شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
الصورة الفوتوغرافيّة... سُلطة مضادة أمام التاريخ والنكران

الصورة الفوتوغرافيّة... سُلطة مضادة أمام التاريخ والنكران

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 12 أكتوبر 201802:46 م

حين نكبر نتحوّل إلى صورنا ونتجوّل فيها. نكتشف ما لم يصلنا من زمن عيشنا الأول، ذاك الذي رُويَ على ألسنتهم وبشهاداتهم. روايات تلتصق بذكرياتهم هم؛ أهل وأقارب وجيران ومدرّسين. ونبقى نحن بعيدون (بعض الشيء) عن حقيقة ما كنا.

تُصبح الصورة وثيقتنا الأخيرة لنفهم ولنرى: أي طفل كُنا؟ نحاول، وربما بالملامح، استرجاع بعضًا من الذكريات. كأنها عمليّة ميكانيكيّة لنبش اللاوعي. لذلك يستخدم بعض المعالجين النفسيّين الصور الشخصيّة لزائري العيادات النفسيّة ليفتحوا من خلالهم، معهم، باب طفولاتهم. حتى تلك الصور التي ننفذ فيها ما طُلب منا؛ كالوقوف بجسم ثابت وبظهر مستقيم مع نظرة حادة وبثياب اختيرت لنا.

لكن كل هذا لا يمحو أثرًا جليلاً منا. نلتقي بطيف طفل نعرفه ونستعيد مراراته وضجيجه وقسمات حزنه. فالصورة نافذتنا إلى عالمٍ يحاولون كتمه وخلطه بذاكرتهم ويشوشون علينا ما احتفظنا به وتناسيناه مع التقادم. وتصبح عودتنا إلى الصور أشبه بما قالته الباحثة والمخرجة سوزان سونتاغ: "حين ينتابنا الحنين نطلق الصورة“. وإطلاق الصور كإطلاق الرصاص، أو لفتح الندوب.

الصور إذًا، في حقيقتها الشخصيّة إدانة للماضي ومحاسبته أو التمدد فيه واختزان حميميته ودفئه أو التعامل معه بنكران. وكثيرة هي الأغاني التي تحدثت عن تمزيق الصّور كفعل انتقام وتناسي بعد محاولات فراق أو حب عاصف أو زواج خاسر أو قطيعة. الصورة دليل محسوس يمسي الانتقام الوحيد منه قائمًا وشافيًا في بعض الأحيان، وهو شفاء. فرمي صورة أو تقطيعها إربًا في علم النفس، هو محاولة محوها من الذاكرة البصريّة ومعها محو أثر الذكرى وشخوصها.

الصور كمجتمعات مصغرة

لكن ما هي دلالات الصورة في الخطاب العامّ؟ وأي دور لها في عالم يبثّ ملايين الصور كل يوم، عبر الصحف والمواقع الإلكترونيّة ووكالات الأنباء ومنصات مواقع التواصل والتطبيقات الذكيّة والفضائيّات؟ وأي معنى لها في ظل "البروبغندا" والحروب والقمع والتكتيم والسريّة؟

لا بد من فهم البعد الأبستملوجي للصورة، كحيز خطير في عالم محكوم بها ومتكىء عليها في آن. الصورة إعلانيّة كانت أو حدثيّة أو توثيقيّة أو حتى مجرد سيلفيّات آنيّة متسارعة. صور الرئيس الميركي السابق باراك أوباما كمثال وصور رئيسة كرواتيا، وصور رئيس الوزراء الكندي. ولكل صورة دلالة ورموز، وعليه فهي تملك خطابًا سياسيًا مؤثرًا وتستلب الرأي العام وتوجهه. الصورة كمفهوم سياسي هي أقوى من الخطاب نفسه. الصورة كافية حتى لو كانت منقوصة أو محددة كي تملك صوتها وسلطتها وتأخذ شكل النفي أيضًا.

ولعل أبرز كتاب عن الصورة، كتبته ودونته الباحثة سونتاغ، في مخطوطها "حول الفوتوغراف" وهو بحث يتمايز بكونه يشرح فكرة التصوير وإنتاج الصور. ويتعامل مع بسيكولوجيّة هذا العالم البصريّ وتأثيراته وتأويلات حضوره. فالتصوير بالنسبة لها يمنح الناس الشعور بإمكانية استعياب العالم، خصوصًا أن الصور تعدّ مجتمعات مصغرة عن الواقع، ومن حق أي إنسان صنعها وامتلاكها. وقد تحمل خطابًا سياسيًا بارزًا. وصورة الطفل الكردي إيلان، مثال عن مآلات الصورة حيث أوجدت (ولو ّلبرهة من الزمن) صدمة في أوروبا التي يحارب اليمين فيها موجات اللجوء واللاجئين الهاربين عبر قوارب الموت.

تصبح عودتنا إلى الصور أشبه بما قالته الباحثة والمخرجة سوزان سونتاغ: "حين ينتابنا الحنين نطلق الصورة“. وإطلاق الصور كإطلاق الرصاص، أو لفتح الندوب.
كثيرة هي الأغاني التي تحدثت عن تمزيق الصّور كفعل انتقام وتناسي بعد محاولات فراق أو حب عاصف أو زواج خاسر أو قطيعة. الصورة دليل محسوس يمسي الانتقام الوحيد منه قائمًا وشافيًا في بعض الأحيان، وهو شفاء.
لصورة كمفهوم سياسي هي قوى من الخطاب نفسه. الصورة كافية حتى لو كانت منقوصة أو محددة كي تملك صوتها وسلطتها وتأخذ شكل النفي أيضًا.
لذا، لا بد من إعادة تأويل الصورة، كمرجعيّة سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة

أبد الصور ومعاكستها للتاريخ

تعرض سونتاغ في كتابها صورة أثرت في الرأي العام لطفلة فيتناميّة تركض عاريّة وهي تصرخ بيدين مفتوحتين للكاميرا، بعد أن أحرقت قذيفة نابالم أميركية الصنع جلدها وثيابها. الصورة هذه كمثال إدانة سياسيّة، تصبح صنيعة التاريخ وإعادة لتكوينه وترسيخًا لمفهوم الحرب. وربما الحروب الدائرة في شرقنا من اليمن وسوريا ومرورًا بالعراق وجنوب السودان وليبيا. فبعد سنوات طويلة، وإنّ حلّ السلام يومًا فيها، ستحدث مركزيّة اهتمام وبحث وستكون بمثابة تاريخ لن يموت. فتلك اللحظة التي عانى مراسلو الحروب في التقاطها وخسر كثر أرواحهم من أجلها، ستكون أبديّة. وهي صورة فوق أبد الديكتاتور والبوط العسكريّ، وفوق أبد الأيديولوجيا.

وهذا ما نراه جليًا اليوم في فعاليات جائزة "بايو - كلفادوس" التي تجري في مدينة "بايو" في النورماندي الفرنسيّة؛ معارض في الهواء الطلق عن العراق وهمجيّة الجيش الأميركي. معارض أخرى عن اليمن ووحشيّة القتل ويوميات اليمنيين تحت أشباح المرض والطائرات والقصف. عدا عن فيلم ومعرض صور الاغتصاب المذل لمقاتلي الجيش الليبيّ السابق في عهد القذافي، على يد الميليشيات الليبيّة والمرتزقة اليوم. إذًا هذه الجائزة تعد سلطة أمام النكران وآلات المنع في زمن الحروب. وأبطالها مصورون وصحافيّون آمنوا أن الصورة محاكمة للقتلة ولا تموت إلى حين.

ولا بدّ من استحضار ما قاله الفيلسوف الفرنسي، جيل دولوز، حول "مفهوميّة الصورة" في كتابه "السينما"، حيث يؤكد أن الصورة لا "تتشكّل من الناحيّة اللغويةّ"، بل "تُشكّل البعد الأوّل للسيميائيّة" (علم العلامات)، ومن هنا يمكن الخوض في الصورة كأثر مدلول وحسيّ مباشر وغير مباشر في المعطى الواقعيّ. وهي هنا، أي في تعاملها مع العلوم الأخرى، تحظى بواقع مؤثر، فهي خطاب ومخيف وأحد أوجه سلطات مضادة. ويستخدمها البوليس في الترهيب، وتُستخدم في المعارضة السياسيّة كأداة إدانة للنظام. فهي مفعول متحوّل وغير ثابت. لذا، لا بد من إعادة تأويل الصورة، كمرجعيّة سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة. ولا بدّ في نهاية هذا المقال من توجيه تحيّة إلى مراسلي الحروب الذين خاضوا الحدود والأنظمة والمخاوف كي يضعوا العالم على المحكّ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard