تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسوم المتحركة (استراحة في عالم الألوان والأمل)، في قسم ثقافة، رصيف22.
في ركنٍ للأطفال في إحدى مكتبات برلين، اخترت وصغيري قصصاً بإصدارات قديمة وحديثة، ورحنا نقرأ ونستكشف عوالمها.
قالت لي سيدة ألمانية كانت تجلس وطفلتها بجانبي: "إنه حقاً أمر مثير للإعجاب، كيف تطور تشكيل قصص وبرامج الأطفال بين الماضي والحاضر! انظري إلى القصص القديمة كيف كانت ألوانها كلها مستقاة من العلم الألماني، وكيف كانت كل الشخصيات بشعر أشقر، واليوم يحاول بعض صانعي القصص محاكاة الواقع وتنويع الشخصيات والألوان والأحداث لتساعد الأطفال على فهم محيطهم أكثر والابتعاد عن القومية المقيتة".
عاد بي تعليق تلك السيدة إلى طفولتي وأبناء جيلي، وإلى القصص التي كنا نقرؤها والبرامج التي كنا نتابعها، وإلى الأصوات والمشاهد التي اعتدنا سماعها ورؤيتها، كما جعلني أتساءل: ما الذي تغير في نوعية القصص والبرامج، وكيف تساهم في بناء وعي الأطفال اليوم؟
طفولة لم تستمر
يقول الكاتب الإنجليزي جون بيتمان "تُقاس الطفولة بالأصوات والروائح والمشاهد، قبل نمو ساعة العقل المظلمة". ربما كان ظلام العقل الذي قصده بيتمان هو تجاربنا اللاحقة التي اكتسبناها بعد مغادرة عالم الطفولة السحري، والذي نسجته ذكرياتنا مع عائلاتنا، مع أولاد الجيران وبرامج الأطفال.
كان الشوق الى سوريا، قبل ولادة ابني، شوقاً إلى المكان وإلى اللغة والموسيقى ومذاق الطعام... وشعوراً بأنني كنت أعرف كيفية حل المشاكل التي تواجهني هناك
كانت برامج الأطفال مثل قطار غابرييل غارسيا ماركيز في روايته" مئة عام من العزلة"، يحضر العجائب كلما مر بتلك القرية الصغيرة المعزولة. سهول خضراء وأنهار وأحزان وأفراح وقصص وأبطال ولصوص، وحيث الخير الذي لا بد أن ينتصر على الشر. كانت ساعة واحدة يبثها التلفزيون السوري، كفيلةً بنقلنا إلى بلاد العجائب.. بلاد ماوكلي وسالي والصياد الصغير وسنان وفيكي، وهي مسلسلات ساهمت في تشكيل وعينا وقيمنا.
غادرت هذه العوالم باكراً، وتحديداً في العاشرة من عمري، حين أخذت دور الأخت الكبرى التي تشغلها قضايا أخرى، وحين طالبني المحيطون بي بأن أكبر، وتعاملوا معي كامرأة يفترض بها أن تكون ناضجة. بدأت أفقد ملامح الطفولة، ويبدو أنني لعبت الدور الذي طالما طالبوني به.
في السن الذي توقفت فيه عن مشاهدة برامج الأطفال، كانت أمي ترسلني لاستعارة الكتب من المركز الثقافي وتحدد لي أسماء الكتّاب الذين يجب أن أقرأهم. أستطيع تذكر حنا مينا وجبران خليل جبران، وكانت فرحتي لا توصف عند الدخول إلى المكتبة وطلب الكتب، ثم العودة الى المنزل لأقرأ أشياء لا أفهم شيئاً منها. كان فرحاً يعادل نظرة الأسى والسخرية التي أنظر بها اليوم الى تلك المرحلة والتي خسرت فيها عالمي، ودخلت الى عالم الكبار قبل الأوان.
عند التفكير بكل هذا، أتذكر قول الكاتب الأميركي هوارد لوفكرافت"... وبعد ذلك نعلم أننا نظرنا إلى الوراء من خلال البوابات العاجية، إلى عالم العجائب الذي كان لنا، قبل أن نكون حكماء وغير سعداء". لا أعتقد أن الماضي كان أكثر سعادة مما أنا عليه اليوم، لكن من المؤكد أن طفولتي كان يجب أن تستمر أكثر.
هنا وهناك.. سوريا وألمانيا
سألني صديق ألماني منذ فترة: إلى ماذا تحنّين اليوم في سوريا؟
لم أستطع تذكر مشهد معين عالق في ذاكرتي. أشتاق الى أبي وأمي، وإلى الجلوس مع معلمتي بشرى والحديث معها حول الموسيقى والكتب التي نقرؤها، كما أحن إلى جدتي لأبي والتي لم أدرك مشاعري تجاهها إلا بعد وفاتها. كان الشوق الى سوريا، قبل ولادة ابني، شوقاً إلى المكان وإلى اللغة والموسيقى ومذاق الطعام... وشعوراً بأنني كنت أعرف كيفية حل المشاكل التي تواجهني هناك.
سألني مجدداً: ماذا عن ذكريات الطفولة ورمضان والأجواء الاجتماعية والاحتفالات؟!
ربما كانت نشأتي في مدينة السلَمية التي تشكلت في ظروف تاريخية، وانتماء أغلبية سكانها إلى طائفة دينية معينة، وطبيعة علاقتهم مع الدين... سبباً في عدم تذكري الكثير. ليست لدينا أغانٍ خاصة تعبر عن هوية المدينة ولا زيّ خاص، ولا ذكريات تتعلق بشهر رمضان أو بأعياد الميلاد. جلّ ما أتذكره من تلك المرحلة، رائحة كعك العيد والأراجيح، وهي أشياء أحرص على أن يعيش ابني كل تفاصيلها اليوم. وبما أنني لم أكن قد ولدت بعد، حين كانت مدينتي تشهد صراعات سياسية ونقاشات ثقافية حادة وأحزاباً، فإنني لا أعرف تلك المرحلة التي يتحدث عنها آباؤنا، ولم أرَ دليلاً ملموساً عليها.
لم تكن في ذاكرتي أغانٍ أغنيها لابني، كما لم أكن لأعرف كيفية رواية القصص والحكايا له. ما معنى أن أصبح أماً بعيداً عن موطن نشأتي؟!
بدأت مواجهتي الأولى مع الذكريات خلال فترة الحمل وما بعد الولادة، وهي كانت مرحلة لولادتي أنا أيضاً. ولادتي التي اخترتها واختبرت فيها أجمل وأصعب أيام حياتي. كان أول ما طلبته من شريكي، عندما بدأ طفلي يتحرك في بطني، أن نشتري سجادة من النوع الذي اعتدت رؤيته في سوريا، وجهاز تلفاز.
أب وأم وأطفال وسجادة على الأرض وتلفاز... كان مشهداً كفيلاً ببث الدفء في حياتي وخلق الجو العائلي الذي أحلم به في هذه البلاد البعيدة.
لم تكن في ذاكرتي أغانٍ أغنيها لابني، كما لم أكن لأعرف كيفية رواية القصص والحكايا له. ما معنى أن أصبح أماً بعيداً عن موطن نشأتي؟! وكيف ابني علاقتي معه ونخلق ذكرياتنا المشتركة في بلد تختلف فيه اللغة والعادات والأغاني عن المكان الذي أتيت منه!
بحثت على الانترنت عن أغانٍ بلغتي، لا تُذبح فيها العصافير ولا يضيع الأطفال. أغانٍ عن الفرح واللعب والجمال، لكني مع الأسف لم أجد الكثير. تعلمت بعض أغاني الأطفال باللغة الألمانية، وصرت أؤلف الأغاني باللغة العربية وأضع لها لحناً حزينا يشبه ألحان الأغاني العراقية التي كانت أمي تستمع إليها. ذات مرة وبينما كنت أغني، بدأ ابني بالبكاء، وعندما سألته عن السبب، قال لي: "لأنني أحبك".
هل أربط الحب والأمومة بتراث الحزن والخيبة والخوف الذي جلبته معي من بلدي؟ بالتأكيد لم أستطع التخلص من الألحان الحزينة رغم كل محاولاتي، لكن ابني حول هذا اللحن الحزين الى إحدى صور أمه، وما زال يطالبني بأن أغني له كل يوم. توقفت عن غناء الأغاني الألمانية التي لم أنجح في إيصال حبي إليه من خلالها، فيما هو لا يكف عن السخرية مني لعدم قدرتي على لفظ بعض الكلمات والأحرف بالطريقة الصحيحة.
عندنا بلغ الثالثة، صرت أبحث له عن برامج باللغة العربية تناسب عمره، ولم أجد إلا بعض الأغاني التعليمية الحيادية الجميلة وبرنامج "القطار بوب" المترجم من اللغة الانكليزية و"ماشا والدب" المترجم من الروسية. صار الآن أكبر، وأحاول أن أحدثه عن البرامج التي كنت أتابعها في طفولتي وما أتذكره منها، لكنه وما أن يشاهد أول دقيقة من برنامج أقترحه عليه، حتى يخيب أمله ببطء الأحداث ورداءة الصورة، ولنبدأ الجدل حول رغبته في متابعة البرامج الأميركية التي يقدمها أطفالٌ لأغراض الدعاية وبألوان براقة وصور سريعة.
كثيراً ما تساءلت في طفولتي: لماذا شكل البيوت التي تسكنها شخصيات برامج الأطفال لا يشبه بيوتنا؟! لماذا شكل الخبز، وهو عنصر رئيسي من طعامنا اليومي، لا يشبه خبزنا؟ أين تقع هذه الطبيعة الساحرة والأنهار النظيفة؟! وعندما وصلت إلى ألمانيا وجدت الإجابة على معظم أسئلتي
أجد الكثير من البرامج باللغة الألمانية والتي تناسب عمره وتفكيره وتثير في ذهنه كثيراً من الأسئلة، كما وتجيبه أيضاً عن بعض ما يخطر في باله بطريقة مباشرة ومنطقية، من دون أن تحيل شيئاً إلى المجهول بدواعي "الحرج أو الجهل". يرى في برامج الأطفال الألمانية نفس الطعام والشوارع والأحداث التي يواجهها في حياته اليومية، على عكس ما كنت أشاهده وجيلي.
كثيراً ما تساءلت في طفولتي: لماذا شكل البيوت التي تسكنها شخصيات برامج الأطفال لا يشبه بيوتنا؟! لماذا شكل الخبز، وهو عنصر رئيسي من طعامنا اليومي، لا يشبه خبزنا؟ أين تقع هذه الطبيعة الساحرة والأنهار النظيفة؟! وعندما وصلت إلى ألمانيا وجدت الإجابة على معظم أسئلتي.
في الماضي كان تأثير أفلام الكرتون أكثر إيجابية وسحراً، لأنها كانت تبث بأوقات محددة وغالباً ما كان يتم اختيارها عبر خبراء وبعناية، أما اليوم فقد صارت أمام الأطفال خيارات غير محدودة من البرامج التي تمكنهم مشاهدتها في أي وقت، والكثير منها لا يحمل أي هدف انساني أو تعليمي، بل ربما أثرت بشكل سلبي على نموهم العقلي ونومهم وأفعالهم وطريقة تفكيرهم.
لقد أصبحت مسؤولية الأهل في البحث وفي اختيار ما يناسب قيمهم وعمر أطفالهم أصعب مما كان عليه الحال بالنسبة لأهالينا، حين كنا أطفالاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون