اللقاءات الجنسية معقّدة وتتطلب دراسةً وفهماً متأنّيَين، ففي حين أن عبارة "لا تعني لا" قد تم تبنّيها على نطاق واسع كمعيار مؤكد لرفض الانخراط في أي سلوك جنسي، إلا أن معنى "نعم" غالباً ما يكون أكثر غموضاً.
في الواقع، قد لا تعني كلمة "نعم" دائماً "نعم"، وهذه إشكالية مهمة تسلّط الضوء على ديناميات القوة والسلطة والموافقة المستنيرة في العلاقات الجنسية وكيف يمكن لذلك أن يعزز السلوكيات الضارة.
تجاوز المفهوم التبسيطي للموافقة
رأت الكاتبة الأميركية كريستين إمبا، أننا نحتاج إلى تجاوز المفهوم التبسيطي للموافقة، والتركيز بدلاً من ذلك على بناء علاقات قائمة على المصارحة والاحترام المتبادل والتفاهم.
فقد ورد في كتابها الذي حمل عنوان "إعادة التفكير في الجنس: استفزاز"، أنه في حين أن الموافقة ضرورية لأي لقاء جنسي، إلا أنها ليست سوى جانب واحد من العلاقة الجنسية الصحية، وشددت الكاتبة على أن العلاقة الجنسية الصحية تتطلب أكثر من مجرد الموافقة: الاحترام المتبادل ورعاية بعضنا البعض.
في حين أن عبارة "لا تعني لا" قد تم تبنّيها على نطاق واسع كمعيار مؤكد لرفض الانخراط في أي سلوك جنسي، إلا أن معنى "نعم" غالباً ما يكون أكثر غموضاً
والموافقة هي مجرد الخطوة الأولى في بناء علاقة قائمة على التواصل والثقة والتعاطف ويجب أن تتضمن العلاقة الجنسية الصحية التواصل الصادق، والاستعداد للاستماع إلى بعضنا البعض واحترام بعضنا البعض، والالتزام بالموافقة المستنيرة.
إليكم/ نّ نظرةً نقديةً على الطرق التي نتحدث بها عن الجنس الرضائي، بما في ذلك فهمنا لأدوار الجنسين وإعادة التفكير في معتقداتنا حول الجنس، وذلك من أجل إنشاء ثقافة جنسية أكثر شمولاً وتحقيقاً للرضا والرفاه الجنسي.
المنطقة الرمادية للرضا الجنسي
قد يبدو بسيطاً للوهلة الأولى الحديث عن الموافقة الجنسية، إلا أن هناك العديد من العوامل التي يمكن أن تجعل الأمر أكثر تعقيداً.
على سبيل المثال، التواجد تحت تأثير مادة ما، مثل الكحول أو المخدرات، والتي تسبب تغيرات في السلوك والإدراك والوعي اعتماداً على كمية المادة المستهلكة ونوعها، إذ عندما يكون أحد الشريكين أو أي منهما تحت تأثير المخدرات أو الكحول، فقد تتأثر قدرتهما على الموافقة المستنيرة.
هذا قد يجعل من الصعب تحديد ما إذا كان كلا الطرفين على استعداد تام للانخراط في سلوك جنسي أم لا، فحتى لو جاءت الموافقة من قبل الطرفين في ذلك الوقت، فقد لا يكونان في حالة ذهنية واضحة بما يكفي لفهم الآثار المترتبة على أفعالهما بشكل كامل.
دور ديناميكيات القوة والإكراه في التفاعلات الجنسية
يمكن أن تلعب ديناميات القوة والإكراه والذكورة السامة دوراً مهماً في التأثير على الأنشطة والتفاعلات الجنسية.
في بعض الحالات، قد يشعر أحد الشريكين بالضغط أو بأنه مجبر على المشاركة في نشاط جنسي، خاصةً عندما يتمتع أحدهما بسلطة أو بتأثير أكبر من الآخر. حينها يكون من الصعب على الشريك الأقل قوةً الموافقة الكاملة، وإن وافق من الناحية الفنية/ النظرية.
يمكن أن يظهر هذا بشكل واضح في المواقف التي يوجد فيها اختلال كبير في القوة بين الشركاء، كما هو الحال في العلاقات بين الدكتور/ ة والمريض/ ة مثلاً، أو المعلم/ ة والطالب/ ة، أو العلاقات الرومانسية بين زملاء العمل، حيث تكون ديناميكية القوة غير متكافئة بطبيعتها. ويمكن أن يكون هذا واضحاً أيضاً بشكل خاص في الحالات التي يتم فيها استخدام التهديدات أو القوة البدنية لإكراه الشريك/ ة الأقل قوةً على ممارسة الجنس.
قد يشعر أحد الشريكين بالضغط أو بأنه مجبر على المشاركة في نشاط جنسي، خاصةً عندما يتمتع أحدهما بسلطة أو بتأثير أكبر من الآخر. حينها يكون من الصعب على الشريك الأقل قوةً الموافقة الكاملة
في حديثه إلى رصيف22، قال الباحث في قضايا المدافعين/ ات عن حقوق الإنسان، محمود عبد الظاهر: "من الطبيعي أن تتفاوت موازين القوى بين الأشخاص الموجودين/ ات داخل بيئة العمل، سواء بسبب المواقع الوظيفية التي يشغلونها أو حتى بسبب النفوذ وهذا التفاوت في موازين القوة يفرض نفسه على أي شكل من أشكال العلاقات الحميمية التي قد تجمع بين شخصين يعملان معاً في مؤسسة واحدة".
وأضاف عبد الظاهر: "في كل مرة يكون التساؤل: هل الموافقة هنا هي موافقة نزيهة عن كل الضغوط؟"، كاشفاً أنه بغية الخروج من هذه المعضلة ولحماية الأطراف الأقل قوةً، يجب النص بشكل واضح على منع العلاقات الرضائية بين المديرين/ ات ومرؤوسيهم أو في الحالات المشابهة داخل بيئات العمل.
يمكن أن تؤثر الافتراضات والصور النمطية حول أدوار الجنسين أيضاً على التواصل والموافقة في اللقاءات الجنسية. قد يفترض بعض الناس أن الرجال دائماً هم من يريدون ممارسة الجنس وأن النساء دائماً هنّ الأكثر تردداً. وهذا قد يجعل من الصعب على بعض النساء التحدث وفرض حدودهنّ، بحيث قد يشعرن بالضغط للموافقة مع التوقعات المجتمعية لما يُعدّ سلوكاً "طبيعياً" أو "مقبولاً".
وبالمثل، قد يفترض بعض الناس أن النساء يرغبن دائماً في أن يكنّ مرغوبات أو ملاحقات من الرجال، بينما يتوقعون من الرجال أن يكونوا أكثر استماتةً أو حزماً في سعيهم إلى ممارسة الجنس.
في هذا الصدد، كشفت رانيا (اسم مستعار)، وهي طبيبة في العشرينات من عمرها، أنها كانت تشعر بضغط رهيب عندما كانت في علاقة عاطفية: "كانت لدي مشكلات مع أن يقوم شخص ما بلمسي، لكنني شعرت بأن هذه قد تكون الطريقة الوحيدة لجعل شريكي يحبّني ويستمر في علاقته بي".
وأضافت لرصيف22: "لم أستطع قول لا خوفاً من الانفصال، لكن مع الوقت أدركت أن هذا الضغط المتواصل الذي يحدث داخل العلاقة يؤثر بالسلب على صحتي النفسية. وكان هذا أحد أسباب إنهاء العلاقة العاطفية".
وعليه، من المهم التعرف على هذه الافتراضات والصور النمطية وتحديها من أجل خلق حوار أكثر انفتاحاً وصدقاً حول الجنس والرضا. يمكن أن يساعد هذا في تمكين الأفراد من التحدث وفرض حدودهم، بغض النظر عن جنسهم أو توجههم الجنسي.
بالطبع من المحتمل أن يشعر الناس بالضغط أو الإكراه على الموافقة الجنسية على مستويات عدة، انطلاقاً من الخجل مثلاً من قول "لا" أو من باب إرضاء الطرف الآخر، ولو كان ذلك على حساب الرغبة الشخصية.
وعليه، من المهم تثقيف الفرد بكيفية التعرف على نفسه أولاً، ووعيه ذاته ومعرفة ما يريد وما لا يريد، بالإضافة إلى حملات توعية للنساء والفئات الأقل قوةً حول ضرورة عدم الخضوع للضغط أو الإكراه في العلاقات.
المفاهيم الخطأ الشائعة حول الرضا الجنسي
هناك العديد من المفاهيم الخطأ حول الرضا الجنسي يمكن أن تجعل اللقاءات الجنسية مربكةً للبعض.
-قد يفترض بعض الأشخاص أنه إذا ارتدى شخص ما ملابس جذابةً أو تحدث بطريقة ودودة، فإن ذلك علامة/ إشارة للمشاركة في نشاط جنسي. ولكن هذا ليس صحيحاً. أن يرتدي شخص ما بطريقة معيّنة أو يتصرف بطريقة ودودة، لا يعني أنه يوافق على النشاط الجنسي.
-هناك اعتقاد خطأ شائع وهو أنه إذا لم تُذكر "لا" صراحةً، فهذا يعني الموافقة على النشاط الجنسي، وهذا ليس صحيحاً أيضاً. هناك قاعدة "لا يُنسب إلى ساكت قول". فالموافقة تعني أكثر من مجرد عدم وجود "لا". إنها تعني قول "نعم" بفاعلية وحماسة للنشاط الجنسي.
"لم أستطع قول لا خوفاً من الانفصال، لكن مع الوقت أدركت أن هذا الضغط المتواصل الذي يحدث داخل العلاقة يؤثر بالسلب على صحتي النفسية"
-من المهم أيضاً إدراك أن الموافقة ليست حدثاً لمرة واحدة. موافقة شخص ما على فعل جنسي واحد لا تعني أنه يوافق تلقائياً على جميع الأنشطة الجنسية في المستقبل. في الواقع من المهم أن نتحقق بانتظام من الشريك/ ة خلال اللقاءات الجنسية للتأكد من أنه/ ا لا يزال متحمساً/ ةً ومرتاحاً/ ةً لما يحدث. يجب الاتفاق صراحةً على كل سلوك أو نشاط جنسي. حتى في الزواج، لا ينبغي للشخص أن يفترض أن لديه موافقةً على النشاط الجنسي. فالاغتصاب الزوجي خطير مثل أي اعتداء جنسي آخر.
ولتفادي ذلك يجب:
-التأكد من موافقة الطرف الآخر على أي فعل قبل البدء به: قبل الانخراط في أي نشاط جنسي، من المهم التأكد من استعداد الشخص الآخر للمشاركة ومن موافقته. الموافقة تعني أن كلا الطرفين على دراية كاملة بما سيحدث ووافقا عليه.
-الموافقة مرةً واحدةً لا تعني الموافقة المستقبلية: الموافقة ليست دائمةً، فأن يعطي شخص ما الموافقة في الماضي، لا يعني أنه يوافق عليها مرةً أخرى في المستقبل.
-الموافقة قابلة للتغير والتعديل في أي وقت: يمكن تغيير الموافقة أو سحبها في أي وقت قبل بدء النشاط الجنسي أو حتى في أثنائه.
القواعد الاجتماعية والثقافية
يمكن أن تؤثر الأعراف الاجتماعية والثقافية المختلفة والمتعددة باختلاف الأشخاص، على الطريقة التي ينظر بها الأفراد إلى الموافقة. على سبيل المثال، في بعض الثقافات، يمكن عدّ مناقشة الجنس أو الرغبات الجنسية من التابوهات/ المحرمات. هذا يمكن أن يجعل من الصعب على الأفراد توضيح حدودهم ورغباتهم لشركائهم، بحيث قد يشعرون بالضغط للتوافق مع التوقعات المجتمعية لما يُعدّ سلوكاً "مسموحاً به".
وبالمثل، قد تركز بعض الثقافات بشكل أكبر على الأدوار التقليدية للجنسين في النشاط الجنسي، بحيث تتوقع من الرجال أن يكونوا أكثر عدوانيةً أو نشاطاً في أثناء ممارسة الجنس، بينما تتوقع أن تكون المرأة أكثر عاطفيةً وخضوعاً، وهذا يمكن أن يخلق قوةً ديناميكيةً بحيث تشعر النساء بالإكراه أو الإرغام ليبقين كما يتوقع منهن المجتمع.
من المهم الإلمام والوعي بهذه المعايير الاجتماعية والثقافية وتحدّيها من أجل خلق حوار أكثر انفتاحاً وصدقاً حول الجنس والرضا، بغض النظر عن خلفية الشركاء الثقافية أو تربيتهم.
يجب الاتفاق صراحةً على كل سلوك أو نشاط جنسي. حتى في الزواج، لا ينبغي للشخص أن يفترض أن لديه موافقةً على النشاط الجنسي. فالاغتصاب الزوجي خطير مثل أي اعتداء جنسي آخر
في نهاية الأمر، نؤكد أن موافقة الفرد الطوعية على الانخراط في نشاط جنسي يتطلب التواصل الواضح والتفاهم المتبادل بين أطراف العلاقة. يجب منح الموافقة بحرّية، ولا يمكن الحصول عليها من خلال الإكراه أو التلاعب أو باستخدام القوة. تم اعتماد عبارة "لا تعني لا" على نطاق واسع للتأكيد على أهمية احترام قرار شخص ما بعدم الانخراط في نشاط جنسي، ولكن من المهم أن نفهم أن "نعم" قد لا تعني دائماً "نعم" في ظروف معيّنة.
باختصار، إن الموافقة هي قضية مهمة في تعزيز العلاقات الجنسية الصحية وتحسينها، وتسمح بأن تتم الممارسات الجنسية بشكل آمن ومسؤول ومن الضروري أن نستمر في إجراء محادثات مفتوحة وصادقة حول ما تعنيه وكيفية الحصول عليها؛ لأن ذلك يعزز الثقة الذاتية، الحرية والجنسية، وتكون العلاقات آمنةً وصحيةً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.