يمثّل الاستعطاف الشعبي إحدى إستراتيجيات استمرار الحكم في الأنظمة الشمولية، وهو السلاح الثاني بعد القوة والقمع، لذلك يعمد الحاكم إلى اللعب على مشاعر الجماهير عبر الظهور لها في موقع الضحية لكي تقبل إخفاقاته وتحولها إلى مناسبة أخرى لزيادة شعبيته في صورة مفارقة كبرى. وأشهر عملية ابتزاز عاطفي سقط ضحيتها الشعب، استقالة عبد الناصر.
كثيراً ما نشرت الملفات الصحافية في المجلات العالمية التي تحصي دموع القادة والرؤساء وتحللها، من دموع القذافي في أثناء القبض عليه، ودموع صدام، فدموع جورج بوش الابن إثر أحداث أيلول/سبتمبر، ثم دموع حسني مبارك وقبلها دموع عبد الناصر، وبعدها دموع عبد الفتاح السيسي، وصولاً إلى دموع بوتفليقة. غير أن دموع بورقيبة، كانت أكثر الدموع المدرارة تأثيراً في التاريخ السياسي.
كان الحبيب بورقيبة، أول رئيس للجمهورية التونسية، ممثلاً بارعاً، وكان قد صعد على خشبة المسرح وهو شاب ومثّل كما يروى عنه، وكان أيضاً من الرؤساء القلائل الذين مارسوا الكتابة في الصحافة، وكتبوا عن المسرح والمسارح، وكان مشاهداً وفياً له ولنفسه. لذلك، كان الانفعال عبر البكاء جزءاً من إستراتيجيات حكمه لاستمالة شعبه وقت الشدائد وحمله على الالتفاف حوله في كل الظروف والأزمات التي تمر بها تونس، سياسيةً كانت أم اقتصاديةً، فتنقلب الجماهير الجائعة والساخطة إلى جماهير تهتف بحياة "حبيب الأمة": المجاهد الأكبر.
صار كلما وصل إلى زاوية حادة في حكمه، يسحب ورقة التهديد بالاغتيال لكسب تعاطف شعبوي، يجعله يعبر ذلك المأزق في لعبة إلهاء صارت اليوم معلومةً من فرط تكرارها، وآخرها قصة اختفائه لأكثر من عشرة أيام
في المقابل، لم تكن مشاهد الدموع، الأسلوب الدرامي التمثيلي الوحيد الذي اعتمده جمال عبد الناصر. ففي هزيمة 67، وبينما كان الشعب يغلي من أثر الهزيمة حنقاً، ويطالب بمحاكمة المسؤولين عن الهزيمة، توصل ناصر إلى فكرة جهنمية مع محمد حسنين هيكل، وهي تقديم استقالة درامية شعرية. فالهجوم أفضل طريقة للدفاع. تلك الاستقالة التي طلب بخطابها الذكي من الشعب الحانق أن يساعده على الاستقالة، وهو بذلك ينزع عنه حنقه ويشككه في نفسه من ناحية، ويدعوه إلى الانقلاب على رأيه فيتحوّل إلى مناصرته بعد عداوة.
وبالفعل خرجت الجماهير تتظاهر من أجل أن يتراجع عن استقالته، وجددت ثقتها به. حدث ذلك كله عبر خطة اللعب على عاطفة الشعب الهشة والمتبدلة حسب موقع الحاكم منها. لقد عبّرت تلك الاستقالة عن عبقريتين؛ عبقرية الدهاء السياسي لعبد الناصر، وعبقرية الكاتب السياسي محمد حسنين هيكل.
قيس سعيّد والاغتيال المرتجى
منذ اعتلى قيس سعيّد، سدة الحكم، راح يردد هو وأنصاره أنه مهدد بالقتل؛ مرةً بالتسميم عبر الخبز، ومرةً بالتفجير، ومرةً بالرسائل الحاملة لغازات سامة، وأخرى من دون سيناريو محدد أشار إليه وتكلم عنه ونسب الأمر إلى مجهولين يعرفهم وحده. وصار كلما وصل إلى زاوية حادة في حكمه، يسحب ورقة التهديد بالاغتيال لكسب تعاطف شعبوي، يجعله يعبر ذلك المأزق في لعبة إلهاء صارت اليوم معلومةً من فرط تكرارها، وآخرها قصة اختفائه لأكثر من عشرة أيام، لتعود قصة اغتياله كفرضية قائمة من فرضيات الغياب، فانطلقت حملة "وينو الرئيس؟"، وانطلق معها التحسر على غياب المنقذ.
اختفى قيس سعيّد بعد أن أغرق الناس في الجفاف بقانون قطع الماء ليلاً، ثم ظهر ليشتم خصومه ويعتبر أن غيابه لمدة أحد عشر يوماً أمر عادي في ظل عالم تحصي فيه المؤسسات الرقابية والمدنية على المسؤولين في العالم، دقائق ساعات العمل وليس الأيام.
كان معمر القذافي أيضاً مهووساً بقصة الاغتيال ويعمل على جعلها جزءاً من أسطورته، إلا أنه يوم اغتيل كان اغتياله على أيدي الشعب الذي أذاقه الويلات والذي راهن عليه أيضاً لضرب خصومه عبر اللجان الشعبية والميليشيات، والذي عمل على تجهيله وإذكاء العصبيات فيه، بدل تشييد بلد مدني وكذلك كان يفعل صدام حسين الذي يصفّي خصومه كل مرة بالقتل، حتى أنه لم يتردد في شنق شاعر وروائي مثل "حسن مطلك"، بتهمة التخطيط للانقلاب واغتياله، وانتهى صدام حسين بالإعدام. وإن اختُلف حول شرعية ذلك الإعدام من عدمه، فإنه قد وقع. في المقابل، يدفع الرئيس قيس سعيّد بالشاعرة والباحثة "شيماء عيسى"، إلى المعتقل بتهمة التآمر على أمن الدولة، وهي التهمة التي ترشحها بدورها لحكم الإعدام. وهكذا يؤكد هذا الرجل وجهه السوريالي الاستثنائي ولا يتردد في إعدام شاعرة لأنها رفعت في وجهه علامة النصر وتمسكت بحلم التونسيين في أن يكونوا أحراراً.
هذا التقارب بين الحاكمين في عداوتهما للمبدعين والأدباء واضحة لا من خلال اعتقالهم وتصفية المتمردين منهم فقط، بل بازدراء كل ما يمتّ إلى الأدب بصلة، لذلك لم يستقبل قيس سعيّد كاتباً واحداً منذ توليه السلطة، غير توفيق بن بريك، بطلب منه مباشرةً بعد وصوله إلى الحكم وبحكم أنه كان مناصراً لمنافسه نبيل القروي. أما صدام حسين، قد جندهم للتطبيل له عراقياً وعربياً ونصب لهم الخيام في المربد ليطبلوا له وفتح لهم سلاسل وجوائز لمدحه واختراع انتصاراته الوهمية مثل "القادسية" وسلاسل رواية الحرب وغيرها.
غير أن المتأمل في حالة قيس سعيّد، يكتشف أنه أبعد ما يكون عن الاغتيال، وأن هناك عشرات الأسباب التي ترشحه كمشروع منتحر لا مشروع مغتال.
قيس سعيّد ومسخ سانكارا
يُعدّ توماس سانكارا، مثالاً للقائد الوطني الذي تحدّى العالم الغربي وصندوق النقد الدولي فرفض القروض الأجنبية وشرع بعد انقلابه على نظام الحكم في بلاده في بناء اقتصاد وطني مستقل.
وخلال سنوات قليلة، حققت بوركينا فاسو الاكتفاء الذاتي كأول بلد إفريقي في التاريخ. أطلق سانكارا المصانع في كل مكان لكي يضخ في السوق حاجيات الشعب من ملابس ومواد غذائية، من دون أن يحتاج إلى العملة الصعبة لاستيراد البضائع. فقد قاده انتماؤه اليساري الشيوعي إلى جانب تكوينه العسكري إلى تنفيذ رؤية مضادة للرأسمالية المتوحشة والاستعمار الغربي مما أكسبه صفة البطل القومي والبطل الشعبي. وبرغم الانتهاكات التي كان يقوم بها في الحريات العامة والخاصة، إلا أن الازدهار الاقتصادي لبوركينا فاسو في عهده جعل منه عدوّاً للغرب ولفرنسا تحديداً، وأكسبه شعبيةً داخليةً.
لأن الاغتيالات السياسية عادةً ما تكون مسنودةً ومدعومةً من جهات أجنبية، صار ذلك من أحلام قيس سعيّد الطوباوية.
كانت علاقته قد توطدت مع دول عدم الانحياز ومع فيديل كاسترو مذ كان رئيساً للوزراء وعمل على تحقيق مشروعه بسرعة إثر انقلابه على الحكم وتقلّده الرئاسة في 4 آب/أغسطس 1983. فرض سانكارا ارتداء اللباس المصنوع بيد عاملة محلية على كل موظفي الدولة وعمل على التقليل في النفقات والامتيازات التي كان يتمتع بها المسؤولون. وكان في خطاباته مناوئاً لسياسة الغرب تجاه المستعمرات القديمة، ومنادياً بتحرر المستعمرات الأخرى وإسقاط ديون الدول الفقيرة.
سمع سانكارا مرات بأن مؤامرةً غربيةً تُحاك ضده، وأنهم يجهزون رفيقه بليز كومباوري، للحكم بعده. لكنه لم يصدّق ذلك، ولم يهتم إلا بمزيد من الإصلاحات والمضي في مشروعه التحرري من برامج صحية وتعليمية وصناعية حتى اغتيل فعلاً يوم 15 تشرين الأول/أكتوبر 1987، من قبل رفيقه الذي لازمه منذ شبابه الأول.
هذه النسخة من الثائر الإفريقي الملقب بتشي جيفارا إفريقيا، لا يمكن أن تنسحب على قيس سعيّد، لأن زمن إنجازات سانكارا الكبيرة قضاها قيس سعيّد في الصراخ واقتصاد البلاد ينهار يوماً إثر يوم، ولم يقم بأي إصلاحات سياسية أو اقتصادية أو تربوية، بل ازدادت القطاعات كلها تأزماً. وانشغل طوال هذه السنوات في تصفية خصومه وحتى المقربين جداً منه وحاشيته التي يشعر بأنها كبرت وصارت خطراً عليه، فصفّى مديرة ديوانه التي خططت معه للانقلاب، ثم صفّى بعد ذلك وزير الداخلية توفيق شرف الدين، أقرب حاشيته اليه لأنه أصبح يمثّل قوةً في القصر.
إن المتأمل في وضع تونس في عهد قيس سعيّد، يرى بسهولة أن أكبر عدو لتونس لا يمكن أن ينجح في ما فعله بها قيس سعيّد خلال ثلاث سنوات من تدمير كامل للمؤسسات وللاقتصاد ولحرية التعبير التي تُنتهك يومياً. ولأن الاغتيالات السياسية عادةً ما تكون مسنودةً ومدعومةً من جهات أجنبية، صار ذلك من أحلام قيس سعيّد الطوباوية. فالعدو، إذا كان هناك من عدو لتونس، يقول له لقد قمت باغتيالها بالمجان ووفرت علينا المجهود.
اغتيل الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، في 25 آذار/مارس من عام 1975، لأنه رفع ورقة النفط في وجه الغرب وقطع النفط في حرب تشرين الأول/أكتوبر، عن الولايات المتحدة والغرب عامةً. فماذا فعل قيس سعيّد للغرب حتى يغتاله؟.
اغتيل الزعيم فرحات حشاد، لأنه كان يؤلم الاستعمار بنشاطه فجنّدت "اليد الحمراء" لتصفيته ولأنها لا تريده زعيماً مستقبلياً لتونس، واغتيل الرئيس الجزائري محمد بوضياف، لأنه عاد لإخماد حرب أهلية يديرها تجار السلاح والأيديولوجيات، وكان يمثل خطراً على استمرارها المطلوب. واغتيل السادات لأنه جاء بنصر بعد هزيمة، ثم أردفه بسلام الشجعان فخوّنوه وقتلوه. واغتيل المهاتما غاندي لأنه هزم الغرب وبريطانيا باللا عنف، واغتيل الزعيم شكري بلعيد لأنه صوت حر ومسموع وعقلاني وصاحب كاريزما وفصاحة ثقافية حقيقية. فأين هو من التلعثم الذي يظهر به قيس سعيّد؟
لا يمكن أن يذكرنا قيس سعيّد، اليوم، إلا بجثة الطاغية الكاريبي في رواية "خريف البطريرك" لغابرييل غارسيا ماركيز. إنه ميّت منذ مدة، لكن الشعب مصاب في حاسة شمّه، بسبب الجائحة، وينتظر انتشار الرائحة ليعجل إلى دفنه
وحاولوا اغتيال بورقيبة لأنه كان طاغيةً وقوياً وتحيط به الجماهير أيضاً، وهو شخصية مركبة معقدة يصعب أن تسقطها بتجنيد الحشود ضدها، فاختارت الجماعات المناوئة أن تبادله بالمثل، أي مثلما قتل زعيماً آخر، وأن تصفيه عبر الانقلاب وبالتواطؤ مرةً مع القذافي، ومرةً مع جهات أخرى. فلماذا يُغتال قيس سعيّد وهو يموت يومياً بالفشل، وهو يعبّد يومياً طريق رحيله المذلّ من عالم السياسة، حيث لم يعد الآن يصدّقه أحد إلا جماعة قليلة تورطت في تأليهه وتستفيد من وجوده والتي سترمي بأعلامها يوم تندلع ثورة حقيقية في تونس ضد البؤس والجوع والجهل؟
لا يمكن أن يذكرنا قيس سعيّد، اليوم، إلا بجثة الطاغية الكاريبي في رواية "خريف البطريرك" لغابرييل غارسيا ماركيز. إنه ميّت منذ مدة، لكن الشعب مصاب في حاسة شمّه، بسبب الجائحة، وينتظر انتشار الرائحة ليعجل إلى دفنه. فهل سننتظر شفاء الشعب من آثار الجائحة ليستعيد حاسة الشم أو ستقتحم العقبان القصر وتكسر النوافذ لتصل إلى الجثة المتعفنة؟
تبدأ رواية غابرييل غارسيا ماركيز في ترجمة محمد علي اليوسفي، بهذا المقطع: "انقضّت العقبان على شرفات القصر الرئاسي خلال نهاية الأسبوع، فحطّمت شباك النوافذ المعدنية بضربات مناقيرها، وحركت الزمن الراكد في الداخل برفيف أجنحتها، ومع بزوغ شمس يوم الإثنين، استيقظت المدينة من سبات قرون عديدة على نسمة رقيقة ودافئة، نسمة ميّت عظيم ورفعة متعفّنة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...