شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عن ترميم ثقوب الطفولة اليوم بمشاهدة الرسوم المتحركة

عن ترميم ثقوب الطفولة اليوم بمشاهدة الرسوم المتحركة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 6 أبريل 202302:13 م

تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسوم المتحركة (استراحة في عالم الألوان والأمل)، في قسم ثقافة، رصيف22.


كانت البداية على ما أذكر في الرابعة من كل يوم على القناة الأرضية السورية، مع ديكٍ يصيح في الشارة معلناً بداية برامج الأطفال. لاحقاً، صارت الشارة قطاراً بثلاث مقطورات تتقدمه وتترجل منه شخصيات كرتونية عديدة، ويتصاعد منه دخان على شكل أزهار ملونة، قبل أن تطالعنا إحدى المذيعات لتحيّينا، نحن أحبتها الأطفال، "بباقة حب وردية" أو بما شابه من التعابير المكررة.

كنت على علاقة لفترة مع أفلام الكرتون، ثم انقطعت عنها قبل أن تعود تلك العلاقة مجدداً، يليها انقطاع آخر ثم متابعة طويلة ومديدة لها، تمتد حتى اليوم.

أتذكر بعض المشاهد كحلمٍ كنت أعيش تفاصيله في الرابعة أو الخامسة من عمري، مع الرجل الحديدي وسندباد وأبطال الملاعب وحكايات عالمية، يتخللها شيء ما من ميمونة ومسعود، ثم الفتى ياقوت وجورجي، وسالي، ومدن الذهب الغامضة.

كرتون الطفولة الناقص

كنا نسكن مع بيت جدي أيام مشاهدتي وأخوتي تلك البرامج بالأبيض والأسود، ثم جاء عمي وعائلته ليسكنوا ذات البيت. اقتسمنا كلنا التلفاز الوحيد الذي عرفت لأول مرة أنه مُلك لجدي، وبالتالي، فإن من حق أبناء عمي أن يمتلكوه مثلنا تماماً. هكذا، بدأَ التلفاز رحلته ضمن البيت الذي يقع في خمسة غرف وموزع كبير، أخذ عمي وعائلته غرفتين منها.

في غازي عنتاب وفي الثلاثين من عمري، شاهدت ليدي أوسكار ونيلز، وفي أقاصي غرب الكرة الأرضية، في مدينة لوس آنجلوس، شاهدت السنافر وبسيط، وسالي مجدداً وأنا في الثالثة والثلاثين، وفي برلين وأنا أقترب اليوم من الأربعين، أشاهد عدنان ولينا وكان ياما كان الحياة وحكايات عالمية وسندباد

في فترات الخلافات العائلية، كانت عائلة عمي تستحوذ على التلفاز، رغم أنه كان من المفترض أن يبقى في الموزع ليتمكن الجميع من استخدامه. يحتفظون به في إحدى غرفتيهم، ونضطر أنا وأخَواي لإيجاد سبيل ما لإرضاء أبناء العم الذين قد لا يرغبون بنا بينهم. حتى في أيام الوفاق بين العائلتين، كانوا يكتفون بالإشارة لنا برؤوسهم أو أعينهم بأن نغادر المكان.

ولأن البيوت في القرى، ولا سيما الجبلية منها، تتيح وصول الأصوات، فقد كنا نستمع إلى أصوات شارات أفلام الكرتون آتية من البيوت المجاورة، خصوصاً أن أبناء عمي كثيراً ما كانوا يخفضون الصوت كي لا نتجرأ على طرق الباب للدخول.

في الصف الرابع (لا بد أن ذلك كان في عام ١٩٩٣)، بدأ عرض الكابتن ماجد في جزئه الأول على ما أذكر. كنت أصطحب أخويّ إلى بيت جدي لأمي، الذي يبعد عن بيتنا قرابة عشر دقائق سيراً على الأقدام. هناك، لا أحد يطردنا أو يطلب منا المغادرة، حيث كان بإمكاننا أن نتصالح مع طفولتنا ونشاهد أفلام الكرتون، بدلاً من كبت الأنفاس في بيتنا لعائلة أبي، فلا يضيق صدر الكبار ممن لا يفضلون الشجار مع عائلة عمي، ولا يقسون علينا طالبين منا الانشغال عن الكرتون بأي شيء آخر.

في زياراتنا اليومية صيفاً إلى بيت جدي لأمي، شاهدنا فيردي والكابتن ماجد والكابتن رابح، وكان ياما كان الحياة. وحين صرت في الصف الخامس، صرت أتمسك بعلاقة جيدة مع ابنة عمي الوحيدة و"الأكثر"شراً" بين إخوتها في تلك المرحلة، كي أتمكن من متابعة نوار وابنتي العزيزة راوية وروبن هود وتوم سوير، ولحن الحياة والفايكينغ وماوكلي وكعبول والهداف رامي والصياد الصغير.

إلا أنني كنت غير مبالية بكل هذا في أيام الخميس، فهو اليوم المخصص لبرنامج طلائع البعث. كنا متخمين بالأناشيد والشعارات، ولم نكن راغبين بالفرجة على برنامج يبدأ بـ "جينا جينا في موعدنا... نحمل بعثاً مع قائدنا... ننثر ورداً لمعلمنا... نهتف أهلاً بأهالينا".

أستطيع أيضاً أن أحيل تلك المسلسلات إلى حبل سري يربطني من على أريكتي في برلين، بغرفة ما في بيت أهلي أو بيت جدي لأمي.

لم أشاهد أياً من تلك البرامج كاملةً. كنت أشاهد ما يتيحه لنا أبناء عمي أو ما نتمكن من حضوره في زياراتنا لبيت جدي لأمي أيام الصيف، وهو ما لا نفعله في الشتاء بسبب المدرسة والعوامل الجوية. أما في أيام الجمعة، فكان هناك عرض لحلقة من" دون كيشوت" الذي لم أكن أستسيغه، وذلك لجهلي بالقصة أولاً، ولإيقاعه البطيء ثانياً. كنت فقط أتطلع في الأيام التي يحالفني فيها مزاج أبناء عمي، إلى عرض الحلقة الأخيرة من برنامج أطفال حدثني عنه إخوتي الذين يكبروني بحماس شديد، ورغبت في مشاهدته.

لاحقاً، وعندما بلغت الثانية عشرة من عمري، اشترى أهلي تلفازاً مستعملاً ومهرباً من لبنان. كان كبيراً وملوناً، لكن لم تكن ثمة فرصة هذه المرة أيضاً لمشاهدة أفلام الكرتون ولأسباب عديدة، منها أن هذا التلفاز بات يخدم شرائح عمرية مختلفة في البيت. دخلت "الأتاري" إلى حياة إخوتي الصبيان، أما أنا فقد صرت "صبية"!

كنت أظفر، آنئذ، بوقت قليل لمشاهدة أفلام الكرتون التي صارت خياراتها عديدة، بعد دخول المحطات اللبنانية على الخط، لكنها كانت برامج بطابع عرفت لاحقاً أنه غربي، وبلهجة لبنانية محلية تفتقد "حميمية" الدوبلاج العراقي والأردني قبل أن يغزو الدوبلاج السوري هذا السوق. بالإضافة إلى أنها كانت ملأى بفقرات باللغة الفرنسية التي لا تشكل جزءاً من معرفتي.

طغى وجه فاتنة محمد على أفلام الكرتون في التلفزيون السوري، وبكل ما لم تؤته من خفة ظل أو رهافة تناسب الأطفال، كما بدأت برامج الأطفال على القنوات السورية تذهب باتجاه البوكيمون أو ما شابهه مما لم يستهوني، ومما لا يشبه ما تكوّن عليه جيل الثمانينات وما قبله. لطالما كنت من أنصار الحكاية الطويلة، الدراما التي تقدّم في فيلم كارتوني، وحكايات الخير والانتظار في سبيل نهاية سعيدة أو منصفة. كان هناك كثير من القيم في برامج الأطفال: العدالة والالتزام، الصداقة، الأمانة، المثابرة والإيمان بالذات، وهو ما انقلب في مرحلة ما نحو العنف أو الخيال المبالغ فيه، والإفراغ من القيم.

كرتون أمي وذكريات المنفى

اليوم، وأنا أستعيد كل هذه الذكريات الغريبة في مضمونها ولناحية بقائها في ذاكرتي بكل هذا التشبث، أعترف أني في سنواتي الأولى خارج سوريا، وفي كل مرة صارعت فيها صور الموت والضحايا، أو غلبني شوقي لإخوتي، كنت أهرب إلى يوتيوب، وكانت تلك نعمة الثورة: الفرار من سوريا بالعمل وامتلاك حاسوب نقال بشاشة مسطحة، والسكن لوحدي في بيت مزود بالإنترنت.

كنت أعالج نفسي بمشاهدة أفلام الكرتون. في غازي عنتاب وفي الثلاثين من عمري، شاهدت ليدي أوسكار ونيلز، وفي أقاصي غرب الكرة الأرضية، في مدينة لوس آنجلوس، شاهدت السنافر وبسيط، وسالي مجدداً وأنا في الثالثة والثلاثين، وفي برلين وأنا أقترب اليوم من الأربعين، أشاهد عدنان ولينا وكان ياما كان الحياة وحكايات عالمية وسندباد.

اكتشفت أن أمي كانت تعيش طفولتها وإخوتي يوم كان التلفاز غير موزع الملكية. لا بد أن ذلك كان ممتعاً لها، لا سيما أنها كأمهات معظمنا، عاشت طفولتها منتصف خمسينيات القرن الماضي وبلا تلفاز أو كهرباء

في إحدى المرات، تذكرت أمي وهي تغني لأحد إخوتي في طفولتنا "هاتسو هاتسو هاتسو.. من منكم ناداني الآن؟ اسمي هاتسو يا فتيان. كتبت هذه الكلمات على محرك البحث، لأجد برنامج أطفال اسمه "التنين الصغير". هنا، اكتشفت أن أمي كانت تعيش طفولتها وإخوتي يوم كان التلفاز غير موزع الملكية. لا بد أن ذلك كان ممتعاً لها، لا سيما أنها كأمهات معظمنا، عاشت طفولتها منتصف خمسينيات القرن الماضي وبلا تلفاز أو كهرباء.

ثمة مسلسلات أو حلقات أعيد مشاهدتها كلما استطعت، بالتحديد نوار، ونيلز وحكايات عالمية في حلقات محددة منه. تستطيع هذه العملية أن ترمم ثقوب الطفولة كلها، كما أستطيع من خلالها مناقشة أبناء جيلي بالمسلسلات الكرتونية، ومن دون أن أعترف لهم أنني كنت في عائلة لم تكن تملك، في مرحلة ما من عمري، تلفازاً.

أستطيع أيضاً أن أحيل تلك المسلسلات إلى حبل سري يربطني من على أريكتي في برلين، بغرفة ما في بيت أهلي أو بيت جدي لأمي، أو بجزء ما من الطريق الواصل بينهما، حيث نسرع الخطو، شقيقي وأنا، حال سماعنا شارة أحد المسلسلات، على أمل مشاهدة الحلقة من بدايتها، ما استطعنا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image