شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
يوم منحتني الرسوم المتحركة سلطةً مطلقةً على المنزل

يوم منحتني الرسوم المتحركة سلطةً مطلقةً على المنزل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 6 أبريل 202301:57 م

تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسوم المتحركة (استراحة في عالم الألوان والأمل)، في قسم ثقافة، رصيف22.


كنت أنتظر يوم الأحد بفارغ الصبر، نظراً للنكهة الخاصة التي يحملها. ليس لكونه يوم العطلة الأسبوعية، ولا لأن "تلفزيون المستقبل" كان يخصص ثلاث ساعات للرسوم المتحركة بدلاً من ساعة واحدة، بل لأن مشاهدة "الكرتون" في ذلك اليوم كانت تتعدى كونها طقساً يومياً، لتتحول إلى فرصة لفرض "سيادتي المطلقة" على المنزل.

 كان أفراد الأسرة ينتظرون يوم الأحد للظفر بساعات نوم إضافية، ما أرسى اتفاقاً ضمنياً فيما بيننا: فمثلما كانت نشرة أخبار الثامنة مساءً مقدسة لدى الجميع، كما موعد عرض المسلسل اليومي الذي تتابعه والدتي والذي كان غير خاضع للمساومة... لم يكن أحد ليجرؤ على المساس بتلك الساعات الثلاث التي تبدأ عند السادسة وتنتهي في التاسعة. الانصراف إلى الدراسة ومغادرة المنزل، إن للزيارات العائلية أو لفسحة جماعية، كانت أموراً خارج النقاش ويستحيل أن تتم قبل التاسعة، مهما كان المقصد بعيداً. 

كنت أجد متعة مضاعفة في مشاهدة ما يخصصه "تلفزيون المستقبل" في هذا التوقيت، والسبب هو عدم نشر جدول البرامج المعد سلفاً. فعندما تنتهي حلقة "الأستاذ أنيس"، مثلاً، تسود حالة من الترقب للبرنامج التالي: هل سيكون توم وجيري؟ أم القنفذ السريع "سوبر سونيك"؟ أم أحد برامج ديزني المتفرقة؟ مزيج من المفاجآت السعيدة والخيبات من الحلقات المكررة.  

نوستالجيا ومقارنات في زمن الإنترنت

بخلاف الفترة الصباحية، لم تحمل لي برامج الأطفال المسائية ذات القدر من المتعة: كانت سلطتي على التلفاز منتقصة، فالأولوية للواجبات المدرسية التي يصعب التنبؤ بحجمها، إلى جانب وجود منافسين قادرين على فرض كلمتهم بحكم فارق السن. وعليه، لم أكن دوماً سيد المكان كما هو الحال في الصباح. 

كنت أنتظر يوم الأحد بفارغ الصبر. ليس لكونه يوم العطلة الأسبوعية، ولا لأن "تلفزيون المستقبل" كان يخصص ثلاث ساعات للرسوم المتحركة بدلاً من ساعة واحدة، بل لأن مشاهدة "الكرتون" في ذلك اليوم كانت تتعدى كونها طقساً يومياً

لكني أذكر جيداً برنامج "كيف وليش" التربوي على محطة LBC. ففي تلك الفترة، منتصف التسعينيات، انتشرت سلسلة من قصص الأطفال تتناول "كاراكتيرات" طريفة مثل الست حشورة والسيد أكول والسيد بخيل، وكنا نتسابق على مطالعتها في المركز الثقافي الفرنسي بانتظار تجسيدها خلال البرنامج المذكور.     

علاوة على ذلك، تخطت هذه البرامج إطارها الترفيهي لتتحول إلى مساحة لخلق نقاشات بالغة الجدية مع أقراني في الحي والمدرسة: تُرى من سيكون الفائز من مباراة قد تجمع الكابتن ماجد والكابتن رابح؟ شخصياً كنت أميل إلى رابح نظراً لعدد الأهداف التي كان يحرزها، لأعود وأنحاز إلى الكابتن ماجد بعد فوزه ببطولة كأس العالم. 

مع انتشار ظاهرة الصحون اللاقطة، مطلع الألفية الثالثة، دخلت القنوات الفضائية الخاصة بالأطفال على خط المنافسة مثل SpaceToon و Cartoon Network وTiji. لم تتحول هذه القنوات إلى مصدر للبهجة بالنسبة لي، رغم عرضها الرسوم المتحركة طوال اليوم، فقد فقدت معها شغف الانتظار، بعدما بات موعد عرض الحلقات وإعادتها معروفاً، كما أدت إلى انتقاص "سلطتي"، ومنحت أهلي ذريعة لفرض قرارهم على مبدأ: "مش ضروري تحضر هلأ لأنو في إعادة".

لم أكره البرامج المذكورة بقدر كرهي لتلك القنوات التي كانت سبب تآكل سيادتي، وامتنعت عن متابعتها كموقف مبدئي. الاستثناء الوحيد في هذا كان مسلسل المحقق كونان، نتيجة تعلقي حينها بروايات آغاتا كريستي. 

حين أسترجع تلك الذكريات، أشعر بالأسف على الأجيال التي تفتحت أعينها على تلك الظاهرة. قد يكونون سعداء بما بات متوافراً لديهم، لكن المقارنة تدفعني إلى الاعتقاد بأنهم فقدوا متعة المشاهدة، نظراً لمروحة العرض الواسعة اليوم. ورغم أن شبكة الإنترنت تؤدي، نوعاً ما، ذات الوظيفة التي اضطلعت بها القنوات المذكورة لناحية العرض الدائم، إلا أنني عاجز عن "مخاصمتها"، بل على العكس أشعر بالامتنان للمواقع الإلكترونية التي تسمح بخوض غمار النوستالجيا متى أردت: نعم، ما زلت مواظباً على مشاهدة توم وجيري وبابار، مروراً بزينة ونحول ولحن الحياة إلى جانب أفلام ديزني.

الترجمة و"كرتون الحلال والحرام"

تبقى نقطة ضعفي الفعلية: مغامرات أستريكس وأوبيليكس (Astérix & Obélix)، وهي رسوم متحركة فرنسية المنشأ، تدور أحداثها حول إحدى قرى بلاد الغال التي يعجز الرومان عن احتلالها لامتلاك أهلها وصفة سحرية تمنحهم قوة خارقة. لقد أتاح لي حرصي على تكرار مشاهدة هذه السلسلة استيعاب ما خفي عني في الصغر.

ففي الفيلم الذي حمل عنوان "استريكس في 12 مهمة"، تحدى يوليوس قيصر أهل القرية في خوض 12 مهمة لقاء تنازله عن حكم روما. حين شاهدته للمرة الأولى بالنسخة العربية على "قناة المنار"، بدت إحدى المهمات مُبهمة وضمن سياق منفصل عن إشكالية الفيلم، إذ توجب على أستريكس وصديقه أوبيليكس مواجهة حكام "جزيرة اللاهو". وهما تخطّيا مهمتهما هذه بسلاسة وبدون صعوبات، ولم تكن طبيعة التحدي الذي يفترض أن يعترضهما... واضحة.

مشاهدة الرسوم المتحركة، ورغم تجاوز سن الرشد بأشواط، أشبه ما يكون بالحنين إلى الحب الأول.

لكن عند مشاهدة النسخة الفرنسية على يوتيوب، اتضحت الحقيقة: "جزيرة اللاهو" ليست إلا "جزيرة المتعة" التي تسكنها نساء مثيرات يوفرن كل أنواع الإغراء الذي تتوجب عليهما مقاومته. ورغم وقوعهما تحت سحر الفاتنات، إلا أن بطلَي الفيلم غادرا الجزيرة بعدما علما أن نساءها لن يوفرن لهما طبقهما المفضل: الخنازير المشوية. مزيج من "الحرام" المعطوف على "خدش الحياء العام"، دفع بالرقابة الأخلاقية إلى اقتحام عالمنا البريء لحذف المقطع المذكور.

كنت أظن أن استمرار مشاهدة الرسوم المتحركة ليس إلا ضرباً من ضروب النوستالجيا. لكن مع مرور الوقت، أدركت أن بداخلي طفلاً يرفض التلاشي رغم تضاؤل المساحة المخصصة له. يتجسد الطفل المذكور، وبشكل رئيسي، في عدم نضوب الأسئلة الإشكالية التي استمر بطرحها، وكأن جوارحه تمنعه من مشاهدة الرسوم المتحركة كشخص راشد. 

في النسخة العربية من الكابتن ماجد، خاض بطلنا المذكور بطولة كأس العالم باسم المنتخب العربي، ليتغلب تباعاً على منتخبات فرنسا وانكلترا وألمانيا. من المفترض أن ينحاز المشاهد إلى الكابتن ماجد نظراً لكونه الشخصية الرئيسية، لكن عند مشاهدتي النسخة الفرنسية، تزاحمت في ذهني الأسئلة حول "ماهية الصراع النفسي" الذي عرفه أقراني الفرنسيون: ماذا كان احساسهم وهم يتابعون خسارة منتخب بلادهم على يد المنتخب الياباني الذي مثله الكابتن ماجد في تلك النسخة؟ لا بل توجب عليهم تشجيع المنتخب الياباني بحكم فلسفة المسلسل. حاولت إثارة هذا النقاش مع أصدقاء فرنسيين لكن دون جدوى: منهم من لم يتابع الكابتن ماجد، فيما استخف آخرون بهذا النقاش ولم يفهموا الغاية منه. 

لا يغيب عن بالي ذلك اليوم الذي جلبت فيه شقيقتي هيفاء فيلم ديزني "الجميلة والوحش" باللغة الفرنسية، لنشاهده للمرة الأولى مع شقيقي علي. كانت هذه في نظرها وسيلة تربوية لتطوير لغتنا: تعلقت بالفيلم على نحو رسّخ في ذاكرتي تفاصيل ذلك النهار، حتى أني ما زلت أذكر على أي كنبة ارتمى كلٌ منا. وحين عثرت على الفيلم المذكور في أحد المواقع الالكترونية، اختلط الزمن عليّ لدرجة شعرت أنني لست بمفردي في الحجرة، ما دفعني للالتفات جانباً كي أباشر حديثاً مع هيفاء وعلي. ردة فعل عفوية دفعتني إلى الشك بقواي العقلية.   

على عكس ما قد يظنه البعض، فإن اثارة الرسوم المتحركة بين الكبار ليست مجرد حنين لطفولة نرجو استعادتها، بل قد تكون فرصة لنسج علاقات اجتماعية. فحين قصدت المطعم الجامعي ذات يوم من عام 2006، التقيت صدفة بزميلين لي هما تودور البلغاري وريكاردو القادم من البيرو. جلسنا على ذات الطاولة إلا أننا لم نجد أي حديث مشترك نتناوله.

متابعة الوثائقيات والأفلام السينمائية والبرامج  في عمري الحالي تنطوي على مقاربة عقلانية للمضمون، بينما كان "الإدمان" على الرسوم المتحركة عملية عاطفية بحتة، تماماً مثل المقارنة بين قرار الزواج والحب

كانت المرة الأولى التي نلتقي فيها ولم يكن قد مضى على وصولنا إلى فرنسا إلا أسبوع واحد. لم نخُض بعدُ دوامة الروتين الإداري، وهو أحد أبرز المواضيع التي يثيرها سكان هذه البلاد في جلساتهم الخاصة، وكنا نخطو خطواتنا الأولى في الجامعة، إلى جانب انتمائنا إلى بلدان لا تربطها أية علاقات قد تتيح "أخذاً ورداً". 

لا أذكر في أي سياق اكتشفنا أن ثلاثتنا كنا نشاهد الكابتن ماجد في صغرنا، ليدور الحديث حوله طوال تلك الجلسة وعلى وجه المقارنة بين النسخ الثلاث، ولتتحول هذه الدردشة إلى مقدمة لتوطيد العلاقة فيما بيننا. 

مشاهدة الرسوم المتحركة، ورغم تجاوز سن الرشد بأشواط، أشبه ما يكون بالحنين إلى الحب الأول، لا سيما مع امتناعي عن مشاهدة أي عمل كرتوني لم يطبع طفولتي. متابعة الوثائقيات والأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية، في عمري الحالي، تنطوي على مقاربة عقلانية للمضمون ولأسلوب المعالجة، بينما كان "الإدمان" على الرسوم المتحركة عملية عاطفية بحتة. تماماً مثل المقارنة بين قرار الزواج، الذي يتوجب اتخاذه بناءً على تقييم موضوعي، وبين الحب الذي يقتحم حياتنا دون استئذان.  

ومثلما كان الحب الأول تجربتنا الأولى في متاهات العواطف حتى أضحى مرجعاً تصعب إزالته من الذاكرة، ستظل مشاهدة الرسوم المتحركة متعةً بريئة يستحيل نسيانها حتى لو بلغنا "أرذل العمر". 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard