جرت العادة في البيوت المصرية أن تتحمل النساء عبء إدارة موارد الأسرة المالية، والتوفيق بين تلك الموارد والوفاء بالاحتياجات. وعلى مر الوقت، استولدن طرقاً ليجدن في هذا العبء عزاءً، عبر تحويله إلى مصدر للفخر كلما نجحن في كفاية احتياجات أسرهن وتوفير بعض الرفاهية من تلك الموارد المالية المحدودة، وهي في الغالب بحسب الإحصاءات الرسمية لدخل وإنفاق الأسر المصرية، موارد محدودة في معظم الأوقات.
ومع موجة الغلاء المستمرة، تحول ذلك العبء إلى مباراة لا يبدو أن لها نهاية بين المسؤولات عن التوفيق بين الدخل والنفقات وبين قفزات التضخم شبه اليومية. إلا انهن يواصلن السعي ومحاولات التدبير من خلال حيل متفرقة، يتحدثن عنها في هذا التقرير.
تشير دراسات إلى أن الريف هو الأشد تأثراً وانخفاضاً في الإنفاق على بنود الطعام والشراب الأساسية، وكانت الفئات الأفقر هي الأشد تأثراً، مما نتج عنه هبوط نسبة من الأسر والأفراد من الطبقة العليا إلى المتوسطة ومن المتوسطة إلى تحت خط الفقر
ماذا يواجه الأسر المصرية؟
ارتفع معدل التضخم إلى أعلى مستوى له منذ خمس سنوات مسجلاً 21.5% في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ومن المنتظر أن يعلن عن معدل أكثر ارتفاعاً خلال أيام، عندما يفصح الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن بيانات التضخم الخاصة بديسمبر/ كانون الأول المنقضي. لكنها لن تكون معبرة عن واقع الحال، كون العملة المحلية قد شهدت انزلاقاً جديداً في سعرها في مواجهة الدولار، بداية من الأربعاء 4 يناير/ كانون الثاني الجاري، بعد أن سمح البنك المركزي بزيادة تقترب من الجنيهين في سعر صرف الدولار، خلال أقل من 24 ساعة.
وترجع تلك الزيادة إلى عوامل عدة كان من شأنها إضعاف القدرة الشرائية للعملة المحلية في ظل تدني وثبات الأجور.
من المتوقع أن يصل التضخم إلى ذرى جديدة خلال العام الجاري في ظل خفض منتظر للجنيه بعد أن حصلت مصر على أول دفعة من قرض صندوق النقد الدولي، البالغة قيمته ثلاثة مليار دولار يوم الجمعة 16 ديسمبر/ كانون الأول 2022.
كانت بعض المجموعات على فيسبوك متنفساً للسيدات المصريات اللاتي تفاعلن من خلال مقاطع الفيديو والمنشورات التي تشرح وصفات وجبات بديلة على موائد الطعام، وكيفية توفير الاحتياجات الأساسية بأقل القليل
وفقاً لدراسة تحليلية عن مؤشرات بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك 2017\2018، قام بها المركز المصري للدراسات الاقتصادية بناء على مؤشرات البحث الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فقد انخفضت نسبة نصيب الفرد من الإنفاق على مجموعات الطعام والشراب والملابس والأقمشة والأحذية والأثاث والانتقالات والخدمات والرعاية الصحية والثقافية والترفيه والخدمات المتنوعة والدخان عقب تخفيض القوة الشرائية للجنيه في العام 2016، في مقابل ارتفاعها على مجموعات المسكن ومستلزماته والاتصالات والتعليم والمطاعم والفنادق.
وبحسب الدراسة التحليلية التي قام بها مركز الدراسات الاقتصادية يعتبر الريف هو الأشد تأثراً وانخفاضاً في الإنفاق على بنود الطعام والشراب الأساسية، إذ كانت الفئات الأفقر هي الأشد تأثراً، مما نتج عنه هبوط نسبة من الأسر والأفراد من الطبقة العليا إلى المتوسطة ومن المتوسطة إلى تحت خط الفقر.
تقول الدكتورة هبة الليثي أستاذة الإحصاء بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، إن نسبة الالتحاق بالتعليم في المرحلة الثانوية انخفضت، وهذا يعني أن بعض الأسر بدأت تتبنى طرقاً لتخفيض نفقاتها بإبعاد أطفالها عن التعليم، وفي المقابل ارتفعت نسبة عمالة الأطفال الذين تسربوا من المرحلة الثانوية بفعل الضغوط الاقتصادية أيضاً.
لذلك كانت بعض المجموعات على فيسبوك متنفساً للسيدات المصريات اللاتي نشرن وتفاعلن من خلال مقاطع الفيديو والمنشورات التي تشرح وصفات وجبات بديلة على موائد الطعام، وكيفية توفير الاحتياجات الأساسية بأقل القليل، في ظل الارتفاع غير المسبوق لأسعار السلع.
طعام "كذاب"
تنشر هند عبد المنعم عبر صفحة مطبخها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك محتوى خاصاً بطهي الطعام، بتكاليف قليلة تناسب أوضاع الأسر المصرية بعد موجات الغلاء المتتالية، واحدة من الوجبات التي أعددتها ما يعرف في تقاليد المطبخ المصري باسم " الفراخ الكذابة"، وهي عبارة عن قطع من العجين تأخذ شكل أفخاذ الدجاج "ورك"، محشوة بقطع من صدور الدجاج مضافاً إليها خضروات وتوابل، وهو طبق يقدم على مائدة الطعام باعتبار أنه "على قد الإيد"، في ظل ارتفاع الأسعار.
ولاحظ رصيف22 على غروبات خاصة بربات البيوت المصريات، استفسارات ومقترحات تدور حول تقليل التكلفة، من بين الأسئلة المطروحة ما كتبته إحدى العضوات قائلة "ياجماعه من غير تريقة بالله عليكم ينفع أحط نص مفروم عليه كيلو رز؟ المعايش بقت صعبة اوى اوى الله يرزق الجميع يارب". لتنهال عليها التعليقات بوصفات وإضافات قليلة من البصل والبهارات لإضفاء مذاق الكفتة الذي سيتلاشى مع كمية الأرز الكبيرة المضافة (وصل سعر المفروم إلى 150 جنيهاً للكيلوغرام، والأرز 22 جنيهاً إن توفَّر).
ونشرت إحدى العضوات بالمجموعة بدائل لتوفير شراء صلصة الطماطم، من بينها "الستات الشاطره الحقى بسرعه اعملي صلصة الطماطم الكيلو ب٤ جنيه خزنيها بس وهي متسبكة بالبصل، وبكدا وفرتي وقت ومجهود وضمنتي إن التسبيكة جاهزة. السمنة غليت، أو الزيت أو بصل أو طماطم؛ مش هتشيلي هم كبير وهتفرق معاكي كتير، ربنا يوسع علينا وعليكم ويرفع عنا الغلاء يارب".
سمية زيد، تعمل ممرضة في أحد مستشفيات القطاع العام، وفي نفس الوقت هي أم لطفلين- تقول لرصيف22 إنها وجدت في سلسلة "الوصفات الكدابة" طريقة توفير جيدة لتشعر أبناءها أنهم مستمرون في تناول اللحوم بأنواعها المختلفة، في وقت لم يعد راتبها وراتب زوجها يكفيان لتوفيرها على النحو الذي اعتادوه، وذلك في مواجهة الارتفاع الكبير لأسعار اللحوم والدواجن ومنتجاتها.
ارتفعت أسعار الدواجن 42 و 44 و 50 جنيهاً في سعر الكيلو الواحد - حسب نوع الدجاج- فيما قفزت أسعار لحوم الأبقار والجاموس إلى نحو 200 جنيهاً خلال الأسبوع الجاري، متأثرة بارتفاع أسعار الأعلاف. وبفعل موجات الغلاء المتتالية، تراجعت قدرة المصريين على شراء اللحوم بنسبة 70%، وفق تصريحات لرئيس شعبة القصابين بغرفة القاهرة التجارية.
قللت سمية من شراء البيض الذي وصل سعر الواحدة منه إلى ثلاثة جنيهات، فأصبحت تعامل البيض معاملة اللحوم، تضعه على المائدة، ثم توزعه على زوجها وأطفالها بنصيب بيضة واحدة للفرد، إذ أصبح البيض هو البروتين البديل على مائدتها
الأولوية للفواتير
تعيش سمية رفقة زوجها وطفلها في شقة سكنية بحي العمرانية الشعبي بمحافظة الجيزة، مقابل بدل إيجار ألف جنيه في الشهر، وبالكاد يكفي راتبها وراتب زوجها احتياجات البيت الأساسية، وفواتير الغاز والكهرباء والمياه والانترنت والتي شهدت ارتفاعات مطردة منذ تخفيض قيمة الجنيه للمرة الأولى في عام 2016.
ومع الخفض المتكرر لقيمة الجنيه أمام الدولار، اضطرت سمية إلى اتباع طرق لتوفير المصروفات الشهرية التي تصل إلى ستة آلاف جنيه. فبدأت في شراء منتجات ألبان أقل جودة، بعد ارتفاع أسعارها، أملاً في توفير هامش جنيهين أو ثلاثة، ولكنها في مقابل ذلك لا تستسيغ طعم المنتجات الأقل جودة "هاعمل إيه بعمل كده عشان أقدر أوفر".
قللت سمية من شراء البيض الذي وصل سعر الواحدة منه إلى ثلاثة جنيهات، فأصبحت تعامل البيض معاملة اللحوم، تضعه على المائدة، ثم توزعه على زوجها وأطفالها بنصيب بيضة واحدة للفرد، إذ أصبح البيض هو البروتين البديل على مائدتها.
لم يختلف الأمر عند ياسمين أحمد* وهي ربة منزل متزوجة وتعيش في حي الحلمية الشعبي بمحافظة القاهرة، إذ تحاول تقليل استهلاكها من الطعام، فتقوم بشراء المعكرونة سائبة بدلاً من شرائها في أكياس معبأة حيث تجاوز سعر الكيلوغرام المعبأ 19 جنيهاً، مع اختفاء الأصناف الجيدة من الأسواق وظهور أصناف رديئة.
تقول ياسمين لـرصيف22 إنها استغنت عن أصناف من الطعام مثل البرغر والسجق والكفتة، وعوضاً عنها بدأت في طبخ "كفتة أرز" - قليل من اللحم المضاف إليه أرز مطحون وناعم - وهي على حد قول ياسمين "حاجة على قد الإيد".
شهد العام 2022 إقبالاً كبيراً على شراء ملابس البالة (ملابس مستعملة) بسبب ارتفاع أسعار الملابس الجديدة وتراجع المعروض منها بعد وقف الاستيراد
جاء قرار ياسمين بتقليل الإنفاق بعد ارتفاع أسعار السلع الأساسية، إذ لم يصمد راتب زوجها (5 آلاف و400 جنيه شهرياً) من إحدى شركات القطاع الخاص، أمام موجة الارتفاعات المطردة. فإلى جانب الطعام، قللت ياسمين من شراء الشامبو. تقول: "بدل ما اجيب شامبو لينا (للكبار) وشامبو أطفال... ممكن نحمي الأطفال بالشامبو بتاعنا وخلاص"، كما اكتفت بنوع واحد من مسحوق الغسيل.
وتتفق معها إسراء سامي ربة منزل ثلاثينية تقطن في حي ترسا بمحافظة الجيزة، في أنها تخلط مسحوق الأريال أو التايد ذي التكلفة العالية بنوع آخر أردأ منه حتى يكتمل مسحوق الغسيل، لأن شراء كلا المسحوقين واستخدامهما في غسيل الملابس يزيد من الأعباء الاقتصادية، سيما أن راتب زوجها الذي يعمل موظف في شركة قطاع خاص ويصل إلى 5 آلاف جنيه مع راتبها (3 آلاف جنيه) كمترجمة عبر الانترنت لا يكفيان احتياجات البيت. وكانت إسراء تدخر مع زوجها نحو ألف جنيه شهرياً قبل ارتفاع الأسعار، لكن مع الوقت تبخر حلمهما في الإدخار.
الرداءة تحكم
شهد العام 2022 إقبالاً كبيراً على شراء ملابس البالة (ملابس مستعملة) بسبب ارتفاع أسعار الملابس الجديدة وتراجع المعروض منها بعد وقف الاستيراد، وهو ما دفع شريحة كبيرة من المصريين، من بينهم إسراء إلى شراء ملابس البالة التي يعاد بيعها لأشخاص آخرين.
كانت إسراء تشتري بين حين وآخر طقماً من ماركة "شي إن"، لكن مع ارتفاع الأسعار قصدت أسواقاً مخصصة لبيع الملابس المستعملة وتعرف في مصر بأسواق "البالة"، وتعتبر إسراء أن ذلك تخلياً عما اعتادته.
وشهد يوم الأربعاء 4 يناير/ كانون الثاني 2023 خفضاً جديداً للجنيه أمام الدولار ليصل الدولار الواحد إلى نحو 27 جنيهاً مع توقعات بتجاوزه 30 جنيهاً، ويتوقع الخبراء ارتفاعاً جديداً في الأسعار لم تستطع ميزانية آمال حسين - ربة المنزل الخمسينية- على احتماله، فمؤخراً بات التسوق يسبب حزناً وآلاماً نفسية: "كل ما انزل اشتري حاجة ألاقيها بسعر مختلف"، تضيف وهي تتحدث بصوت خفيض " مبقتش أعرف أعمل إيه".
تقول آمال وهي تتذكر أيام ما قبل تعويم 2016: "كانت كل حاجة رخيصة كيس المكرونة كان بـ 7 و8 جنيهات، وكنا وقتها بنقول ده غالي... دلوقتي بـ 19 جنيه طيب هعمل إيه؟"
بدأت السيدة الخمسينية تقلل من فاتورة اتصالاتها، حتى لا تزيد الأعباء على زوجها الموظف في إحدى شركات القطاع العام، ولا يتجاوز دخله 7 آلاف جنيه فبعد أن كانت تدفع كل شهر نحو 50 جنيهاً ثمن باقة الاتصالات من شركات المحمول الرائدة في مصر، توقفت عن الاشتراك، وأصبحت تقضي مكالمتها مما يعرف باسم "كارت الفكة"، وهو كارت يتم شحنه لمدة أسبوع بـ 11 جنيهاً فقط، وميزة هذا الكارت وفقاً لآمال هو استخدامه حسب الحاجة " يعني لو مزنوقة وعاوزة اتصل بحد هشحن مفيش مش هشحن".
تقول آمال ذلك وهي تتذكر أيام ما قبل تعويم 2016: "كانت كل حاجة رخيصة كيس المكرونة كان بـ 7 و8 جنيهات، وكنا وقتها بنقول ده غالي... دلوقتي بـ 19 جنيه طيب هعمل إيه؟".
مؤخراً ذهبت إلى طبيب الأسنان لمعالجة الكز على الأسنان الذي يطرأ عليها أثناء النوم، ما سبب لها آلاماً شديدة في الفك وعدم قدرة على مضغ الطعام جيداً، أخبرها الطبيب أن ذلك بسبب حالة نفسية. لا تدري آمال إذا كان هذا بسبب ضغوط المعيشة والأعباء الاقتصادية أم لا، تخبرنا بذلك ضاحكة بنبرة يسودها الأسى والحزن.
ولما أخبرها الطبيب أن علاجها يكلف 17 ألف جنيه مصري، صدمت ورفضت استكمال العلاج، ولكن بضغط من الأسرة ستستكمله مع تقسيط المبلغ على فترات بعد الاتفاق مع الطبيب المعالج، والاستغناء عن زراعة بعض الأسنان، والاكتفاء بتركيبات متحركة لأنها أرخص وأقل تكلفة: "يعني أنا هعيش قد إيه عشان أحط 17 ألف جنيه في فمي؟!".
تؤثر معدلات التضخم المرتفعة على كل جانب من جوانب حياتنا تقريباً، بما في ذلك الصحة العقلية، إذ يمكن للضغوط المالية أن تخلق قلقاً، وإنهاكاً، وتوتراً في العلاقات مع الشركاء.
في الولايات المتحدة، قال أكثر من 40٪ من البالغين المخاوف المالية لها تأثير سلبي على صحتهم العقلية ، وفقاً لمسح حديث أجرته Bankrate. ومن بين الذين قالوا إن المال كان له أثر كبير، من ذكروا تعرضهم للشعور بالتوتر والقلق والارتباك، وتقول جمعية PIH Health الأمريكية إن الضغوط الاقتصادية تزيد من خطر الإصابة بالاكتئاب والقلق.
-----------------
(*)- اسم مستعار بناءً على طلب المصدر
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...