تكافح سوسن عماد الستينية المقيمة في العاصمة المصرية هي وأسرتها المكونة من أربعة أفراد ظروف الحياة بدخل لا يتخطى 4000 جنيه شهرياً (نحو 129 دولاراً).
مع مطلع كل شهر توزع سوسن دخلها بين العلاج وفواتير المياه والكهرباء والغاز، ولا يتبقى سوى القليل للطعام. تسعى قدر الإمكان أن تمر أيامها من دون عقبات أو مفاجآت قد تستلزم مواجهتها مالاً لا يسعها تدبيره من دون اضطرار للاقتراض، الذي يضع على عاتقها أعباءً إضافية. اعتادت الام الستينية منذ سنوات ألا تشتري أطعمة أو حلويات من الخارج، بل تصنعها منزلياً. ومع تتالي موجات خفض العملة المحلية خلال العام المنقضي (فقد الجنيه نحو 50% من قيمته خلال عام واحد)، اضطرت للاستغناء عن شراء الزبادي أو الفول المدمس من الخارج، والاعتماد كلياً على صناعتهما منزلياً، لكن هذا الإجراء أيضاً لم يعد ضامناً للحفاظ على وجبة السحور الرمضانية التي تعينها وأفراد أسرتها على الصيام مع ارتفاع أسعار اللبن (الحليب) ومشتقاته نتيجة عوامل عدة، منها "الفجوة الغذائية".
تُعرَّف الفجوة الغذائية بأنها الكمية الفاصلة بين احتياجات السكان من سلعة غذائية معينة ومدى توفر هذه السلعة في الأسواق. أو اختصاراً: نقص كميات السلعة المتوفرة عما يلبي حاجة السكان إليها بشكل متوازن وصحي.
تُعرَّف الفجوة الغذائية بأنها الكمية الفاصلة بين احتياجات السكان من سلعة غذائية معينة ومدى توفر هذه السلعة في الأسواق. أو اختصاراً: نقص الكميات المتوفرة عما يلبي حاجة السكان إلى السلعة بشكل متوازن وصحي
فجوة في السحور
على مدار العقود الماضية، تعددت القرارات الحكومية المتعلقة بمشكلة نقص الماشية المنتجة للالبان واللحوم الحمراء في مصر، ربما أشهرها قرار منع ذبح إناث الماشية الذي أصدره الرئيس الراحل أنور السادات، صاحب "مشروع البتلو" الذي قرر الرئيس الحالي إعادة إحيائه في العام 2017.
المشروعات القومية الهادفة لتحقيق الكفاية في إنتاج اللحوم والألبان بدت واعدة على الورق، لكن متابعتها تكشف عن تعثر كبير، في ضوء القرارات المتضاربة الناتجة عن اضطراب توجه الدولة المتردد بين بين دعم الإنتاج الكبير وإهمال صغار المربين (الفلاحين) والعكس
هذه المشروعات العديدة بدت واعدة على الورق، لكن متابعتها تكشف عن تعثر كبير، في ضوء قرارات أخرى متضاربة ناتجة عن اضطراب توجه الدولة بين دعم الإنتاج الكبير وإهمال صغار المربين (الفلاحين) لبعض الوقت، أو اكتشاف لأهمية صغار المربين في الحفاظ على الاتساع الجغرافي للإنتاج والتوزيع والحفاظ على انخفاض الأسعار. كل هذا كانت نتيجته استمرار الفجوة الغذائية في اللحوم الحمراء ومنتجات الألبان، خاصة مع التوجهات الاحتكارية التي أدت إلى انكماش الاستثمارات الإنتاجية خلال العقد الأخير، وتجلت في قرار حبس صفوان ثابت أحد كبار المستثمرين في هذا المجال ونجله، فيما رصدت تقارير حقوقية أن سجنهما كان لرفضهما التنازل عن حصة كبيرة في شركتيهما لصالح أحد الأجهزة الأمنية.
الزبادي والدولار
خلال السنة الأخيرة (مارس/ أذار 2022 إلى الشهر نفسه 2023)، عانت مصر من تراجع حاد في التدفقات الدولارية مع تراجع تصنيفها الائتماني بشكل يؤثر على قدرتها على الاقتراض الذي اعتمدت عليه البلاد منذ العام 2016 لتمويل شراهتها المتنامية للدولار، ويمكنك التعرف بشكل مفصل على أبعاد خفض التصنيف وأثره على الوضع الاقتصادي المصري من خلال تغطيتنا تقريري وكالة موديز عن الائتمان المصري.
هذا التراجع كان له أثره على حركة الاستيراد التي يعتمد عليها السوق المصري في خفض الفجوة الغذائية من خلال استيراد السلع الغذائية من جانب، واستيراد المكونات الإنتاجية لتلك الصناعات من جانب أخرى، وعلى رأس ذلك الأعلاف التي تستلزمها تربية الماشية وصناعة الألبان واللحوم.
استغنت سوسن وأسرتها عن تناول الجُبن، وبات تصنع الفول المدمس منزلياً، خاصة أنها تتناوله في الإفطار والسحور أربع مرات أسبوعياً بعد استغناء أسرتها عن البط والدواجن على مائدة الإفطار هذا العام
كان من نتيجة أزمة الأعلاف انخفاض كبير في إنتاج الأسماك، والدواجن والبيض، وكذلك اللحوم الحمراء والألبان، وهو ما أثر على قدرة سوسن على صناعة الزبادي للسحور في بيتها.
تحكى سوسن لرصيف22: "دخلي ضعيف للغاية، سعر لتر اللبن وصل لـ20 جنيهاً، فقررت الاستغناء عن تناول كوب لبن ولو مرة أسبوعياً رغم وصفه لي طبياً لمعاناتي من مشاكل صحية عدة، والآن باتت صناعة الزبادي في البيت لتوفير ثمن شراء العلبة الواحدة بخمسة جنيهات، غير اقتصادية، لكني مضطرة".
استغنت سوسن وأسرتها كذلك عن تناول الجُبن، وبات تصنع الفول المدمس منزلياً "خاصة أننا نتناوله في الإفطار والسحور أربع مرات أسبوعياً بعد استغناء أسرتي عن البط والدواجن على مائدة الإفطار هذا العام".
بحسب مؤشرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وصل معدل التضخم على اساس سنوي في فبراير/ شباط المنقضي إلى 40.3%، واحتلت السلع الغذائية التي ينفق عليها المصريون نحو 40% من مدخولهم، الصدارة في معدلات التضخم (ارتفاع الأسعار)، ووصل التضخم في مجموعة الألبان والجبن والبيض وحدها 11.1% ارتفاعاً عن الشهر السابق (يناير/ كانون الثاني)، وينتظر أن تسجل معدلات التضخم قفزات جديدة في تقرير مارس/ أذار الذي يصدر في إبريل/ نيسان المقبل.
أعدت "الشيف آية" العام الماضي 500 وجبة لإحدى الجمعيات الخيرية بناء على طلب أحد المتبرعين، هذا العام خفض المتبرع نفسه كمية الوجبات الخيرية إلى 35 وجبة
خروج من السوق
يرجع أحمد ياسين**، صاحب مصانع ألبان بمحافظة الدقهلية، ارتفاع أسعار الألبان إلى "ارتفاع سعر العلف أربعة أضعاف خلال عام واحد"، ضارباً المثل بارتفاع سعر حصيلة "قيراط البرسيم" من 150 جنيهاً (5 دولارات) إلى 600 جنيه (20 دولاراً)، ما تسبب في ارتفاع سعر لتر اللبن إلى 18 جنيهاً من المزرعة (قبل إضافة مصروفات النقل والتوزيع وربح التاجر الوسيط والتاجر النهائي).
وحمّل ياسين "الجهات المختصة بالرقابة على الأسواق" مسؤولية فوضى الأسعار، مشيراً إلى تراجع حجم المبيعات 30%. وعن نسبة الزيادة في أسعار الأجبان قال: "ارتفع سعر كيلوغرام الجبن الجديدة خلال الفترة من مارس/أذار 2022 لـ مارس/ أذار 2023 من 25 لـ70 جنيهاً، فيما ارتفع سعر كيلوغرام الجبن الأبيض القديم من 35 لـ100 جنيه. أما اللبن الجاموسي فقد ارتفع اللتر من سبعة لـ 18 جنيهاً أو يزيد عن ذلك حسب اختلاف المحافظات"، كاشفاً عن لجوء بعض العاملين في القطاع لتخفيض العمالة أو الخروج من المجال تماماً كصغار المصنعين الذين لم يستطيعوا مواكبة القفزات المتتتالية في أسعار مدخلات الإنتاج.
وتواصل رصيف22 مع محمد الطاروطي رئيس جمعية منتجي الألبان للرد على تعليق ياسين، إلا أننا لم نتلق ردوداً على أسئلتنا لمدة أسبوعين استغرقهما إعداد التقرير.
عضو في مجلس النواب: سبب ارتفاع سعر الفول والألبان هو عدم توفر العملة في وقت أغلب استهلاكنا من الفول مستورد، أما إنتاجنا منه فيصدر لدول أوروبا واليابان، علاوة على استيراد 80% من أعلاف الماشية من دول روسيا وأوكرانيا وفرنسا وأمريكا والأرجنتين
الغلاء يقلص التبرعات للجمعيات
الشيف القائم على إعداد الوجبات لصالح الجمعيات الخيرية هو الآخر انخفض أجره من 15 جنيهاً إلى خمسة عن الوجبة الواحدة، بحسب آية عمران** التي أعدت العام الماضي 500 وجبة لإحدى الجمعيات الخيرية بناء على طلب أحد المتبرعين، هذا العام خفض المتبرع نفسه كمية الوجبات الخيرية إلى 35 وجبة.
آية هي الأخرى ربة منزل تأثرت بالغلاء إلى حد كبير، فباتت تركز على شراء الأولويات، قائلة: "خفضت من كميات اللبن التي أشتريها"، وتضيف:"وجبة السحور المكونة من شريحتين جبن رومي وبيض وكوب زبادي وملعقتين فول مدمس وخبز ومخلل، التي كانت تكلف نحو 20 جنيهاً للفرد العام الماضي باتت تكلفتها 40 جنيهاً تقريباً".
الدولار والفول
مجدي الوليلي، العضو في مجلس النواب وفي هيئة مكتب غرفة صناعة الحبوب بإتحاد الصناعات، كشف لرصيف22 أن مصر تنتج ثلاث سلالات من الفول "بلدي وإسباني وعريض"، بمعدلات إنتاج من 120 إلى 150 ألف طن سنوياً، فيما يتخطى الاستهلاك المحلي 700 ألف طن، أي أن الفجوة الغذائية للفول تصل إلى 600 ألف طن تعوضها مصر بالاستيراد من الخارج بتكلفة تبلغ نحو 300 مليون دولار تقريباً. وتحتل أستراليا وكندا المركز الأول في توريد الفول إلى مصر بنسبة 60% بينما تحتل إنجلترا وباقي دول الاتحاد الأوروبي المركزين الثاني والثالث على التوالي.
ويُرجع الوليلي سبب ارتفاع سعر الفول والألبان إلى ارتفاع الدولار من 15.80 لـ30.90 جنيه، فضلاً عن "عدم توفر العملة في وقت أغلب استهلاكنا من الفول مستورد، أما إنتاجنا منه فيصدر لدول أوروبا واليابان، علاوة على استيراد 80% من أعلاف الماشية من دول روسيا وأوكرانيا وفرنسا وأمريكا والأرجنتين".
ويشدد الوليلي على ضرورة تشدد الأجهزة المعنية في البحوث الزراعية، كي تتمكن مصر من استنباط أصناف أخرى من الفول لحل مشكلاتنا، "خاصة أن إنتاجنا منه أحياناً يصاب بمرض اللفحة مسبباً ضمور المحصول وانخفاض الإنتاجية في وقت تشهد مصر تغيرات مناخية أثرت إلى حد كبير على محاصيلنا الزراعية".
ويتهم الوليلي مراكز البحوث الزراعية التي "لا يقوم باحثوها بعملهم كما يجب، ولو تطلب الأمر استدعاء خبراء أجانب".
وفي تقرير سابق، رصد رصيف22 ما تتعرض له مراكز البحوث الزراعية في مصر من تراجع حاد في التمويل، مع خفض الدولة المتتالي لموازنات الصحة والتعليم العالي والبحث لعلمي، والتخلص من أمهات البذور العالية الإنتاجية والمناسبة للمناخ المصري، والأشجار النادرة الوفيرة الإنتاج من الأخشاب والثمار، عبر إجراءات عدة رصدناها في تقريرنا الذي يمكنك الإطلاع عليه عبر هذا الرابط.
وطالب الوليلي بـ"تغيير خريطتنا الزراعية لتتلاءم مع التغيرات المناخية، إذ نحن بحاجة لأن نصبح دولة منتجة أكثر منها مستهلكة".
محاولات للاستمرار
كي يستمر في نشاطه الذي توارثه أباً عن جد، قرر ياسين التعامل مع مورِّدي الألبان في المحافظات الأخرى التي ينخفض فيها سعر توريد اللبن كـ"كفر الشيخ والمنوفية"، مطالباً الدولة بسن تشريعات تجرم البيع بأعلى من السعر الاسترشادي.
-------------
(*) بتصرف عن عنوان قصيدة "موال الفول واللحمة" للشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم.
(**) اسم مستعار بناء على طلب المصدر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...