المنبطحين على وجوههم، ثم يقترب الشيخ ويتردد الحصان بضع دقائق أن يطأ أول رجل منبطح أمامه، فيدفعونه ويستحثّونه من خلفه، ليمشي فوق ظهورهم جميعاً".
يشير مؤلف كتاب "البلاط الملكي في مصر" إلى أنه على جانبي كبير الدراويش، قبض سائسان على لجام الفرس، وسار آخران بجانبه ليحولا دون سقوطه؛ لأن عينيه كانتا مغمضتين، ويترنح على سرج الحصان من شدة التأثر، وطفق شخص في العدو أمام الجواد على أجساد الراقدين، وسبقه اثنان آخران راحا يطلقان صيحات تنبيه للمنبطحين بمقدم الشيخ ليأخدوا أهبتهم.
أما مونتيه فيذكر في هذا الشأن: "يقود الحصان رجلان ممن كانوا يجرون فوق المنبطحين، ويطلق المتفرجون صيحة طويلة ′الله الله الله′".
ويُعبّر بتلر عن امتعاضه من المشاهد التي رآها عندما كان واقفاً أمام خيمة الخديوي: "كان الشيخ ضخم الجثة وجواده قصير القوائم ومدملجاً، وكلاهما يمثلان وزناً رهيباً في دعسهما لهذا الطريق من اللحوم الآدمية"، معلقاً بالقول: "من موضع وقوفي على البساط وقدماي على الحد الذي شكلته رؤوس المنبطحين، تمكنت من مشاهدة الفظاعات التي حدثت بشكل جلي، تابعت كل خطوة من خطوات الحصان لحرصي على سبر حقيقة هذا الأمر ونقلها كما هي، لا سيما وأن عدداً ليس بقليل من أهل البلد يعتقد أن الحصان لا يطأ الأجساد، بل يتحسس موضع أقدامه بينها".
الدراويش يغشى عليهم
من خلال الفحص، اكتشف المؤرخ البريطاني أن ما قيل له على خلاف الحقيقة، فيقول في السياق: "تبيّن لي زيف هذا الكلام، لأن الأجساد كانت محشورة ولصيقة، بحيث لا يجد الفرس مفراً من دهسها، واستمر الحصان في التقدم، وشاهدت تلوّي هؤلاء المعذبين وسحقهم الرهيب تحت وطأة وزن الجواد وحوافره التي راحت تفعص الأفخاذ والأكتاف والضلوع وفقرات الظهر، وتعثر الحصان، ومن ثم حاول استعادة عافيته مندفعاً للأمام بصعوبة، مستمراً في عصر الأجسام تحت أقدامه".
"كان المشهد مروعاً، إذ ترى أمامك أشباحاً جامدة الأعين تتدلى ألسنتها من ثغورها المنفرجة، وآخرين يتلوون ويتساقطون من هول الألم، ثم يبادر أصدقاء المكلومين باقتياد الضحايا بعيداً عن المشهد".
ويصف بتلر حالة الدراويش بعد مرور الجواد على أجسادهم: "لم يحركوا ساكناً وتحملوا جميعاً وقع الصدمة الأولى في صمت، للتدليل على قوة إيمانهم، وبعد جمود دام للحظات نهضوا أو حاولوا ذلك، ولم يُصَب بعضهم بأذى فهبوا على أقدامهم بشكل مضطرب، وراح آخرون يئنون عند محاولة تحريك أعضائهم، ثم ما لبثوا أن خرّوا مغشياً عليهم".
وأما الآخرون، فيوضح بتلر مدى تردي الحالة التي أصبحوا عليها: "كان المشهد مروعاً، إذ ترى أمامك أشباحاً جامدة الأعين تتدلى ألسنتها من ثغورها المنفرجة، وآخرين يتلوون ويتساقطون من هول الألم، ثم يبادر أصدقاء المكلومين باقتياد الضحايا بعيداً عن المشهد"، كاشفاً عن وقائع أشد سوءاً: "عادة ما يُرسَل الجرحى خارج القاهرة، بينما يُدفن الموتى في سرية، ولا يتسنى لأحد معرفة أعدادهم، وبسبب هذا التعتيم يعتقد أهل البلد بأن لا أحد يصاب بسوء".
حلقة ذكر بعد "الدوسة"
بعد أن انتهى الشيخ من "الدوسة"، توقف الحصان أمام خيمة الخديوي، وأنزل الأول من فوق صهوة جواده، وهو يتمتم ببعض الأدعية، لكنه قوبل بفتور واضح، وما أن عاد أدراجه حتى تجمع حوله حشد غفير من الناس، وكلهم أمل أن يلمسوا الرجل المبارك، أو أن يقبلوا يد أي شخص حظي بلمسه، وفقاً للمؤرخ البريطاني.
ويروي مونتيه الوضع ذاته مع إضافة تفاصيل بسيطة، إذ يقول: "بعد ذلك يخرج الشيخ بجواده إلى حديقة الأزبكية، ثم يدخل منزل الشيخ البكري، ولا يصحبه سوى عدد قليل من الدراويش، ثم يجلس في فناء الدار، ولا يفتأ يتمتم بالتسبيح والدعاء، أما الدراويش الذين جاءوا معه ويبلغ عددهم عشرين، فيقفون على شكل نصف دائرة فوق حصير فُرِشَ لهم وحولهم خمسون أو ستون رجلاً، ويتقدّم منه ستة منهم، وقد ابتعدوا عن نصف الدائرة مسافة ياردتين، ثم يبدأون في الذكر ويصيحون في صوت واحد ′الله حي′، ويرد الذين يقفون في نصف دائرة ′يا حي... يا حي′".
ومرة أخرى يتأكد بتلر من زيف الحقائق التي سمعها من الدراويش، إذ يقول في مؤلفه: "ما ينبغي ذكره أنه بينما كان الشيخ في خيمة الخديوي توجهت صوب الجواد لأعاينه عن كثب، وكان منتعلاً بمعنى أن حوافره مغطاة بأقراص حديدة، وقد أكد لي بعضهم آنفاً عدم وجود حدوات بتاتاً أسفل حوافر هذا الفرس، لكن مرة أخرى يثبت عدم صحة معلوماتهم، وقد غادرت هذا المشهد وكلي عزم على إخبار الخديوي بحقيقة الدوسة كاملة، وألا يهدأ لي بال حتى تلغى".
في السياق ذاته، وصف الطبيب الفرنسي كلوت بك حفل "الدوسة"، في الجزء الثاني من كتابه الشهير "لمحة عامة من مصر"، بقوله: "ينكب من مائة إلى مئتين على وجوههم فوق الأرض متلاصقين متلاحمين فتكون أجسامهم سجادة بشرية، ثم يسير عليها شيخ الطريقة البكرية، ممتطياً صهوة جواده، يتبعه بعض مريديه سائرين عليهم حفاة الأقدام، والذي يزعمه أولئك الدراويش بعد مرور الشيخ ومريديه فوق أجسامهم أنهم لم يصابوا بألم، وإن هذا ينهض دليلاً على ولاية الشيخ".
وتحدث أيضاً المستشرق الإنكليزي إدوارد لين الذي أقام في القاهرة فترة، عن طقوس "الدوسة"، في كتابه "المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم"، قائلاً: "غالبية الدراويش لم يمسهم سوء، بل وثب كل منهم واقفاً بعد ما مر الحصان عليه، نظراً لكرامات شيوخ الطريقة السعدية التي منحت الدراويش قوة خارقة، مكّنتهم من تحمل مرور الحصان على أجسامهم دون أن يلحقهم أذى".
السعي لإلغاء "الدوسة"
لم يكن حديث بتلر هراء، إذ كان قد اتخذ بالفعل قراره، وتحدث مع الخديوي توفيق في شأن "الدوسة". يذكر بنفسه أن الأخير منحه إمكانية الحديث عن الإصلاحات التى يرى أنها تناسب الوضع المصري، فانتهز الفرصة وسأله: "ألا تستطيع سموك إبطال الدوسة في العام المقبل؟"، فأجابه الخديوي بسرعة: "لا... ليس العام المقبل".
بعدما حضر مؤرخ بريطاني طقوس "الدوسة" التي يمر فيها الشيخ الصوفي بالحصان على أجساد الدراويش، قرّر أن يطلب من الخديوي وقف الاحتفال. لم يحالفه الحظ إلى أن مات شيخ الدراويش... عن احتفال "الدوسة" منذ انتشاره في ذكرى المولد النبوي في القرن الثامن عشر إلى إلغائه
يكشف بتلر عن الأسباب التي منعت الخديوي من إصدار مثل هذا القرار، قائلاً: "بالرغم من علمه بوحشية الاحتفالات وهمجيتها فإنه لم يمتلك العزم لإلغاء عادة دينية متأصلة استحوذت على مخيلة الناس، وتجاسرت على الاختلاف معه في الرأي، فنبّهته إلى أن من واجبه أن يحسم قضية إبطال هذا الاحتفال وعدم السماح باستمراره، وعندما أخبرته كيف عاينت البؤساء المساكين وهم يتلوّون من الألم علّق قائلاً: ′الفرس ليس منتعلاً، أصدرت أوامر خاصة بألا يحدث ذلك′، فأجبته: معذرة، ولكني رأيت قدميه بأم عيني، وتبيّن لي أنهما مزودتان بحدوتين من الحديد".
لم تقف مساعي المؤرخ البريطاني عند ذلك الحد، وإنما واصل محاولاته: "ظنّ الخديوي أن الأمر التبس علي، لكني أكدته له، وعندما أخبرني بأنه علم من الأطباء الذين عالجوا الدراويش أنها لم تتجاوز بعض الكدمات، تجرأت وذكرت أنهم قد أخفوا عنه الحقيقة"، مشيراً إلى أن "الخديوي عرض على الشيخ أن تجره في أرجاء القاهرة عربة بستة خيول بين صفين من جنود، لكنه أجاب بأن الناس لن يرتضوا ذلك".
الحظ يخدم الخديوي
يحكي بتلر ما حدث في السنة التالية مباشرة، وكيف أن الحظ خدم الخديوي من أجل إلغاء "الدوسة"، فيقول: "توفي الشيخ البكري، شيخ الدراويش، ثم مندوبه الذي وطئ بحصانه الأجسام لسنوات، ثم ما لبث أن سقط الحصان المستخدم في الدوسة مريضاً، فشرع الناس يتساءلون: ′ما هذا الذي يحدث بعد إعراب أفندينا عن رغبته في إبطال الدوسة؟، لماذا يموت الشيخ البكري أولاً، ثم الشيخ الذي يعتلي الحصان، ثم يخر الحصان مريضاً، ولا نعرف من سيلقى حتفه باكراً، من المؤكد أن الله يقف مع الخديوي ويؤيده′"، مؤكداً أن الخديوي نجح في إبطال الطقس الذي وصفه بتلر بـ"الدموي".
ويؤكد إدوارد لين في كتابه "المصريون المحدثون شمائلهم وطبائعهم في القرن التاسع عشر"، أن "الدوسة" منعت مع غيرها من الطقوس العنيفة الأخرى في عهد الخديوي توفيق.
ويضيف الإنكليزي ج. م. مكفرسون، في كتابه "الموالد في مصر" (ترجمة وتحقيق الدكتور عبد الوهاب بكر)، أن المنع تم بعد اعتراضات من زائر أوروبي، وربما كان يقصد بتلر.
لاقى قرار الخديوي توفيق استحسان البعض، وعلى رأسهم علماء الأزهر، خاصة أن مظاهر هذا الاحتفال لم ترد في القرآن أو السنة، وكان منهم مفتي الديار المصرية الأسبق الشيخ محمد عبده الذي كان وقتها رئيس تحرير "جريدة الوقائع" المصرية.
وينقل الدكتور محمد عمارة، في كتابه "الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده"، وكذلك محمد رشيد رضا في مؤلفه "تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده"، رأي الشيخ محمد عبده وعلماء الأزهر في إبطال "الدوسة".
وفقاً للمؤلفين، تحت عنوان "تنبيه رسمي... بطلان الدوسة" الذي نشر في "الوقائع" (العدد 1038 في 15 شباط/ فبريار عام 1881)، كتب الشيخ محمد عبده يقول: "أطلقنا في بعض أعداد جريدتنا السابقة (مقال نشر في العدد 1035) من عهد قريب لسان الشكر والثناء للجناب الخديوي، وهيئة الحكومة المصرية الحاضرة، وللسيد البكري، على عنايتهم بإبطال بدع كثيرة ليست من الدين في شيء، بل هي مناقضة للدين المحمدي على خط مستقيم، ومن أفظعها الدوسة، وهي أن ينطرح الناس مصطفين أحدهم لجنب الآخر، ثم يعلو أحد المشايخ على ظهورهم بحصان يدوسهم واحدا بعد واحد، حتى ينتهي إلى آخرهم؟".
توضيح الحكم
يكشف الشيخ محمد عبده عن دور شيخ الأزهر ومفتي الجمهورية في إبطال احتفال "الدوسة"، دون أن يذكر اسمه، ولكن في هذا التوقيت كان الشيخ محمد المهدي العباسي الذي يعد أول من جمع بين وظيفتي "الإفتاء" والأزهر في آن واحد، فيقول في المقال ذاته: "وإنا لنعلم علم اليقين أن شيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية، قد وقع لديه هذا الأمر، أعني إبطال الدوسة، موقع الاستحسان؛ لعلمه أنها كانت من المنكرات الشرعية، وكان يتمنى التفات الحكومة إلى إبطالها، وهو متشكر من الحكومة التي أقرت السيد البكري على إزالتها، ولما عاد الخديوي للمذاكرة معه في هذا الشأن، بين شيخ الأزهر ما في هذه البدعة من المحظورات الشرعية، كإهانة المؤمنين، والتعرض للخطر، فإنه لا يؤمن أن تفلت رجل الحيوان الضخم كالحصان الذي يركبه الشيخ للدوسة، فترض عضواً يابساً أو تبتك آخر رخواً، ويكون فيه تلف المصاب، وإن التعرض للخطر من المحظورات الشرعية المحرمة الارتكاب".
ووفقاً للشيخ الراحل، أمر الخديوي شيخ الأزهر أن ينبه على بعض المشايخ ليبينوا ذلك للعامة، حتى يقتنعوا بحرمة هذه البدعة، مؤكداً: "نبّه على كثير من الوعاظ والمدرسين، وأوعز إليهم أن يشرحوا للعامة حقيقة الأمر، ويقفوهم على أن أمثال هذه البدع مما لا أصل له في الدين، على أن أصل الدوسة في ما تقول العامة كانت كرامة للشيخ يونس، بأن يدوس حصانه على آنية من الزجاج ولا تنكسر، وهي مرة واحدة، فكيف تبدل الزجاج بالإنسان، وصارت عادة مستقرة؟... نعوذ بالله".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...