تلعب الصور في حياتنا دوراً مهماً على اختلاف الطرق، فعلى الصعيد الشخصي، إن مشاهدة الصور تتضمّن العديد من الأنشطة والعمليات المعرفية، من أهمها: الذاكرة، التخيل، الإدراك والتفكير المنطقي، وكما لاستخدام الصورة إيجابيات فإن له سلبيات أكثر، من أبرزها: تزييف الوعي وإخفاء الحقيقة، وأيضاً إعلاء قيمة المؤقت والسطحي والعابر من الأمور على حساب الحقيقي والجوهري والثابت.
مع ذلك؛ يُنظر إلى الصور والتمثيل المرئي لما حولنا ليس فقط كأدوات ضرورية ووسيطة للتبادل والتفاعل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والتربوي وحسب، ولكن أيضاً كأسلحة وأدلة لتقصّي الحقائق والتوجيه نحو سبل المناصرة والتضامن مع الكثير من القضايا على اختلاف أيديولوجياتها، ظالمة أو مظلومة في واقعها.
التكنولوجيا، الإعلام ومجتمع المشهد
وفي أوج التسارع والتطور التكنولوجي، حققت الصورة انتشاراً واسعاً للسوق المرئي، وحجزت لنفسها مكاناً لا غنى عنه في سوق السلع والاقتصاد العالمي. مع ذلك من المهم التنويه إلى أن الصور اليوم أصبحت أكثر تعقيداً في مضمونها، إذ باتت تعبّر عن تشابكات أيديولوجية تتفاوت في العمق، لكنها تجلب تصوّرات علائقية مثيرة للاهتمام ومتنوعة التخصص؛ خاصة تلك الصور التي يتم تركيبها بفعل برامج المعالجة والتأثير المرئي.
من جانب آخر، حتى الصور الحيّة القائمة بذاتها بدون أي معالجة تحمل هي أيضاً خطاباً ما؛ دوماً ما يكون فيه مساحة قابلة للتأويل. بعض الصور التي تبثّها القنوات الإعلامية على سبيل المثال، والتي تنقل فيها صور للمدينة تحت المدفعية، بعد الكارثة، أو في احتفال وطني، أو كخلفية لمشهد إنساني، لا تتضمن في الحقيقة الخبر المنقول وحسب؛ بل تكون هناك أيديولوجيا أخرى لا تشبه تلك المصرّح بها، وربما تكون من النقيض بما يكفي لتكشف زيف الصورة ذاتها!
الصور التي تبثّها القنوات الإعلامية، والتي تنقل فيها صور للمدينة بعد الكارثة، أو في احتفال وطني، أو كخلفية لمشهد إنساني، لا تتضمّن في الحقيقة الخبر المنقول وحسب؛ بل هناك أيديولوجيا أخرى ربما تكون على النقيض
عند كل حدث دراماتيكي تصبح الصورة بذاتها خبراً معنوناً. الصورة في مضمونها حول الناس، المكان (المدينة) والحدث ذاته تصبح سلعة ذات طلب عال، وتحديداً كجزء من المادة الإعلامية. لكن المشهد، وتحديداً مشهد المدينة، يظل ناقصاً في جزء منه، وبالرغم من أن هذا المشهد يتضمّن خطاباً سياسياً ما غالباً إلا أن الخطاب هنا، وتحديداً الظاهر منه كما يقول فوكو، "ليس في نهاية المطاف سوى الحضور المانع لما لا يقوله".
الصور: إنتاج بصري ملغوم
الصورة قد تكون مادية، أي إدراكية خارجة من أنطولوجيا جارية، وقد تكون شيئاً فكرياً وتخيلياً أي داخلية عقلية، ولكن ما هو مشترك بينها جميعاً هو المنطق الإدراكي الذي يضمّها معاً، والذي يتكوّن من خلاله الطابع الكلي الملازم لها والمرتبط فعلياً بحاسة البصر. قال أرسطو ذات مرة: "إن التفكير مستحيل من دون صور".
في هذا الإطار، يؤكّد الباحث والكاتب المصري الدكتور شاكر عبد الحميد، في كتابه "عصر الصورة" أن الناس يتذكرون 10% فقط مما يسمعونه و30% فقط مما يقرأونه، في حين يصل ما يتذكرونه من بين ما يرونه أو يقومون به إلى 80%، وهذا التذكر في الحقيقة هو جملة ما يبني الناس عليه كل سلوكياتهم اللاحقة، بوعي أو دونه.
وفقاً للفيلسوف الأمريكي جون ر. سيرل كتابه "رؤية الأشياء كما هي: نظرية الإدراك"، فإن المشهد الإدراكي البصري الحقيقي يحتوي على اثنتين من الظواهر الفعلية: الظروف الموضوعية والأنطولوجيا التي تحدث في العالم خارج رأسك، والتجربة البصرية الشخصية والتي ترتبط أساساً بأنطولوجيا الظروف الجارية بالكامل داخل رأسك. تسبب الأولى الأخيرة، وبالتالي فإن المضمون القصدي خلف الصور هو في غاية الأهمية؛ لأنه طريقنا في إدراك وفهم هذا العالم من حولنا.
تستغل الهياكل الاستعمارية وأصحاب المصالح هذا الأمر لفرض سيطرتهم والترويج لأفكار ما يتعمّدون زرعها في هذا الإنتاج البصري الملغوم. هذا يعني أننا في الحقيقة في عملية استعمار دائم، ومن المؤسف أن يفكّر البعض في الاستعمار وكأنه فعل ماض أو حدث تاريخي، الاستعمار ليس ممارسة لمرة واحدة. إنه عملية راهنية مستمرة.
واقع الصورة والمشهد المرئي في غزة
في البحث الصوري حول "قطاع غزة" فإن الأرشيف البحثي للصور يُظهر في غالب نتائجه وجهاً واحداً لقطاع غزة كمكان للحرب والموت والدمار والفقر والبطالة، متجاهلاً الحقائق الأخرى الطبيعية والعفوية والأكثر إنسانية وتفاؤلاً حول الحياة في غزة. هنا، ومن خلال الصور، يتم صناعة مشهد المدينة كما يريده الإعلام المهيمن، ووفقاً لأهدافه التي تحافظ على هذه الصور كسلعة رائجة وأداة لاستقطاب الجمهور المغيّب.
هذا الشكل من الاستعمار "استعمار المشهد" هو أمر في غاية الخطورة على التاريخ المنقول والهوية والذاكرة، وحتى أشكال الإدراك التي تصبح حبيسه صورة واحدة يحفّها البؤس. في ظل هيمنة الإعلام على المنتج التمثيلي والمرئي لا بد من وجود مشهد آخر مغاير يدعم رؤية الآخر، ويحكم على المضمون البصري بما يعزّز مصداقيته وشفافيته، ويبعده عن الصورة المهيمنة الواحدة، فثمة وجوه كثيرة للحقيقة على الصورة أن تقولها.
لقد أصبحت الصورة اليوم فضفاضة المعنى؛ فهي تعتبر دليلاً مرئياً وتمثيلاً مضاداً وتوثيقاً لممارسة فنية إنسانية واجتماعية وسياسية، ولا تقف عند هذا الحد؛ بل تأخذنا لجوانب مهمه تتعلق بالجمال، الإبداع والتخيل.
المصوّر الغزّي تحديداً، وبفعل الظروف والتقلبات والأحداث التي تدور من حوله؛ يتميز بجاهزية خلاقة لالتقاط الصورة واصطياد المشهد في قمّة انفعالاته، ومع أن الصورة هي حالة السكون التام، لكن الصورة في غزة تستمر في انفعالاتها حتى في جمادها، ويحدث هذا التكافؤ المذهل بين صمت الصورة وما تقوله.
الصورة التي قام بالتقاطها المصور الفلسطيني حسام سالم في حرب غزة 2014 هي نموذج صريح ومعبّر في هذا السياق. الصورة حملت عنوان "لحظة كسر قلب الرجل" وتم اختيارها من قبل هيئة الإذاعة البريطانية BBC كأقوى صورة لعام 2014.
"استعمار المشهد" هو أمر في غاية الخطورة على التاريخ المنقول والهوية والذاكرة، وحتى أشكال الإدراك التي تصبح حبيسه صورة واحدة يحفّها البؤس
إن المصور في كل لحظة إنتاج للصورة، يدخل في حوار ذاتي كامن مع نفسه قبل أن يضغط على مفتاح الكاميرا؛ إذ تنعكس الكثير من السيناريوهات لديه مع كل زاوية من زوايا العدسة واتجاهات حركتها. هذا الحوار الصامت يستجوب الكثير من نواحي الذاتية، وهو في طريقه لتقديم صورة موضوعية واقعية وحقيقية تلامس قضية راهنة.
مؤخراً، يمكن ملاحظة التوجّه المكثّف للمصورين والصحفيين الفلسطينيين في غزة للعمل في سياق حركات الحقوق المدنية، النشاط الإنساني، العدالة الاجتماعية، تعزيز التضامن والتعاطف، كما توجّه آخرون كثر نحو التصوير السياحي الذي يهدف لتحسين الصورة الدموية القاتمة لقطاع غزة وإظهارها بحلتها الحيوية والطبيعية. يجسّد هذا الأمر توجّهاً حقيقياً مضاداً لهيمنة الصورة السوداوية.
من المؤسف أن يفكّر البعض في الاستعمار وكأنه فعل ماض أو حدث تاريخي، الاستعمار ليس ممارسة لمرة واحدة. إنه عملية راهنية مستمرة.
وفي ظل تساؤلات دائمة حول كيف تبدو الحياة في قطاع غزة، يحاول المصوّرون استدعاء كل السيناريوهات الأخرى التي جرى إقصاءها بفعل الإعلام المهيمن. كل السيناريوهات البصرية المهمّشة التي تتحدث عن أشكال الحياة الأخرى في غزة، كالزراعة، الصيد، لعب الأطفال، حياة المخيم، مزارع الفراولة، الشاطئ في الصيف، ممارسة الرياضة، حياة القرية وأجواءها الريفية وغيرها. يمكن النظر في الأعمال التي قدمها كل من المصور فادي ثابت، ورهف البطنيجي وغيرهم كونها ممارسات تدعم هذه الأمثلة.
من جانب آخر، لم يقتصر الأمر وحسب على مضمون الصورة، ولكن أصبحت هناك توجهات أيضاً تعيد النظر بزوايا الرؤية، فباستخدام طائرات الدرون انتشرت الصور الجوية، كما التُقطت صور من السماء بمنظور عين الطائر، ما سمح بمشاهد مغايرة لما هو شائع. حصلت هذه الصور على العديد من الجوائز ولفتت نظر العالم إلى غزة، منها مجموعة الأعمال التي قدمها المصور سليمان حجي، التي توثق بالصور الجوية مشاهد المتظاهرين في مسيرات العودة على الحدود الشرقية لقطاع غزة.
إن وجود سيناريوهات مرئية مهمّشة يعني أن هناك حقيقة تم دفعها إلى الهامش وقمعها، وبالتالي هناك معرفة ذات صلة تمّ إقصاؤها، وهو ما يمثل في ذاته شكلاً من أشكال الاستعمار، الاستعمار الذي يشوه الحقيقة الكاملة.
وجودنا كفلسطينيين في خانة الضعيف يمنحنا الحق في الخيال وتحرير الصورة والتنقيب التكتيكي عن القيمة الحقيقة التي يحاول المحتل سلبها منا. قد يؤدي هذا إلى تشويش مظهر الصورة وقيمتها الحقيقية، لكنه وسيلة فعالة لاسترجاعها
لا يقف الأمر هنا عند تهميش الصورة أو إقصائها، بل قد يمتد للطعن بها وإنكارها. هذا ما حدث مع الصورة الأشهر التي التقطها المصور الفلسطيني طلال أبو رحمة، للطفل محمد الدرة البالغ من العمر 12 عاماً والذي قتل على يد القوات الإسرائيلية بدم بارد، وهو في أحضان والده في سبتمبر من العام 2000.
على الرغم من قوّة الصورة التي قدّمت مشهداً اهتز له العالم كله، أصبحت بعد سنوات قضية نزاع قانوني في المحاكم الفرنسية، وذلك بسبب قيام الحكومة الإسرائيلية بتغيير أقوالها وشهادتها. ففي 3 أكتوبر من العام 2000، قال رئيس العمليات في الجيش الإسرائيلي إن تحقيقاً داخلياً أكد أن الطلقات أطلقت من قبل جنود إسرائيليين. وقام بتقديم اعتذار رسمي علني قال فيه: "كان هذا حادثاً خطيراً، حدثاً نأسف عليه جميعاً".
لاحقاً، تراجعت إسرائيل عن اعترافها بالذنب، وبدأت تطعن في صحة الصورة وتوجيه الإعلام بهذا الصدد، فصدرت بعض التصريحات التي تدين الفلسطينيين وتتهمهم باستغلال النساء والأطفال بشكل ساخر، وادعاءات أخرى تشير إلى أن المشهد نُظّم من قبل متظاهرين فلسطينيين لإنتاج شهيد طفل وإثارة بلبلة، كما صرّح لوك روزنزويج، وهو صحفي فرنسي من أصل شيوعي يهودي يعمل لدى صحيفة لوموند الفرنسية اليومية، أن المشهد كان مزيفاً، ووصفه بـ "جريمة إعلامية شبه كاملة."
لقد تحولت الصورة من دليل على العنف الذي يصيب المدنيين الفلسطينيين تحت الاحتلال إلى نقطة خلاف، وبدلاً من أن تثبت الصورة تورط إسرائيل وإدانتها، أصبحت الصورة تلميحاً يشير إلى خداع الفلسطينيين. حوَّلت كيمياء السياسة والسلطة الأدلة الفوتوغرافية إلى مستند يُظهر حيلة الضحية وانحرافها وتلاعبها وتحريضها على الفتنة.
صورة: رهف البطنيجي
إنهاء استعمار المشهد
إن هذه الأحداث تدفع بنا للتفكير أكثر في واقع الصورة الفلسطينية وبضرورة تدعيمها وترسيخ مضمونها وقصديتها والرسالة التي تحملها. أعتقد أننا بحاجة لإنهاء استعمار هذا المشهد المرئي برمته، بما في ذلك القصد المتضمن.
وأعتقد أن التحايل مساحة تمنحها الصورة، كونها تقدم دائما تأويلات لا حصر لها، ففي الوقت الذي قد يستخدم الاحتلال هذه المساحة من التحايل لطمس الحقائق، علينا أن نكون نحن أكثر ذكاء وحنكة. وفي الواقع النماذج المصورة التي ذكرتها سابقاً، والتي تظهر غزة كمكان مفعم بالحياة والحب والجمال، هي كذبة صادقة وحيلة واقعية ومواجهة مضادة مع المستعمِر.
هل نحن نحب الحياة بما يكفي لنكذب في الصور، ثم نسرد القصة الأصلية حول كذبتنا الصادقة؟
إن وجودنا كفلسطينيين في خانة الضعيف يمنحنا الحق في الخيال وتحرير الصورة والتنقيب التكتيكي عن القيمة الحقيقة التي يحاول المحتل سلبها منا. قد يؤدي هذا إلى تشويش مظهر الصورة وقيمتها الحقيقية، لكنه وسيلة فعالة لاسترجاعها، فكيف نمارس الكذب الصادق في الصورة ونحمي المعرفة الأصلية المتضمنة؟
نحن بحاجة لدعم الصورة المرئية بالتجربة الواعية ذات الصلة، حيث يصبح السرد المتصل بهذا التمثيل يجسّد في ذاته توثيق نابع من التجربة الإنسانية الحية، وموجهاً بالفعل باتجاه مضاد للادعاءات الأخرى المحتملة.
علينا أيضاً أن نتحاشى فكرة الصورة الواحدة للمشهد "المصنع الواحد" فالصور الكثيرة للمشهد المقصود تعزّز صورة المضمون القصدي الكامل، إذ تتكاثف هذه الصور في حوارها وتتزاحم عن نقاط تقاطع مختلفة تتلاقي فيها التجارب المصاحبة لها، وتجسد في ذاتها المعنى المتأصل المتفق عليه بالأغلبية، وهو غالباً المعنى الحر من آلة الاستعمار والهيمنة.
والمعنى المتأصل هو فعلياً لبّ الخطاب، ولا يمكن في الحقيقة الوصول إليه بدون البحث في خلفيته وتاريخه. يقول الدكتور شاكر عبد الحميد: "إن الصور لا يكون لها صدقها الوجودي مالم تستكشف خصائصها الأرشيفية والمجازية والافتراضية على نحو كامل".
إن هذا الصراع الطويل من المواجهة سيمتد من الصورة إلى الذاكرة البصرية ومنه إلى التاريخ، وبالتالي علينا أن نختار الصورة وما نتذكر وكيف سيُكتب هذا التاريخ. يقول محمود درويش: "الحب، كذبتنا الصادقة..."، فهل نحن نحب الحياة بما يكفي لنكذب في الصور، ثم نسرد القصة الأصلية حول كذبتنا الصادقة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون