شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
بين البريء والرجل غير قابل للنقاش... قراءة في شخصيات أحمد زكي

بين البريء والرجل غير قابل للنقاش... قراءة في شخصيات أحمد زكي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 27 مارس 202306:33 م

من واقع سياسي مرير انطلق كل من المخرج عاطف الطيب والمخرج محمد خان بالنبش داخل تفاصيل نفسية وإنسانية خاصة للغاية، اختار كل منهما أحمد زكي كي يقدمها ويبرز تفاصيلها، حيث قدم عاطف الطيب فيلم "البرىء" عام 1985 والذي تدور أحداثه خلال فترة انتفاضة 18 و19 كانون الثاني/يناير 1977 وما ترتب عليها من فساد سياسي وما يدور في عالم المعتقلات من تعذيب وقهر.


وبعده بثلاثة أعوام في عام 1988 قرر خان أن يتتبع أثر نفس الانتفاضة على حياة ضابط شرطة وزوجته تسببت الانتفاضة في إقالته من منصبه في فيلم "زوجة رجل مهم". لتكن هذه الانتفاضة شرارة حراك لتقديم عملين بطابع سياسي لرصد تجربة إنسانية بحتة، وهي نفسها المحطة الأولى للقاء بين الفيلمين، حيث لم تتشابه الشخصيات لكنها التقت في محطات بدأ من الممثل ذاته، مروراً بتفاصيل داخل كل شخصية جعلت محاور مشتركة بينهما رغم تناقضهما ظاهرياً.

الثبات على الفكرة الواحدة

قدم أحمد زكي في فيلم "البرىء" شخصية "أحمد سبع الليل" كفلاح بسيط وساذج، يعيش مع والدته وشقيقه الساذج أيضاً في الأرياف، يضحك عليه رفاقه مستغلين سذاجته في تسليتهم، يُستدعى سبع الليل لتأدية الخدمة العسكرية، وتأتي خدمته في أحد المعتقلات. يلتزم أحمد زكي كممثل بلزمات عدة من حيث طريقة المشي والحركة ونطق الكلام والضحكة تؤكد على سذاجة الشخصية وبراءتها في البداية، وقبل الذهاب لتأدية الخدمة العسكرية سأل أحد المتعلمين في قريته "حسين" عما يدور في ذلك العالم المجهول بالنسبة له، وعلم منه أنه سيذهب لكي يحارب أعداء الوطن، ومن تعبيرات وجهه يوضح أنه لم يفهم جيداً معنى هذه الجملة.

من واقع سياسي مرير انطلق كل من المخرج عاطف الطيب والمخرج محمد خان بالنبش داخل تفاصيل نفسية وإنسانية خاصة للغاية، اختار كل منهما أحمد زكي كي يقدمها ويبرز تفاصيلها

ومع دخوله المعتقل الذي سيؤدي فيه فترة خدمته، وتتبع مراحل كشف الهيئة وكشف الأطباء على العساكر ومنها إلى أول طابور عسكري يحضره سبع الليل، يلتقي بأناس يؤمرون بأن يأكلوا رغيف العيش من على الأرض دون لمسه، وعلى الرغم من اهتمام الكاميرا برصد ذلك الموقف المهين للإنسان، لكنها لم تغفل أن تذهب لرصد تعبيرات سبع الليل في حالة من الذهول مما يحدث، فهو لم يع من هؤلاء وما تهمتهم ولما يعذبون بذاك الأسلوب؟

لم يستمر سكوت سبع الليل طويلاً ليسأل الصول من هؤلاء ولماذا يُعاملون هكذا؟ ويتضح بذلك السؤال أنه لم يكن بذلك الغباء الذي لمحه فيه الجميع منذ البداية، ليجيئه الرد من جديد بإنهم "أعداء الوطن"، وتكتفي براءته بهذه الإجابة ويبدأ في مرحلة البرمجة. حيث تثبت أمام عينه فكرة "أعداء الوطن" والحرب وضرورة تعذيبهم، وأن محاربتهم هو عمله الوطني الجليل الذي خلق من أجله.

أما عن "هشام أبو الوفا" الذي قدمه أيضاً أحمد زكي في فيلم "زوجة رجل مهم"، فمن حيث كافة التفاصيل الشكلية والترتيب الوظيفي لا لقاء على الإطلاق بينه وبين سبع الليل، فأبو الوفا ضابط شرطة برتبة مُقدم، يتمتع بنفوذ قوي، يبدأ ظهوره بتتبعه لفتاة (منى)، تلفت انتباهه ليقرر أن يتزوجها بعد أن يجري حولها بعض التحريات، ويضعها في بعض الاختبارات، لتنفي هذه الأفعال عنه صفة الحب لهذه الفتاة.

يكشف الفيلم عن نرجسية هذا الرجل وحبه اللامتناهي لذاته في زيه كضابط شرطة الذي سعى له وبات يحلم به منذ طفولته، ومن هنا يلتقي سبع الليل بأبو الوفا في "الثبات على الفكرة الواحدة". سبع الليل مُبرمج كآلة ينفذ ما يُلقن دون فهم، وأبو الوفا مُبرمج أيضاً بأنه لا يمكن أن يكون سوى ذلك السلطوي المتغطرس، وفي خلفية كل منهما أنهما يحميا الوطن.

أثر الشخص الواعي في حياتهما

على الرغم من سخرية أقران سبع الليل به إلا أنه كان يجد دائماً من يرشده لحقيقة الأمور وهو شخصية "حسين". أما عن المُقدم هشام أبو الوفا فلم يجد منذ طفولته من ينقذه، ففي مشهد استرجاع ذكريات طفولته أوضح أن أساس الثبات على الفكرة الواحدة جاء من الطفولة وكان أهله هم أول الداعمين له، ففي كل عيد يأتون له ببدلة الضابط ومنها نمت لديه رغباته الكامنة.

يظهر سبع الليل ضمن عائلة مكونة من أم وأخ، بينما أبو الوفا فمن أول ظهور له وهو بمفرده وعندما أقدم على خطوة الزواج ذهب معه رئيسه في العمل، ليكون وجود الزوجة في حياته هو أولى المنبهات لنرجسيته؛ ففي البداية اعتقدت أنه رجل سوي لا ضرر من زواجه، ولكن بعد ذلك بدأت في الاصطدام، فكلما وضعت يدها على خلل في شخصيته واجهته به، ليمر أبو الوفا بمراحل عديدة تؤدي لاختلال توازنه. تلك الأزمة التي لم يمر بها أبداً طيلة حياته، جعلته يشعر أن عليه دائماً تحجيم تلك الزوجة وتعنيفها حتى تسير على نفس الوتيرة التي يسير عليها جميع المحيطين به.

أما منى فهي الشخص الواعي في حياته، وعلى شاكلة أخرى يلتقي أبو الوفا بمواجه واعٍ جديد يتمثل في شخصية "الصحافي مجدي عز العرب" الذي يصرح أثناء التحقيق أنه ضد أوضاع الحُكم الخاطئه بكل شجاعة لم يسبق لأبو الوفا أن يلتقي بها مُسبقاً. ولكن تحجيم الصحافي كان أسهل لأبو الوفا بتلفيق بعض التهم له والأمر بحبسه.

لحظات الاكتشاف واختلال التوازن

سبع الليل: "حسين أفندي ابن عم وهدان لا يمكن يكون من أعداء الوطن أبداً".

أبو الوفا: "دا احنا اللى حمينا البلد... لولانا مصر كانت خرابة.. أحنا مش غلطانين... إحنا ضحية يا فندم.. بالتأكيد دي مسألة مؤقتة وبعد ما الأمور تهدأ هنرجع شغلنا... مش ممكن يستغنوا عننا... كلها كام يوم وهنرجع الشغل علطول".

بعد ثبات كل منهما على فكرة واحدة تتمثل في "حماية الوطن"، يحدث لسبع الليل لحظة اختلال توازن غير متوقعة عندما يجد "حسين" ذلك المُرشد وسط المعتقلين أو "أعداء الوطن بالنسبة له" ليحدث اختلال توازن للشخصية، ويظهر الكادر السينمائي ببراعة حيرته بوقوفه في المنتصف بين السلطة المتمثلة في شخصية العقيد شركس وأعوانه، وشخصية حسين وزملائه. ويرتكز الكادر على تأكيد المسافة الفاصلة بين التكوينين، فالرئيس أعلى من حيث المستوى يعتلي حصانه، بينما سبع الليل وحسين يقفان على الأرض في مستوى أقل، أي أنهما أصبحا على قدم المساواة معاً بمجرد محاولة سبع الليل الدفاع عن صديقه، ليتحول هو الآخر لمعتقل مثله.

ومن هنا يأتي مشهد الاكتشاف، حيث يجلس سبع الليل وحسين سوياً كمخالفين للقوانين في زنزانة واحدة ويبدأ حسين في كشف حقيقة الأمر لسبع الليل.

يتغير رد الفعل تماماً ويبدأ في الرفض الواضح ومن ثم الدفاع عن حسين ومحاولة إنقاذه من الموت، إلى أن تأتي نهاية الفيلم –الأصلية قبل الحذف- بموقف نابع من رد فعل تراكم بداخله في كل مرة رآى تعذيباً أمام عينه لأحد المعتقلين. ومن ثم يتوجه الرصاص نحو سبع الليل، فنهاية الفيلم الأصلية على الرغم من احتوائها على مقاصد سياسية، إلا أن الشق الإنساني لا يقل فيها أهمية بل يزيد نظراً للتوغل في أعماق الشخصية، فالنهاية الأصلية تتمثل في رصد لحظة لرد فعل سبقها لحظات اختلال توازن واكتشاف حقائق، وبذلك فإن المشهد المحذوف هو مشهد أساسي يكشف عن المحاولة الأولى في حياة سبع الليل التي ستساعده على اكتشاف ذاته.

وكذلك الحال عند أبو الوفا ولحظات اختلال توازنه التي جاءت جميعها منذ لحظة تلقيه خبر إحالته على المعاش، تمثلت بذورها الأولى في محاولات رفضه الداخلية بأن ذلك مجرد وضع مؤقت، وبعد ذلك شراء عربية وتأجير سائق لخداع المحيطين أنه ما زال في عمله.

كما التقى هشام من جديد بالصحافي عز العرب، ولكن هذه المرة بعد الإقالة، وأخذ الصحافي براحه في تعريته أمام ذاته بكل سلاسة، فما كان في يد هشام سوى رميه بالتهم الباطلة حتى يرضي نفسه.

السلطات وطرق مواجهتها

لم يكن في نفس سبع الليل التطلع لبلوغ أي سلطة منذ الصغر، بينما بدخوله الجيش وجد نفسه جزءاً صغيراً من منظومة سلطوية كبيرة.

أما بالنسبة لأبو الوفا فمنذ صغره وهو طامح في بلوغ سلطة "أن يصبح ضابط شرطة"، وبالفعل بلغ السلطة وأصبح صاحب نفوذ.

أدت مرحلة اختلال التوازن عند كل منهما بأن يثور سبع الليل على سلطته في رفض الأمر الموجه له، بينما في لحظات اختلال أبو الوفا وفقدان سلطته ظل متشبثاً بها على كافة المستويات.

القتل نتاج لوضوح الرؤية

يمثل "والد الزوجة" الذي جاء كي يأخذ ابنته إلى منزله الكاشفَ الأخير لحقيقة هشام أمام ذاته، ليكن رد فعل أبو الوفا هو نفسه رد فعل سبع الليل "فعل القتل"، فبعد مرورهما بلحظات اختلال ومنها في لحظات اكتشاف، لم يستطع أحد منهما أن يساير واقعه، ليتخلص سبع الليل من شرور الطاغية بالقتل، بينما يتخلص هشام من والد منى كآخر مواجه له في فقدان سلطته بالقتل أيضاً. ومن بعدها يلقي أبو الوفا نفس مصير سبع الليل أي قتله لنفسه. والفارق هنا أن سبع الليل لم يقتل نفسه لأنه ولأول مرة شعر بأنه قد فعل ما يرضي إنسانيته بينما قُتل على يد آخر، وفي المواجهة أبو الوفا يقتل نفسه لأن لحظة الاكتشاف عنده قد بلغت ذروتها.

الأشياء ليست كما تبدو

صادق سبع الليل آله الناي التي صنعها بنفسه من "البوص"، فكلاهما ابن الأرض ومنها اصطحبه معه إلى الجيش، رغم علمه بالأوامر التي تمنع وجود آلة موسيقية معه، وظل معه حتى آخر لحظة بعد قتله لكافة ضباط المعتقل، فبعد قتله لهم مباشرة بات يعزف عليه حتى قُتل.

بينما بالنظر في خلفية سبع الليل يتضح أنه لا صديق يشاركه لحظة انتصاره الوحيدة سوى نايه الحزين، أما عن أبو الوفا فلا صديق له سوى المرآة، حيث تعتبر المرآة في ذلك الفيلم أحد الأبطال الرئيسيين، والعاكسة دائماً لمدى فخر أبو الوفا بهيئته.

أحمد زكي قد حرص في "سبع الليل" أن يبرز سذاجته الواضحة في طريقة السير والضحك والنظرة، وعلى الصعيد الآخر شموخ أبو الوفا وارتفاع رأسه وأنفه مفتخراً بذاته

ففي البداية كانت علاقتهما علاقة وطيدة بها اعتزاز وفخر بكل تفصيلة من حيث الشكل والهيئة، بينما في أثناء اصطدامه بكل المواجهين له وزيادة عددهم من حوله يجد أن حتى مرآته وصديقته الوحيدة أصبحت هي الأخرى مثلهم، ومنها يقوم بكسر مرآته العزيزة.

الغباء بين الوضوح والتخفي

كما تم الذكر إن أحمد زكي قد حرص في "سبع الليل" أن يبرز سذاجته الواضحة في طريقة السير والضحك والنظرة، وعلى الصعيد الآخر شموخ أبو الوفا وارتفاع رأسه وأنفه مفتخراً بذاته.

ليكن غباء سبع الليل هو الواضح من الوهلة الأولى، بينما أبو الوفا يحتاج إلى وقت وتمهل حتى تظهر سذاجته، ولكن بعد أن يتعرف كل منهما على الحقيقة كاملة، يصدر سبع الليل فعل الرفض ومنها للفهم ومنها يصدر رد فعل الدفاع عن صديقه ومنها لنهاية الفيلم حيث يلقي حتفه نتيجة ردة فعله. ويؤكد ذلك أن كل ما كان يحتاجه سبع الليل هو شخص واعٍ يوجهه نحو الحقيقة، بينما أبو الوفا فكل أفعاله أثناء اختلال توازنه تؤكد على أنه معجب من داخله بـ"غبائه" ولا يريد تغير فكرته، وفعل قتله لذاته في النهاية دليل أكبر على تخطي غبائه درجة غباء سبع الليل الواضحة.

أسماء مخادعة ومُتسقة مع شخصياتها

تكوّن اسم كل منهما من اسم منفرد ثم يليه اسم لقب مركب يحمل دلالة لكل شخصية؛ يعتبر اسم "سبع الليل" اسماً ينم عن الشجاعة المطلقة، يظهر في بداية الأمر أنها مفارقة مضحكة، فلم ينل سبع الليل من اسمه نصيباً، ولكن مع مجيء النهاية يتضح أنه نال نصيبه كاملاً وفعل ما لم يقدر عليه أحد قبله. وكذلك اسم "ابو الوفا" الذي يدل على الوفاء والولاء، حيث شخصية هشام هي وفية في أساسها، وقبل وفائه للفكرة فهو وفي لذاته، وكان جزاء الوفاء الانتحار بالرصاص. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image