تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسوم المتحركة (استراحة في عالم الألوان والأمل)، في قسم ثقافة، رصيف22.
كانت أفلام الكرتون تستهويني كثيراً، أنتظر موعدها في الساعة الرابعة مساء من كل يوم، لكن كان توم وجيري أكثر ما كان يبهج قلوبنا، نحن الإخوة الأربعة، كبرنامج للرسوم المتحركة يحملنا إلى عالم الخيال ويبعدنا عن الواقع، رغم دقائق عرضه القليلة.
كنت أسرح في عالم تلك الرسوم، يطير قلبي ويرتفع كلما طاروا وارتفعوا. من تُطلق النار على رأسه لا يموت، ومن يسقط من مكان مرتفع يعود للحياة، ومن تسقط قطعة حديدية على رأسه.. لا تؤذيه، وإن غيرت شكله الذي يعود بسرعة إلى ما كان عليه.
عالمي الأول وعالم توم وجيري
كانت رسوماً متحركة تداعب الخيال لدي والعاطفة، وتحملني معها في كل خطوة. فمثلاً، حين يتشاجر القط والفأر لسبب يفتعله ذاك الفأر "اللطيف"، كنت أراه صاحب حق دائماً، علماً أننا أننا لم نعتد تربية الفئران في منازلنا، ولم نتقبل يوماً فكرة وجودها فيها، بل كان العُرف يقول إن المقبول دائماً هو وجود القطط التي تقضي على الفئران. مع ذلك كنت أرى أن لهذا الفأر، دون غيره، الحق في كل شيء حتى في الانتصار، وكنت أرى في المشاكل التي يفتعلها مع القط توم.. مشاكل لا تستدعي محاربة هذا الأخير له وإلى هذا الحد.
جيري فأر لطيف ونظيف ومسالم وذكي، وحين كان الاثنان يفسدان رتابة المنزل ويخربان أثاثه، كنت ألقي باللائمة دائماً على توم، لا على جيري "الصبور" الذي لا يتوانى للحظة في مساعدة توم لإعادة كل شيء إلى مكانه، بمجرد أن يسمعا صوت خطوات أصحاب البيت وقد عادوا من سهرتهم. ربما كان إنجاز تلك الأعمال بسرعة هو ما يلفت انتباهي، وكثيراً ما تساءلت: لماذا لا أستطيع وإخوتي أن نقلّدهم وننهي ما خربناه في المنزل خلال دقائق معدودة، بمجرد رؤيتنا لأمي في بداية الطريق، علماً أنها كانت تستغرق أضعاف الوقت الذي يستغرقه أصحاب البيت في "توم وجيري" إلى أن يفتحوا الباب ويدخلوا، وليجدوا الأريكة النظيفة والشاي الساخن على الطاولة.
لم يعد الوقت يساعدنا على متابعة توم وجيري كما في السابق، وباتت أيامنا، أيامي وأيام الجيل الحالي، أكثر جموداً، تفتقر لعنصر الطفولة والحياة والمغامرات
كنت أخاطب توم "الغبي" بقسوةٍ وانزعاج من تصرفاته. فكيف له أن يرمي بفأر وديع وجميل ومميز، مثل جيري، في الثلج، ويشرّده في الخارج إلى أن يتجمد ويصير كتلة من الجليد! ثم وبعد أن يشعر بالبرد للحظات، يخرج باحثاً عن ضحيته ويعود بها إلى الداخل ويذيب الثلج عنها لتعود إلى الحياة من جديد (لم اكن أعرف أن من يموت لا يعود إلى الحياة مرة أخرى). بعد ذلك، تبدأ المشاكل بينهما مجدداً وأبدأ أنا بالقول: "دعه أيها الغبي فله الحق في أن يأكل وينام دون إزعاج أو أصوات مقصودة منك.. لا تحاربه كلما فتح الثلاجة وأخذ منها قطعة من الجبن. نعم، له الحق في ذلك، أما أنت فلا! هو الذكي وأنت الغبي، هو الحنون اللطيف وأنت القاسي، حتى عقابه لك كنت أراه جيداً وأرى عقابك له سيئاً".
مرت السنوات وبقيت أحب برنامج الرسوم المتحركة هذا، وبذات الحماس الذي كان في سنوات الطفولة الأولى، ولكن في ظل اختلاف ساعات العرض واوقاتها واختلاف الظروف الاجتماعية والنفسية الخاصة. وصلت مرحلة الدراسة الإعدادية وبقي "توم وجيري" مرافقاً لي، أسابق الزمن أثناء عودتي من المدرسة في الدوام المسائي، كي أصل إلى بيتنا قبل موعد عرضه. أنهي أعمالي المنزلية بسرعة مستعينة بتوم وجيري وحركاتهما الخيالية ما إن يسمعا صوت أقدام صاحبة المنزل، قبل ان أتفرغ لمشاهدته مجدداً، وليترسخ يقيني بكون الفأر جيري فأر مظلوم وصاحب حق، في حين أن القط توم ظالم دائماً، وأن المسألة مسألة وجود وبقاء في تلك الأرض، وهذه الأخيرة هي منزل السيدة العجوز التي استُبدلت بفتاة شابة في أجزاءٍ لاحقة، من دون أن أعرف سبب ذلك.
كرتون قديم على ضوء النزوح والتهجير
كنت كلما كبرت، تكبر معي كراهيتي لتوم، وأجد أن لا فائدة منه ولا هدف له سوى إزعاج جيري الذي لا يحرك ساكناً عندما يغيب ذلك القط المتسلط على كل شيء، والذي لم يرفع حجمه الكبير من نسبة الذكاء والقوة لديه (وهذه مسألة فهمتها لاحقاً، حيث لا علاقة للقوة والذكاء بالحجم).
لم تعد نظرتي إلى توم وجيري كما كانت في السابق، ولم تعد تستهويني حركاتهما المفاجئة، مثل غيري من متابعي البرنامج ومثل سائر الأطفال في المخيمات ومناطق النزوح، ومثل الكبار ممن كانوا يُعرفون بالجدية التي تختفي لدى متابعتهم الرسوم المتحركة
ظل هذا الكرتون صديقي المفضل دون غيره. ثم وبعد النزوح والتهجير، أي بعد مرحلة جديدة من حياتي، صرت أواجه أولويات جديدة ومختلفة عن السابقة، وكان الحفاظ على الحياة أهم تلك الأولويات، واختفت معظم المقومات كالكهرباء ومعها شاشة التلفاز الصغيرة التي كنا نشاهد برامجنا المفضلة من خلالها.
لم يعد الوقت يساعدنا على متابعة توم وجيري كما في السابق، وباتت أيامنا، أيامي وأيام الجيل الحالي، أكثر جموداً، تفتقر لعنصر الطفولة والحياة والمغامرات. صارت أصوات الموسيقى التشويقية مخيفة لأنها تخفي صوت الطائرة الذي يبقى الجميع متأهباً لسماعه ثم للاحتماء منها، على عكس ما كانت الطائرات عليه في السابق، مبعث شوق وحماس. أما حركات الطيران والارتفاع العالية التي كانت تحفز فينا حب المغامرة والتجربة والأمان وعدم الخوف من السقوط، فقد أصبحت اليوم مخيفة لمجرد ربطها مع القصف الجوي وما ينتج عنه. تحولت الرغبة إلى خوف، والحماس إلى جمود، والطفولة إلى شيخوخة متحفظة وخائفة.
لم تعد نظرتي إلى توم وجيري كما كانت في السابق، ولم تعد تستهويني حركاتهما المفاجئة، مثل غيري من متابعي البرنامج ومثل سائر الأطفال في المخيمات ومناطق النزوح، ومثل الكبار ممن كانوا يُعرفون بالجدية التي تختفي لدى متابعتهم الرسوم المتحركة، كما لم يعد يهمني إذا كان القط ظالماً أو مظلوماً، ولا أفرح اليوم لانتصارات جيري. لقد أصبح همنا الوحيد هو الحفاظ على القطعة الجغرافية الصغيرة التي نعيش فيها، بدون حرب أو قصف أو طيران.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون