تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسوم المتحركة (استراحة في عالم الألوان والأمل)، في قسم ثقافة، رصيف22.
كنت طفلًا في العاشرة من العمر، أتحسر لعدم قدرتي على متابعة الرسوم المتحركة في القرية. أما الآن فأنا كاتب، وما زالت تلك الحسرة تلاحقني، ولهذا، سأكتب عن تلك الحسرة وتلك المنغصات، علّني أتحرر منها.
تولعت بالرسوم المتحركة منذ وصلت الكهرباء، ودخل تلفزيون الأبيض والأسود إلى قريتي الحدودية في البادية. حدث هذا في ثمانينيات القرن العشرين.
كنت وباقي الأطفال في قريتي نكبر مثلما تنمو الأعشاب على قارعة الطريق، وكنا نتحرق شوقاً إلى نوعين من التسلية لا ثالث لهما: إما اللعب في البيادر والأزقة بالكرة و"الكِلل"، أو حضور الرسوم المتحركة على التلفزيون.
كنت طفلًا في العاشرة من العمر، أتحسر لعدم قدرتي على متابعة الرسوم المتحركة في القرية. أما الآن فأنا كاتب، وما زالت تلك الحسرة تلاحقني، ولهذا، سأكتب عن تلك الحسرة وتلك المنغصات، علّني أتحرر منها
كان اسم القرية "خربة عواد"، وهي تقع في الزاوية الجنوبية لخريطة سوريا بالضبط. إنها إحدى رموز "اتفاقية سايكس بيكو" التي قسمتها إلى نصفين غير متساويين: أحدهما سوري والآخر أردني. أسمّيها بـ "القرية اليتيمة" أسوة بـ "غلوب باشا"، الملقب بـ"أبو حنيك" في نواحينا الأردنية، فلا هي تابعة للأردن ولا هي تابعة لسوريا. حتى "أبو حنيك" استهجن تلك القسمة وقال ذات يوم في ثلاثينيات القرن الماضي: هل انتهيتم من ترسيم الحدود؟! وفق ترسيمكم هذا، ستكون هذه القرية يتيمة، لا أم لها ولا أب".
قال ذلك وهو يسحب الدخان من غليونه الطويل، ويجلس جلسة عربية بدا وكأنه مفطوم عليها كأيّ بدوي من أبناء المنطقة. كان وقتها في "خربة عواد"، وبمرافقة وفد أردني جاء لكي يلتقي أهالي القرية من أجل ترسيم الحدود، وكان مفاوضاً رئيسياً فيما يتعلق بمصير حدودٍ عربية، رغم أنه بريطاني الجنسية. لقبّه البدو "أبو حنيك"؛ لإصابته في فكه بشظية ألمانية أثناء إحدى المعارك التي خاضتها بريطانيا العظمى في الحرب العالمية الأولى.
إنها قرية سورية الآن، ولكن بعض أراضيها في الأردن، وتحتاج إلى تصريح أمني للدخول إليها بقصد الفلاحة والزراعة والحصاد.
محطات القرية اليتيمة وكرتونها
لقد أتاحت هذه الوضعية الجغرافية لـ "القرية اليتيمة"، وصول بث ثلاث محطات تلفزيونية إليها، وهي "التلفزيون الرسمي السوري" و"التلفزيون الرسمي الأردني"، وقناة "إسرائيل الأولى" التي كانت تبث بالإضافة إلى الرسوم المتحركة باللغة العبرية، أفلاماً عربية مساء يوم الجمعة، وأفلاماً أجنبية مترجمة إلى العربية يومياً بعد الساعة الحادية عشر ليلاً.
كان هذا العدد من القنوات، وعلى الرغم من كونه محدوداً بالنسبة إلى المئات من محطات الديجتال اليوم، يُعتبر كبيراً في تلك الفترة؛ لتوفيره ثلاثة خيارات أمامنا لمتابعة الرسوم المتحركة، قياساً بالحال في العاصمة دمشق مثلًا، والتي لا يصلها سوى بث التلفزيون الرسمي فقط، وكان "الشوام" يحسدوننا بطرافة ضاربة إذ يقولون: "نيالكم! أما عندنا: يا شام يا تنام".
وعلى رغم توفر هذه الخيارات المتعددة، إلا أنني لم أكمل أي برنامج كرتوني إلى نهايته، لأنني كنت مضطراً، في الصيف، إلى الذهاب عصراً للحصاد كنوبة عمل ثانية بعد تلك الصباحية، أو لجلب الحشيش للبقرة، أو لالتقاط بعض الحطب للتنور، أو لـ "درس" الحبوب بالوقوف على اللوح المزروع بالحصى والذي يجره البغل ويدور به فوق كيس الحبوب. وغالباً ما كان ذهابي إلى هذه الأعمال (التي ما زلت أكرهها حتى الآن) يتزامن مع بدء بث الرسوم المتحركة. شاهدتُ بعض الحلقات من "أفلام الكرتون"، ولكنني لم أشاهد غالبية تلك الأفلام، وهنا مصدر حسرتي.
كان شغفي بالتسلية قد تعدى عنصري التشويق والمغامرة اللذين حملتهما الرسوم المتحركة، إلى المعنى الذي كانت تقدمه. في تلك الفترة كانت الحرب الباردة، وكان المعسكران، الرأسمالي والاشتراكي، في تنافس مستمر. كان ثمة معنى للحياة ورحت أتسلى بذلك المعنى أيضاً.
عرفت لاحقاً أن المؤلف لم يكن ميتاً في تلك الأيام بعد، ليولد القارئ الذي يشظي النص من دون مرجعية إلى المؤلف، ولم يكن "الفن للفن"، ولا "الجمال بعين الناظر" فحسب، بل كان للفن رسالة وكأنه ساعي بريد عليه توصيلها إلى الجمهور، وكان الجمال قيمة موضوعية مرتبطة بالضرورة ارتباطًا كلياً وبالمعنى ارتباطاً آلياً.
كلما شاهدت صور القرية اليتيمة على مواقع التواصل الاجتماعي، أفتش عن لحظات التسلية المفقودة. قد لا أستعيدها يوماً.
صحيح أنني استطعت مشاهدة بعض حلقات الرسوم المتحركة في حينه، إلا أنني كنت أتابعها وحيداً من دون أصدقاء أو أقارب أو مجايلين، وهي كانت أول فرصة لي، من خارج تربية الأهل والمحيط المحلي والقروي، لكي أنظر من خلالها إلى العالم. كنت كما لو أنني أتسلى تسلية وجودية أو كينونية هذه المَرّة، فأعيشها بكل كياني وأتقمص أفكارها. لقد كانت أكثر من حقيقة بالنسبة لي... كانت تسلية أطفال بشكل جدي.
عندما بلغت الثانية عشرة من عمري، راح التلفزيون السوري يبث "جزيرة الكنز" مدبلجاً إلى العربية. على ما أذكر، كان البث يبدأ في الساعة الثالثة بعد الظهر بالنشيد الوطني "حماة الديار"، ثم ببضع آيات تقدمها المذيعة بقولها: "خير ما نستهل به إرسالنا هذا، آيات من القرآن الكريم"، وليبدأ بعد ذلك بث الرسوم المتحركة. كان مسلسل جزيرة الكنز أكثر ما استحوذ عليّ ورسَخ في ذهني، ولم أتعلق بمسلسل كارتوني كتعلقي به، على الرغم من أنني ابن للبادية، لا أعرف البحر ولا القراصنة ولا السفن، وعلى الرغم أيضاً من كثرة عرض البرامج الجيدة مثل: توم سوير ودون كيشوت ديلامنشا وساندي بيل وسندباد وساسوكي وغرندايزر وفلونة وليدي أوسكار وريمي وبيل وسبيستيان وتوم وجيري.
فمن "سيلفر" بطل جزيرة الكنز، تعلمت، دور الإرادة الذي لخصه بقوله: "كل منا يحتاج الإرادة حتى يستطيع أن يقوم بعمله"، وفهمت دور الذكاء في حل المشاكل وتجاوز العقبات لإيجاد الكنز، وسعدت بشغفه بالحياة الحاضرة عندما لا يهتم إلّا لكوب القهوة الذي يشربه في تلك اللحظة المعاشة. أما مشهد استنهاضه لببغائه، "فلينت"، فما زلت أكرره إلى الآن. ربما لو تابعته كاملاً في طفولتي لتغيرت حياتي كلياً.
العقد الخامس مع جزيرة الكنز
امتلكت كلباً أليفاً من النقطة العسكرية الأردنية، عندما كنت ووالدي وعمي نجلب الحطب لنضعه في شبكة ثم نحمّله على ظهر الحمار. كان اسم الكلب "كارتر"، ربما كإهانة لرئيس الولايات المتحدة الأميركية آنذاك. وكان صاحب الكلب من الجنود الأردنيين المنقولين من النقطة الحدودية ولم يكن يستطيع أخذ "كارتر" معه، فأعطانا إياه وهو ممتن لنا لقبولنا أخذه. أركبته أمامي على الحمار حتى البيت، وفضلت أن أغير اسمه لاحقاً من "كارتر" إلى "سيلفر"، ولكني كنت أخجل من أن ينظر الآخرون إلى هذه التسمية كإهانة لبطلي.
رسخ هذا المسلسل في ذهني من شارة البداية والنهاية، بالصوت الرخيم المغني سامي كلارك ، والموسيقى المذهلة التي أميّزها من بين عدد لا نهائي من المعزوفات، وبتناسب الكلام مع الأحداث، وبصوت وحيد جلال وضحكته المجلجلة في الدبلجة العربية لكلام "سيلفر".
كان شغفي بالتسلية قد تعدى عنصري التشويق والمغامرة اللذين حملتهما الرسوم المتحركة، إلى المعنى الذي كانت تقدمه. في تلك الفترة كانت الحرب الباردة، وكان المعسكران، الرأسمالي والاشتراكي، في تنافس مستمر. كان ثمة معنى للحياة ورحت أتسلى بذلك المعنى أيضاً
انتقلت من القرية اليتيمة عام 1985 تاركاً "كارتر" في دار جدي، ليموت قتلاً بعد سنوات، وبعد أن صار مسعوراً ومؤذياً للمارة. أما القرية اليتيمة، فلم تعد يتيمة وفقاً لملاحظة "غلوب باشا" الذكية، بل صار لها أب وأم هما سوريا. مع ذلك، ورغم أنها فرَغت من مشاغباتنا وشقاواتنا وأعمالنا التافهة، إلا أنها امتلأت بمنغصّات أخرى. وبدلاً التحسر على التسلية التي كنا محرومين منها، صرنا أمام حسرات ومنغصات أخرى هي "الضروريات". وكلما مررت اليوم بـ "القرية اليتيمة" للتعزية أو للمشاركة بعرس، تهاجمني النغصة مجدداً، فألتفت إلى الخلف قبل أن أفرّ هارباً وأعود إلى التسلية التي أضعتها.
أنا الآن في العقد الخامس من عمري، وقد احتفلت باليوبيل الذهبي قبل عامين. أحاول مع أولادي، ديار وأكاد، وبناتي، نايا ورند، حضور "جزيرة الكنز" على "يوتيوب" ومن دون منغصات، إلا أنهم يسايرونني بحلقة أو اثنتين، ثم يعود كل منهم إلى حضور ما يفضله. من المؤكد أن الفروقات الفردية إلى جانب فارق العمر والظروف، جعلت من حسرتي ومن ذكرياتي مجرد فولكلور فحسب، وبتّ أعرف حجم التغيّر الذي حصل لي من عيون أولادي وبناتي، فأنا تغيرت والأجيال تغيرت والعالم تغير، وما زال شغف التسلية ثابتاً، ولكن بمواضيع متغيرة. إنه يبتكر تسالٍ جديدة.
وبعد 37 عاماً ومئات المسلسلات والروايات والقصص والبرامج. وكلما شاهدت صور القرية اليتيمة على مواقع التواصل الاجتماعي، أفتش عن لحظات التسلية المفقودة. قد لا أستعيدها يوماً، ولكنني أظن أن التمسك بذكريات الطفولة ومكان الطفولة ما هو إلّا مواجهة معنوية مع توحشهما.
ملاحظة: يمكنكم تلقيبي "أبو قليب"؛ لكثرة شظايا المنغصات التي أصابت قلبي في القرية اليتيمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون