تصوير: محمود الخواص
قبل خمس سنوات، كانت "أكلة السمك" هي الحل الذي يعتمده شعبان مصطفى وأسرته المكونة من خمسة أفراد، لتناول وجبة مشبعة ومغذية مقابل مبلغ معقول.
كان شعبان الذي يقيم في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ، ويعمل موظفاً بهيئة البريد، يشتري ثلاثة كيلوغرامات من السمك لتعده زوجته أو أحد محال الشواء القريبة من البيت، الأمر الذي غدا "مستحيلاً" الآن بعد أن تجاوز سعر الكيلوعرام الواحد من السمك البلطي النيلي (من أرخص أنواع الأسماك في مصر) 50 جنيهاً.
يقول شعبان لرصيف22: "دلوقتي أقل وجبة تكلف 150 جنيه ولسة تكلفة الأرز أو الخبز والخضار". يتقاضى شعبان راتباً يبلغ 3500 جنيه، أي ما يزيد دولارات معدودة على الـ100 دولار. كانت قبل فبراير/ شباط 2022، حين انفجرت الأزمة الاقتصادية في مصر، تكفيه، "بقينا ندور على أكلات تانية أرخص من اللحوم والأسماك اللي مبقتش موجودة".
اليوم، بدأ إعلاميون ورجال دين مقربون من السلطات في دعوة الناس إلى القبول بتناول لحوم الحيوانات التي لا يألف المصريون أكلها عادة، كالكلاب والحمير. واستدعي تصريح قديم للشيخ خالد الجندي - الذي انتشرت له تصريحات اخرى قبل أيام تدعو الناس إلى حب الفقر واللوذ به- يؤكد فيه طهارة لحم الكلاب وجواز تناوله، ما أثار موجة استنكار واسعة على شبكات التواصل الاجتماعي التي باتت مقياساً وحيداً لحركة الرأي العام في مصر.
التصريحات الإعلامية والفتاوى الدينية تتصل بواقع لا تنكره السلطات نفسها حول الصعوبة المتزايدة لحصول المصريين على الغذاء الكافي والآمن، فيما تختلف الآراء حول السبب الحقيقي الكامن وراء الأزمة المتفاقمة، وهو ما ظهر جلياً في حرص الرئيس المصري على الظهور في حفل إطلاق مبادرة "كتف في كتف" التي تناولها رصيف22 في تقريره الذي يمكنك الاطلاع عليه عبر هذا الرابط.
على الرغم من تعدد المشروعات القومية في مجال الثروة السمكية، لماذا تشهد أسعار الأسماك الآن ارتفاعات كبيرة؟ ولماذا أعلنت مصر الطامحة إلى التصدير البدء في استيراد الأسماك الروسية؟
أسرة شعبان واحدة من ملايين الأسر الواقعة على حدود الفقر، بدخل يقابل بالكاد الحد الأدنى، ليكونوا ضمن واحدة من الفئات التي تواجه عبء القفزات المتتالية في أسعار السلع والخدمات، لا سيما الغذائية منها، إذ تجاوزت معدلات التضخم حد الـ30% خلال فبراير/ شباط المنقضي، وينتظر أن تقفز مرات أخرى قبل انقضاء الشهر الجاري.
لا بلطي ولا بوري
نتيجة ذلك الارتفاع الحاد في الأسعار لجأت الأسر إلى التقليل من كمية الغذاء وجودته على السواء، ليستغني الكثير منها عن البروتين حتى الرخيص منه. فبحسب دراسة حديثة للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (وكالة الإحصاء الرسمية في مصر)، وصلت نسبة التراجع في استهلاك البروتين الحيواني في مصر ( اللحوم ولدواجن والأسماك) إلى 90%، على الرغم من افتتاح الرئيس المصري قبل سنوات عدداً من المشروعات القومية للغذاء، منها مشروعات للاستزراع السمكي، أقيمت تحت لافتة توفير الكفاية الذاتية من الأسماك والماكولات البحرية.
بحران ونيل و11 بحيرة
في بيان صحافي مبكر، زعم وزير الزراعة – يقع الإنتاج السمكي في نطاق اختصاص وزارته- أن مصر تحتل المركز الأول أفريقياً والسادس عالمياً في الإنتاج السمكي، وأن إجمالي الإنتاج السنوي من الأسماك مليونا طن، محققاً 85% من تغطية الطلب المحلي، وأن حصة المواطن من استهلاك الأسماك ارتفعت إلى نحو 21 كيلوغراماً سنوياً، وهو ما يقارب المستويات الدولية.
بحسب شعبة الأسماك بغرفة القاهرة التجارية، فإن أسعار الأسماك ارتفعت بنسبة تراوح بين 30 و40% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضى.
وصل التراجع في استهلاك البروتين الحيواني في مصر (اللحوم ولدواجن والأسماك) إلى 90%، على الرغم من افتتاح الرئيس المصري عدداً من المشروعات القومية للغذاء، منها مشروعات للاستزراع السمكي، أقيمت تحت لافتة توفير الكفاية الذاتية وبدء التصدير
ووصل حجم إنتاج مصر من الأسماك مليوني طن في عام 2022، منها 1.6 مليون طن من المزارع السمكية بنسبة 80% من الإنتاج، ونحو 400 ألف طن من المصايد الطبيعية، بنسبة 20%.
وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد افتتح عدداً من مشروعات الاستزراع السمكي التابعة للقوات المسلحة، معلناً أن مصر بعد أن أشرفت على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الأسماك، فإنها تتطلع إلى تصدير ما يزيد على مليوني مليون طن من الأسماك سنوياً. فلماذا تشهد أسعار الأسماك الآن ارتفاعات كبيرة؟ ولماذا أعلنت الدولة الطامحة إلى التصدير البدء في استيراد الأسماك الروسية؟
التصريحات الإعلامية والفتاوى الدينية تتصل بواقع لا تنكره السلطات نفسها حول الصعوبة المتزايدة لحصول المصريين على الغذاء الكافي والآمن، فيما تختلف الآراء حول السبب الحقيقي الكامن وراء الأزمة المتفاقمة
كلمة السر: الأعلاف
بحسب البيانات الرسمية المعلنة، يبلغ نصيب المزارع السمكية في تغطية الإنتاج المحلي 80%. وتعتمد غالبية المزارع السمكية على الاعلاف المستوردة، فمثل أعلاف الدجاج والماشية، تعتمد أعلاف الأسماك على مكونات فول الصويا والذرة، التي تحتاج مصر إلى استيراد معظمها.
وتشهد مصر حالياً أزمة كبيرة في توفير المنتجات وموارد الإنتاج من الخارج، لا سيما الأعلاف، نتيجة ما تواجهه البلاد من شح كبير في الدولار، وعجز السلطات عن إيجاد حلول للأزمة بخلاف الاستدانة أو بيع الأصول وسط حصار مستمر ومرفوض من المؤسسات المالية الدولية والإقليمية لفرص الاستثمار الإنتاجي.
إلا أن الأزمة لبست جديدة على الإنتاج السمكي في مصر، فمع أزمة الدولار الأولى التي مرت بها البلاد في 2016 والنصف الأول من 2017، اضطر عدد من أصحاب المزارع السمكية الأهلية (من المدنيين) إلى الخروج من السوق، نتيجة جملة من الأسباب، من بينها النقص المتاح لهم من الأعلاف مع انخفاض الاستيراد وفقد العملة المحلية (الجنيه) لنصف قيمتها رسمياً، إذ تراجع سعر الجنيه مقابل الدولار وقتها (2016)، من ثمانية جنيهات للدولار الواحد، إلى نحو عشرين، قبل أن يتراجع الدولار إلى نحو 15 جنيهاً.
ومع خروج مئات المنتجين من الأسواق بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف إلى الضعف وقلة الزريعات السمكية، وانخفاض القوة الشرائية للمواطنين، وقعت خسائر كبيرة للمدنيين العاملين في القطاع، وهذا ما قاد إلى تراجع الإنتاج بشكل سريع.
يسترجع المهندس أحمد الشراكي، خبير الاستزراع السمكي، تلك الفترة، ويقول لرصيف22، إنه بنهاية العام 2016، قرر البنك المركزي المصري تحرير سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية. "وإلى جانب الضغوط على العملة وما أصاب الاقتصاد وقتها، طالبت الحكومة المنتجين بسداد 12 ألف جنيه كرسوم عن كل طن سمك يتم تصديره، وهو ما أثر على المنتجين، عدا وقف السوق السعودي، وهو أحد أسواق الأسماك المهمة".
مع خروج مئات المنتجين من الأسواق بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف إلى الضعف وقلة الزريعات السمكية، وانخفاض القوة الشرائية للمواطنين، وقعت خسائر كبيرة للمدنيين العاملين في القطاع، وهذا ما قاد إلى تراجع الإنتاج بشكل سريع
ويواصل الشراكي: "أما بعد حدوث التعويم الثاني العام الماضي، فارتفعت أسعار الأعلاف والخامات والإفراجات الجمركية"، وعلى الرغم من حدوث التعويم منتصف موسم الأسماك فقد أثر على الكفاءة الإنتاجية التي انخفضت إلى 50%. يعني بدلاً من إنتاج 10 أطنان من المنتج الواحد، بات ينتج خمسة فقط".
يضاف إلى ذلك – والكلام لا يزال للشراكي- أن التجار والمنتجين "بات لديهم خوف من استكمال الموسم بسبب موجات البرد". وأدت تلك العوامل إلى قلة كميات الأسماك في الأسواق على الرغم من كثرة الطلب عن المعروض: "طبيعي لما الطلب يزيد والمعروض قليل الأسعار تزيد".
وأشار إلى أن هناك اتفاقاً بين أغلب التجار والعاملين في صناعة السمك، وإلى أن الإنتاجية انخفضت إلى 50% مما كانت عليه قبل العام 2016، معتبراً أن العام القادم مرشح لاستمرار الأزمة في ظل استمرار أزمة الأعلاف، ومن المتوقع خروج منتجين آخرين من السوق، مع رفض أصحاب المصانع البيع بالتقسيط، في ظل محدودية الكميات.
لا أسماك في السوق
بحسب الشراكي أيضاً، فمن المعتاد أن يقوم أصحاب المزارع السمكية بتخزين الأسماك في الأحواض، لبيعه بسعر أعلى، "لكن في العام الماضي تعرضت المزارع السمكية لموجة باردة خلال فصل الشتاء، أدت إلى موت الأسماك داخل المزارع، وبالتالي تخوف أصحاب المزارع من تكرار الأزمة، فقاموا ببيع السمك في وقت مبكر ومن ثم أصبحت إنتاجية السمك أقل".
رئيس جهاز حماية الثروة السمكية، صرح في وقت سابق أن "هناك مشكلة في البيانات الرسمية، والأرقام الصادرة غير دقيقة، لأنها (أي الدولة) تقوم بزيادة الإنتاجية" ما يشير إلى أن الدولة لديها انطباع عن زيادة الإنتاج من دون أن يكون هناك وثائق دقيقة تراجع الوضع وتقيمه
البيانات الرسمية غير دقيقة
في تصريحات إعلامية سابقة، قال الدكتور صلاح مصيلحي، رئيس جهاز حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية، إن حجم إنتاج مصر من الأسماك بلغ 2 مليون طن في عام 2022، منها 1.6 مليون طن من المزارع السمكية بنسبة 80% من الإنتاج، ونحو 400 ألف طن من المصايد الطبيعية، بنسبة 20%.
وذكر أن مصر تستورد نحو 300 ألف طن من الأسماك سنوياً، إلا أنها استوردت نحو 500 ألف طن في عام 2019.
الأهم في تصريحاته المشار إليها، هو ما ذكره عن أن "هناك مشكلة في البيانات الرسمية، والأرقام الصادرة غير دقيقة، لأنها (أي الدولة) تقوم بزيادة الإنتاجية" ما يشير إلى أن الدولة لديها انطباع عن زيادة الإنتاج من دون أن يكون هناك وثائق دقيقة تراجع الوضع وتقيمه.
يعلق الشراكي على تلك التصريحات بأن هيئة الثروة السمكية، "تصدر الأرقام بناءً على المساحات المخصصة للمزارع السمكية، حيث يتم ضرب 330 ألف فدان حجم المزارع السمكية في مصر في 5 طن كمتوسط إنتاج للأسماك، يصبح الناتج مليون و600 ألف طن، إضافة إلى أن المسئول الحكومي ليس عليه أن يصدر أرقام تفيد بزيادة الإنتاج".
وشدد الشراكي مجدداً على أن حجم الإنتاج السمكي الحقيقي انخفض إلى 50% ويبلغ 1.2 مليون بمعدل (800 ألف طن من المزارع السمكية، و400 ألف طن من المصايد الطبيعية)، وفقاً لإجماع الخبراء والتجار وأصحاب المزارع، ما يتعارض تماماً مع ما ذكرته هيئة الثروة السمكية بأن إحصائيات الثروة السمكية بلغت 2.2 مليون طن (1600 طن من المزارع، و800 ألف طن من المصايد).
خروج عشرات المنتجين من الأسواق
سعى رصيف22 إلى التعرف على عدد المنتجين ومساحات المزارع التي خرجت من السوق نتيجة للضغوط الاقتصادية والإنتاجية، خاصة مع توسع الدولة في نشاط الاستزراع السمكي على حساب صغار المنتجين، واتباع أساليب مختلفة لضمان أن تبسط الأجهزة المعنية بالاستثمار في ذلك المجال يدها على إنتاج الأسماك وتجارتها.
يعلق الشراكي أنه من الصعب الوصول إلى أرقام دقيقة لعدد المنتجين الذين خرجوا من الأسواق، فالمزارع السمكية تختلف عن مزارع الدواجن، فالأخيرة مملوكة لكيانات كبيرة، ومن السهل احتساب الداخلين والخارجين من السوق، بينما المزارع السمكية تمتلكها كيانات صغيرة، غير أن ثمة تقديرات تشير إلى وجود 10 آلاف مزرعة سمكية، ولكنها صغيرة، تراوح بين 10 فدانين و50 فداناً للمزرعة، وهي صلب الإنتاج السمكي.
يتم احتساب خروج المنتجين من خلال رصد الكميات المستوردة من فول الصويا المستخدم في الأعلاف، وخاصة علف الأسماك، إذ كانت مصر تستورد 4.5 مليون طن من فول الصويا، بينما في العام الماضي تم استيراد 3.5 مليون طن فقط، وبالتالي حجم الأعلاف قلّ إلى 25.
مراكب الصيد خارج السوق
بكري أبو الحسن، شيخ الصيادين بالسويس، أكد لرصيف22 أنه خلال الأعوام الأخيرة، انخفض عدد مراكب الصيد، وبدأت الدخول في إصلاحات، لعدم وجود هامش ربحي في ظل التغيرات المناخية والتشدد الأمني: "الناس بتدفع ألف جنيه يرجعله عائد 600 جنيه"، مشيراً إلى إنتاجية الأسماك في خليج السويس انخفضت إلى أقل من 10% بدلاً من 13% في السنوات السابقة.
وأوضح أن قطاع الصيد "يقلل من طابور البطالة" لأنه يستوعب نحو 13 ألف فرصة عمل لحملة شهادات عليا ومتوسطة ودبلومات وعمالة، ويضم خليج السويس مراكب صيد مختلفة، خرج 10% منها عن الصيد وذهبت إلى أعمال أخرى حرة.
"تطوير خاطئ" للبحيرات
رغم إنفاق المليارات على تطوير البحيرات، ومنها بحيرة المنزلة، جاءت بنتائج عكسية على الإنتاج، إذ تمت أعمال التعميق وإزالة النباتات الطبيعية والجزر ما أثر على غذاء الأسماك وبيئتها المناسبة للنمو والتكاثر، علماً أن عمليات التطوير تمت على أيدي غير المتخصصين، مما أدى إلى تدمير البحيرة.
يوضح الشراكي أن دور التدخل البشري هو ضبط عمليات الصيد وليس التخريب، "أضرار البوص وورد النيل مرتبطة بالانتشار الجائر، ولكن تحجيم وجودها من دون إزالته مفيد لحفظ درجة حرارة المياة وتوفير غذاء للأسماك. والجزر كانت تفيد في وصول الطيور المائية المهاجرة، وتغذية حيوانات الصيادين، إضافة إلى أن التعميق أزال الطمية الخصبة".
ولغت إلى حجم الإنتاج المعلن من الحكومة وهو 150 ألف طن. "إنه رقم مبالغ فيه، غير أن الإنتاج الفعلي حالياً أقل مما كان عليه من قبل إذ بلغ نحو 60 ألف طن".
يقول أحمد عزب، صاحب مزرعة سمكية بكفر الشيخ، إن تكلفة إنتاج الأسماك زادت أكثر من الضعف، نتيجة زيادة أسعار الأعلاف والوقود، مع ثبات أسعار أو ارتفاع محدود، وقلة القوة الشرائية، إضافة إلى وقف التصدير بسبب زيادة أسعار الجمارك، مما اضطر أصحاب المزارع إلى تقليل الإنتاج.
وأشار إلى أن تكلفة حوض السمك بمساحة أربعة فدادين لإنتاج 10 أطنان، كانت بـ400 ألف جنيه للموسم، اليوم وصلت التكلفة إلى 900 ألف جنيه، أي أكثر من الضعف، وزيادة أسعار الأسماك لا تعوض فارق الاستثمار والربح. لهذا قد نجد أن سعر كيلوغرام السمك البحري 250 جنيه أو أكثر لتغطية التكلفة".
اتهامات جاهزة
بكري أبو الحسن، شيخ الصيادين بالسويس، يرفض أن يكون الصيادون والمنتجون متسببين في ارتفاع الأسعار "المسألة ليست سعياً للربح على حساب المستهلك، هناك اعتبارات آخرى، كون الأسماك سلعة غير قابلة للتخزين، وقابلة للتلف، باستثناء بعض الأنواع، وهي في الغالب أنواع فاخرة، بينما الأسماك الشعبية التي تهم السواد الأعظم من المستهلكين، غير قابلة للتخزين، كما أن الأسماك ليس لها تسعيرة محددة، وتباع بالمزاد، في الأسواق والموانئ".
ومن الأسباب أيضاً، بحسب أبو الحسن، قلة إنتاجية السمك والقيود المفروضة على الصيد في مساحات ممنوع الصيد فيها أو تحديد فترات زمنية لمنع الصيد، ويقوم الصيادون بالعمل في هذه المناطق والأوقات، معرضين أنفسهم لخطر السجن والمحاكمات العسكرية أحياناً، ومن المعروف أن ارتفاع المخاطرة يعني ارتفاع التكلفة.
يتهم أبو الحسن كذلك صناعة السياحة الشاطئية وصرف مواد الضارة في المسطحات المائية من قبل بعض القرى السياحية والأفراد والشركات، من دون معالجتها بيئياً، بالتسبب في موت الأسماك، وخاصة "الزريعة"، أي الأسماك الصغيرة الوليدة، مؤكداً أن هناك تساهلاً شديداً في تطبيق القانون على ملوثي المسطحات المائية، وأن تغليظ العقوبات في القانون غير كاف ما دام لا يوجد اهتمام بتطبيقه.
مشاكل الصيادين
سلامة سنيور، سكرتير عام جمعية الصيادين بالمعدية بإدكو، يحدد أسباباً أخرى أسهمت في ارتفاع الأسعار، منها غلاء أدوات الصيد وزيادة الرسوم، إذ ارتفع سعر كيلوغرام الغزل (شباك صيد الأسماك) من 450 جنيهاً إلى 1600، ويستهلك الصياد كل شهر أكثر من كيلوغرامين فضلاً عن زيادة تكلفة رسوم التراخيص للصيادين من 150 جنيهاً إلى 500 سنوياً، إضافة إلى سداد 1600 جنيه ضرائب سنوياً، بعدما كانت 12 جنيهاً عن كل شهر.
ويرى سنيور أن الصياد يساعد في الحفاظ على الأمن الغذائي وسد الفجوة لاحتياجات المواطنين من البروتين، غير أن الحكومة أهملت الصيادين، إذ ليس لهم تأمين صحي، ورفعت سن استحقاق المعاش إلى 65 عاماً، "رغم أنهم فئة أكثر عرضة للتعب والأمراض".
ويتهم السنيور الحكومة باتخاذ "إجراءات تعسفية تجاه الصيادين"، فبدلاً من تسهيل إجراءات الحصول على الرخصة، قادت نحو أربعة آلاف صياد إلى هجر المهنة بسبب وقف التراخيص، منذ أغسطس/ آب الماضي، خوفاً من ملاحقة المسطحات المائية: "لو المسطحات مسكتهم يتخرب بيتهم ويتحولوا لمحاكمات"، وأصبح عدد العاملين في الصيد هم حملة 1600 رخصة في بحيرة إدكو.
وطالب الحكومة والمسؤولين عن قانون الصيد بمراعاة ظروف الصيادين، ودعمهم، وتذليل العقبات أمام عملهم، ما يؤدي – في رأيه- إلى زيادة الإنتاجية التي تعمل على وفرة الأسماك، وتقليل أسعارها للمواطن، لأن "السمك لو كتر سعره هيقل"، مؤكداً أن قلة الانتاجية وضغط المستهلك تسببا في زيادة الأسعار.
وحرص رئيس جمعية صيادي إدكو على تسجيل اعتراضه على اللائحة التنفيذية لقانون حماية الثروة السمكية رقم 146 لسنة 2021: "لماذا يسمح قانون حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية باستعمال محرك في عمليات الصيد لبحيرتي البردويل والسد العالي، وباقى البحيرات لا يصرح لها خاصة بعد تطوير البحيرات وتعميقها من ثلاثة أمتار إلى أربعة، فأصبح المعدل شبه متقارب؟". ويرى أن اللائحة "تعقد حياة الصيادين ولا يوجد حوار حقيقي بينهم وبين الحكومة في وضع القوانين واللوائح التي تطبق عليهم أو استفادة من خبراتهم الواقعية لمراعاتها في وضع النصوص القانونية".
ويستنكر سنيور "حديث الحكومة عن فكرة تطوير البحيرات والصيادين"، معتبراَ أن "ما تسميه الحكومة تطويراً هو خراب وإهدار للمال العام"، موضحاً: "التطوير جعل ¾ من بحيرة إدكو أحواض ترسيب، رغم وجود جزر وشواطئ يمكن استخدامها، مما أدى لتدهور الأسماك، وهروب الصيادين". وأشار إلى أن خطة التطوير صممها ونفذها مهندسون ليس لديهم خبرة ولم يستشيروا الصيادين الذين يعرفون البحيرة جيداً وأماكن تكاثر الأسماك"، مؤكداً أن جمعيات الصيادين قدمت نصائح بناء على خبرات أعضائها "لو الحكومة عكلت بنصائح الصيادين، تطوير بحيرة إدكو ما كان يستغرق أكثر من ستة أشهر وبشكل يراعي ازدهار الزريعة لا تدهورها الحاصل حالياً".
لماذا الاستيراد الآن؟
الدكتور صلاح محمد كمال، مدير المعمل المركزي لبحوث الثروة السمكية سابقاً، قال لرصيف22 إن الدولة تكتفي باستيراد بعض الأنواع غير الموجودة في مصر، منها التونة والسلامون والسردين والماكريل وغيرها من الأسماك ذات الدهون المفيدة والأوميغا 3، وفي المقابل تصدر الدولة أسماكاً أخرى عالية الجودة.
ورأى أن الأرقام التي تصدرها الحكومة "دقيقة إلى حد ما"، رافضاً رؤية الصيادين للمنهج الذي اتبعته الحكومة في أعمال تطوير البحيرات، مؤكداً أن "النتائج لم تظهر بعد"، علماً أن خطط التطوير المنفذة وضعت "بطريقة غير صحيحة، مما أثر على الإنتاجية، وسيظهر ذلك في النشرة الدورية للحكومة يوليو/ تموز المقبل".
تواصل رصيف22 مع مسؤولين في هيئة الثروة السمكية التابعة لوزارة الزراعة، ورفض معظمهم الرد، إلا أن أحد المصادر المطلعة وافق على التصريح من دون ذكر الاسم. قال: "ما تعرضت له الهيئة من اتهامات بإخفاء بيانات الإنتاج السمكي لعامي 2021 و2022، هي اتهامات عارية من الصحة". مؤكداً أنه "لم يكن هناك تعمد في إخفاء البيانات، وسوف نصدرها قريباً، إنما التأخير لمراعاة الدقة في الرصد والعرض".
وأضاف أن مصر "اقتربت من تحقيق الاكتفاء الذاتي من إنتاج الأسماك وتقترب من المعدلات العالمية لمعدل استهلاك الفرد سنوياً".
ولم يستجب المصدر للرد على أسئلتنا حول شكاوى الصيادين من عمليات التنظيم وتكريك البحيرات وأثرها البيئي، وغياب التطبيق الصارم للقانون على ملوثي المسطحات المائية. كما لم يرد على أسئلتنا حول أثر دخول الكيانات الكبرى التابعة لبعض الأجهزة السيادية في الدولة إلى عمليات إنتاج وتسويق الأسماك، خاصة أن تلك الجهات نفسها تتدخل في تنظيم عمل الصيادين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...