تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسوم المتحركة (استراحة في عالم الألوان والأمل)، في قسم ثقافة، رصيف22.
"عدا عن الأغاني العاطفية وأغاني الطرب، نغني أغاني مقدمات المسلسلات الكارتونية التي كنا نشاهدها عندما كنا أطفالاً في ثمانينيات القرن الماضي". هذا ما قاله أحد الفنانين البحرينيين ممن تحدثت معهم مؤخراً، فالمسلسلات الكارتونية والرسوم المتحركة كانت جزءً مهماً وكبيراً من حياة ذلك الجيل، بالإضافة إلى أنها لم تكن سهلة المنال كما هي اليوم.
لذا، بنى كثيرون من جيلَي الثمانينيات والتسعينيات في البحرين عديداً من المعارف ومن الارتباط بالفن والموسيقى وببعض القيم عن طريق هذه الرسوم، وهي خلقت الوعي الأول والاتصال المباشر بالتلفاز وبالخيال والقصص، والتي كان أغلبها يابانيّ الأصل وإن تنوعت مصادر القصة.
خيارات محدودة
يقول المسرحي والروائي حسين عبد علي: "في جيلي، وأقصد جيل الثمانينيات وما قبلها، لم تكن الخيارات مفتوحة أمامك كما يحدث الآن، وكنا محكومين/ات وقتها بأوقات محددة لقناة أرضية أو قناتين في أحسن الأحوال الجوية، ليتمكن اللاقط الهوائي من التقاط الإشارات، وفي هذه الأوقات كنا نشاهد ما اختارته القناة من رسوم متحركة"، ويضيف: " باتت الخيارات أوسع مع الفضائيات، وأصبحت لانهائية مع الانترنت، بحيث تمكنك المشاهدة في أي وقت وأي مكان وبأي لغة تريد".
يكون خيال الطفل سهل الاستقبال للأفكار والرسوم والفنون واللغات وغيرها من المعارف، والرسوم المتحركة هي أحدى الطرق المشوقة لنقل هذه المعارف دون وعي، ولها تأثير على خلق الإبداع وتحفيز الخيال
ترتبط ذاكرة عبد علي بالعديد من المسلسلات، مثل مغامرات سندباد وتوم سوير، عدنان ولينا، جزيرة الكنز، جراندايزر، كابتن ماجد، جونكر أو غزاة من الفضاء، اسألوا لبيبة، سانشيرو، سنان، فلونه، سالي والقائمة تطول، وهو يجد نفسه مجبراً أحياناً، كونه أباً لطفلين، على مشاهدة الرسوم المتحركة، إلى جانب غرامه بنتاجات العبقري الياباني هاياو ميازاكي، مؤسس إستوديو غيبلي.
بالإضافة لبعض ما سبق، تابعت الشاعرة البحرينية جنان العود كلاً من ليدي وفتاة المراعي وصاحب الظل الطويل وجورجي وبومبو وحكايات عالمية، لكنها لا تشاهد الرسوم المتحركة اليوم، وإذا حصل صدفة ووجدَت إحداها يعرض على شاشة التلفاز، فإنها تشاهدها وتحاول إقناع ابنتها بالمشاهدة أيضاً، لكنها لا تفلح في كل مرة!".
يتابع الإعلامي باقر زين الدين المحقق كونان، توم وجيري، النمر الوردي، وغيرها من المسلسلات، ويشاهد مع أولاده بعضاً منها كما يقول، في حين يؤكد الشاعر والمصور عبدالله العميري أنه كان يستمتع بمشاهدة أغلب ما كان يعرض في التلفزيون مثل المحقق كونان، عدنان و لينا، النمر المقنع، وغيرها، وهو أحبّ بوكيمون والكابتن ماجد، وكان أول فيلم شاهده في السينما فيلم "الأسد الملك" في منتصف التسعينات.
يشاهد العميري أفلام الرسوم المتحركة أكثر من المسلسلات، وقد استمتع مؤخراً بأفلام إنكانتو وبينوكيو كما يقول، مؤكداً أن لأفلام الكرتون مكانة خاصة عند الأفراد، نظراً لقدرتها على إيصال أفكار إيجابية ومؤثرة لمختلف الأعمار.
استفزاز الإبداع
يكون خيال الطفل سهل الاستقبال للأفكار والرسوم والفنون واللغات وغيرها من المعارف، والرسوم المتحركة هي أحدى الطرق المشوقة لنقل هذه المعارف دون وعي، ولها تأثير على خلق الإبداع وتحفيز الخيال وخصوصاً عند الموهوبين/ات من الفنانين والشعراء الشاعرات وغيرهم.
وعن تأثيرها عليه كفنان يقول عبد علي إن "جزءً كبيراً من اشتغال أي فنان قائم على الخيال، وأكاد أجزم أن في الرسوم المتحركة -اشتغالات ميازاكي على سبيل المثال- قدرة مهولة على استفزاز المخيلة وتنشيطها، فهي قادرة على فتح مخيلتك على عوالم ليس لها حدود ولا تخضع للقوانين الطبيعية، كأن تتعاطف مع سمكة، وتصدق أن ثمة قلعة يمكنها الطيران، وأن طفلاً يجوب العالم على ظهر أوزة تدعى "مورتون"، وأن ١٥ رجلاً ماتوا من أجل صندوق. لن تجد خيالاً بهذا الصدق كما هو في الرسوم المتحركة".
لا يمكن الجزم أن جميع رسائل الرسوم والأفلام المتحركة إيجابية بالمطلق، بحسب عبد علي الذي يضيف: "صحيح أن الرسائل السلبية وعدم الاكتراث بما تبثه من أخلاقيات في الآونة الأخيرة طغت عليها، بحكم تحول صناعتها إلى صناعة تجارية بحتة، غير أن الرسوم المتحركة القديمة لم تخلُ من بعض السقطات، كاللسان السليط لماركو، وكانت قادرة على خلق المتعة في الغالب".
تقول جنان العود: "كانت الرسوم المتحركة القديمة جميلة جداً، أو هكذا كنت أراها على الأقل. لا أقول هذا بدافع الحنين لأيام مضت فقط! بل لأنها كانت بالفعل رسوماً تحمل في قصصها الكثير من القيم والرسائل، كالحب والتعاطف والإيثار والإنسانية والتعاون وأهمية العائلة والعمل والصبر، والصداقة. وكانت محفزة للخيال ومحفزة على ملاحظة الجمال في الطبيعة وفي الحياة عامة، بالإضافة أن أغاني هذه الرسوم أيضا كانت مميزة على مستوى الموسيقى والكلمات، ولا أزال أتذكر معظمها".
وتضيف: "لا بد أن لهذه الرسوم تأثيراً على شخصيتي وربما على كتاباتي لاحقاً، وإن كان أثراً بشكل غير واعٍ، شأنها في ذلك شأن كل ما مر في مرحلة الطفولة وترك أثراً في القلب والذاكرة. كنت أشاهد تلك الرسوم بحماس بالغ، وأترقب وقت عرضها بفارغ الصبر وأتأثر بقصصها وشخصياتها".
كرتون يحمل أفكارا وقيم
يرى زين الدين أن بعض الرسوم المتحركة يحمل أفكاراً وحكماً، كحب الصداقة ومساعدة الآخرين كما في مسلسل سنان، وتحفيزاً على التفكير وابتكار طرائق لحلّ المشكلات كما في المحقق كونان، وبعضها تطغى عليه الكوميديا، لكنها، وبلا شك، تحمل رسائل مبطنة في بعض الأحيان".
"الرسوم المتحركة هي وسيلة من وسائل إيصال المعلومات بصورة مبسطة ومحببة للأطفال بصورة خاصة، وذلك استبدالاً للكلمات حيث لا تستوعب عقولهم التجريد الذي قد تتضمنه".
يقول العميري: "كل أفلام ومسلسلات الرسوم المتحركة اللي شاهدتها لها رسائل مختلفة وفيها دروس وعبر لكل صغيرة وكبيرة في حياتي، فقد علمني بوكيمون والكابتن ماجد أن أكون طموحاً ومثابراً في السعي خلف أهدافي وأحلامي"، مضيفاً أن "أسلوب السرد القصصي في الرسوم المتحركة هو الأكثر بساطة والأسهل فهماً مقارنةً ببقية وسائل الترفيه، لأن قصص الرسوم المتحركة غالباً ما تكون مختصرة، نظراً لانخفاض تكلفة صناعتها، وهو ما يشجعني أكثر على استخدام لغة وأساليب أكثر بساطة في التعبير عن نفسي وأفكاري في أعمالي، وأعتقد هذا سببٌ من أسباب إعجاب عدد من المتابعين/ات بها".
الرسوم المتحركة هي وسيلة من وسائل إيصال المعلومات بصورة مبسطة ومحببة للأطفال بصورة خاصة، وذلك استبدالاً للكلمات حيث لا تستوعب عقولهم التجريد الذي قد تتضمنه، بحسب الباحثة الاجتماعية الدكتورة هدى آل محمود التي قالت أيضاً: "تشكل الرسوم المتحركة جزءاً من الذاكرة ومن التكوين النفسي والشعوري والانفعالي الهام، والذي يعتبر أيضاً جزءً مهماً من تشكل الشخصية المعرفية للإنسان، لهذا فإننا نجد الكبار يستمتعون بالرسوم المتحركة مثل الصغار تماماً، ويجدون فيها جزء من ذكرياتهم الأولى في الحياة والتي تظل واضحة ومصاحبة لمشاعر البساطة والنقاء والمتع البسيطة، لكن الفاعلة في النفس، وتظل محركاً دائماً للفرح وللانشراح عندهم".
الحنين إلى النقاء
تشير الدكتورة آل محمود إلى أن الكبار يحنون إلى الجزء النقي والبريء لديهم، حيث البساطة ومتعة الذكريات المشتركة مع من كانوا بصحبتهم عندما كانوا يشاهدونها، من الأخوة والأخوات أو الوالدين أو الأصدقاء والصديقات، وقد يسترجعون معها ذكريات محفزة لهم الآن في الكبر، وبعضهم يحمل الامتنان لبعض ما شاهده من أفلام الكرتون، لما تعلّمه ولكيفية مساعدتها في تأهيل الاطفال لبدء الدراسة بسلاسة وتخطي صعوبة تعلم مفردات الكلمات وبعض العمليات الحسابية، إلى جانب تأثيرها على اكتساب السلوكيات الإيجابية".
وعن الرسائل التي تحملها هذه الرسوم المتحركة، تقول آل محمود إنها "من أهم وأخطر الوسائل التي تستخدم لتوجيه وخلق القيم والسلوكيات والمفاهيم بطريقة بسيطة وجذابة وممتعة. لقد كانت في السابق تحمل رسائل حول المحبة والتسامح والاحترام والنظافة والالتزام الاخلاقي والقيمي، والكثير من القيم الايجابية التي تُشكل رافداً مهماً لتربية الطفل الى جانب الأسرة والمدرسة، وتترسخ كل هذه المفاهيم والقيم في عقل الطفل وتشكل ليس فقط سلوكه، بل تصوراته عن ذاته واحترامه لنفسه وللآخرين وللحياةـ واتجاهاته وطريقة تعامله مع البشر والبيئة وكل ما حوله".
مع اختلاف الزمن وتغير "نقاء" الرسائل التي توصلها الرسوم المتحركة، يبقى الحنين إلى موسيقى "حكايات عالمية" وقصص "سنان" و"فلونة" حاضراً في ذاكرة الأجيال التي شهدتها وعاشت معها بشكل يومي في الكثير من الأحيان
وتتابع بالقول: "اختلفت مقاصد واهتمامات الرسوم المتحركة اليوم، وبحسب التطورات والتغيرات في هذا العصر الذي أصبح يُعلي قيم التنافسية والعدوان والفردية على حساب العمل المشترك وروح الفريق الواحد، بالإضافة إلى أن الكثير من الألعاب الالكترونية التي تتخذ طابع وشكل الرسوم الكارتونية هي في الواقع تغذي وبصورة متواصلة عقول الأطفال والناشئة بقيم التوحش والعدوان وحل المشكلات بالاستقواء والفردية وإعلاء المصلحة الفردية على أي مصالح أخرى، كما يسيطر على إنتاجها وتسويقها نشر قيم النيوليبرالية المتوحشة من جشع وحبٍ للذات، وتكريس قيم الاستهلاك فوق كل القيم".
تختم آل محمود كلامها بالقول إن "الرسوم الكارتونية والأفلام والألعاب الالكترونية تستخدم من قبل شركات الأسلحة والشركات المصنعة لمختلف وسائل الاستهلاك، بهدف السيطرة على عقول الأطفال والناشئة، وبحيث تتشرب هذه القيم وتتبناها كقيم حياتية تبني عليها شخصياتها وسلوكياتها، وبهذا يمكن لهذه الأجيال أن تكون مُطاوعة وسطحية غير مكترثة، وعدوانية تجاه ذاتها أو تجاه كل من لا يتفق معها، وغارقة في سلوكيات تستنزف طاقاتها بشكل سلبي يؤذيها ومن حولها. والأهم أنها لا تبالي لا بالأسرة ولا بالأوطان، وأولوياتها ذاتية بحتة، ولنا أن نتخيل أي أجيال ستتولى البلدان في كل مكان وليس في منطقة جغرافية محددة".
مع اختلاف الزمن وتغير "نقاء" الرسائل التي توصلها الرسوم المتحركة، يبقى الحنين إلى موسيقى "حكايات عالمية" وقصص "سنان" و"فلونة" حاضراً في ذاكرة الأجيال التي شهدتها وعاشت معها بشكل يومي في الكثير من الأحيان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...