خلال رحلتها العلاجيّة التي اقتصرت على بضع جلساتٍ نفسيّةٍ فقط، خرجت "سارة" بنصيحةٍ ذهبيةٍ: يجب عليك أن تكوني أنانيّةً في تعاطيك مع الآخرين.
نعم، لقد طلبت منها المعالجة النفسيّة أن تتحلّى بجرعةٍ من الأنانية، كي تتمكّن من مساعدة نفسها على المضيّ قُدُمَاً في دروب الحياة، وبهدف وضعها على المسار الصحيح حاولت تدريبها على قول كلمة "لا"، والتي تغيب نوعاً ما من قاموس حياتها، ظنّاً منها أن التعبير عن الرفض يعني جرح الآخرين.
ليست "سارة" الوحيدة في هذا العالم المليء بالضوضاء التي تجد صعوبةً شديدةً في قول "لا"، فمعظمنا يقبل على مضضٍ بعض الدعوات والطلبات، خوفاً من التعرّض للنبذ أو إثارة غضب الطرف الآخر، فكم مرّة وافقنا على الذهاب لتناول العشاء أو لاحتساء الكحول مع أحدهم في حين أن التعب ينهك جسدنا؟ وكم مرّة رافقنا أحدهم إلى السوق، أو ذهبنا إلى سهرةٍ ما، في حين أن جلّ ما كنا نريده حينها، هو أخذ دوشٍ ساخنٍ والتقوقع في السرير؟
علاقات سيّئة، أعباء منزليّة، ضغوطات في العمل، التزامات لا فائدة منها سوى إضاعة الوقت.... كلّها أمور قد نغرق بها بسبب عجزنا عن قول "لا"، في حين أن هذه الكلمة البسيطة لا توفّر علينا الوقت والجهد فقط إنما قد تنقذ حياتنا.
صعوبة الرفض
عندما تسألون شخصاً ما عن حالته وأحواله، فإنه سيجيب في الغالب بأنه "مشغول"، أو قد يتمتم بعض الكلمات المبهمة، كالقول: "بخيرٍ لكنني مشغول"، أو "مشغول إلى حدّ الجنون"، وكأن كلمة "مشغول" أصبحت علامة الشرف ودليلاً على النجاح ونوعاً من التباهي، الذي يعني بأن الشخص المعني مهمّ ويكثر الطلب عليه.
غير أن الحقيقة ليست كذلك، إذ أن انشغاله الدائم يعني أنه على الأغلب لا يُحسن قول "لا" ولا يجيد الرفض.
فقد كشفت صحيفة الغارديان البريطانيّة في تقريرٍ أعدّته "كلوي برازريدغ"، المتخصّصة في العلاج بالتنويم الإيحائي، أن الكثيرين يكافحون ويجدون صعوبةً بالغةً في قول "لا"، خوفاً من النَبْذِ أو إثارة غضب الشخص الآخر، أو الخشية من ردِّ فعله عند الرفض، وغالباً ما يُغرس فينا السعي لإرضاء الآخرين منذ فترة الطفولة: "ربما ترعرعنا على فكرة أن نكون فتيةً وفتياتٍ جيِّدين، ويتمّ الإشادة بنا لكوننا نساعد أمهاتنا، أو ربما لم نحصل على اهتمامٍ كافٍ، ما جعلنا نسعى إلى الحصول عليه عن طريق إرضاء الآخرين، حتى ولو كان ذلك على حساب أنفسنا".
وعليه، اعتدنا في معظم الأحيان في حياتنا اليوميّة على قول "نعم" من أجل إرضاء الآخرين، لدرجة أننا أصبحنا نجهل رغباتنا واحتياجاتنا الخاصّة.
من هنا شدّدت "كلوي" على أنه في حال كنتم من الأشخاص الذين يعيشون حياةً مليئةً للغاية بطلبات الآخرين، لدرجة أنه لا يكون لديكم الوقت الكافي للقيام بما يهمّكم حقاً، أو أن صحّتكم العقليّة أصبحت في خطر، فاعلموا أن الوقت قد حان لإجراء تغييرٍ جذري في حياتكم.
إرضاء الناس القهري
إن الخطوة الأولى لقول كلمة "لا" تكون عن طريق الشعور بالغضب قليلاً تجاه كلّ ما بذلتموه من وقتٍ وجهدٍ ومال في قول "نعم"، على أمورٍ كنتم تريدون رفضها في الأساس.
كم عدد المرّات التي تناولتم فيها القهوة مع أشخاصٍ لم تكونوا ترغبون في تناول القهوة معهم؟ كم عدد حفلات الزفاف التي ذهبتم إليها، وكم ساعة قضيتم في اجتماعاتٍ مملّة ولم يكن لديكم سبب حقيقي للحضور؟
اعتدنا في معظم الأحيان في حياتنا اليوميّة على قول "نعم" من أجل إرضاء الآخرين، لدرجة أننا أصبحنا نجهل رغباتنا واحتياجاتنا الخاصّة
صحيح أنكم قد تقولون في قرارة نفسكم: "ما الخطأ في قول نعم وإبقاء الناس سعداء؟".
قد يكون من الصعب تقبّل ذلك، خاصّةً وأننا اعتدنا على ربط كلمة لا بالسلبيّة، ولكن ضعوا هذا في الحسبان: إرضاء الناس القهري يمكن أن يكون شكلاً من أشكال التلاعب.
لخّصت المؤلفة "بايرون كاتي" هذه النقطة بالقول: "إنها المغالطة الأكبر التي يمكنني بها التلاعب بك لكي تحبّني".
قوة الرفض
"لأن كلمة واحدة صغيرة يمكن أن تجلب الصحّة والوفرة والسعادة".
في حين أننا نقنع أنفسنا بأننا أشخاص محترمون لكوننا نُرضي الآخرين عن طريق قبول طلباتهم، إلا أن الأمور يمكن أن تسوء بشكلٍ غير متوقعٍ عندما لا تتمّ تلبية احتياجاتنا الخاصّة.
ففي كتابه The Power of No ، شرح المؤلف "جيمس التوشر" ما يحصل حين نوافق على أمرٍ لا نريده: "عندما تقول نعم لشيءٍ لا تريد القيام به، فإن النتيجة تكون التالية: سوف تكره ما تفعل، وتستاء من الشخص الذي طلبه منك، وتؤذي نفسك".
ومن أجل البدء باستعادة الوقت المهدور والرفاهية العقليّة، فإنه يجب الحرص على تلبية حاجاتنا والقيام بما نريده فعلاً، والإكثار من قول "لا" إن لزم الأمر، وبالتالي عوضاً عن قول "نعم" بشكلٍ تلقائي ومن دون تفكير، اعتادوا أن تسألوا أنفسكم السؤال التالي: "هل أنا موافق على ذلك من أجل نفسي؟
والتدرّب على الرفض يكون من خلال البدء بتعلّم قول "لا" على أشياء صغيرةٍ، مثل الامتناع عن تناول مشروبٍ قدّمه إليكم أحدهم، أو رفض إسداء معروفٍ ولو كان صغيرٍ لشخص لا تريدون مساعدته.
إن قول "لا" يسمح لكم بأن تقولوا "نعم" لكلِّ ما هو مهم بالنسبة إليكم، ويسمح لكم بأن تكونوا شخصاً أفضل في الحياة، لأن موافقتكم تكون نابعةً عن طيب خاطر، وليست ناجمةً عن استياءٍ أو خوف
والأهمّ هو أن تلاحظوا تأثير الموافقة والرفض على جسمكم، فالموافقة تشعركم بالارتياح، بينما الرفض يجعلكم تشعرون بالضيق.
أما في حال كنتم تشعرون بالفزع من قول لا لشخصٍ ما وجهاً لوجه، فكل ما يتعيّن عليكم فعله هو أن تمنحوا أنفسكم بعض الوقت، إذ توضّح "فانيسا فان إدواردز"، مؤسِّسة مختبر Science of Peopleلأبحاث السلوك البشري، هذه المسألة بالقول: "اطلبوا من الأشخاص إرسال رسالةٍ نصيّةٍ أو بريدٍ إلكتروني يتضمّن طلبهم، لتتمكّنوا من الردّ في وقتٍ لاحقٍ، فمن المنطقي تماماً أن تقولوا أنكم بحاجةٍ إلى التحقّق من جدولكم قبل الردّ...مما يتيح لكم التحقق بشأن ما تريدونه حقاً، والعثور على الكلمات المناسبة (أو الشجاعة) التي يمكنكم استخدامها للرفض".
وفي الختام، إذا شعرتم بأنكم تواجهون صعوبةً في الرفض، عندها تذكّروا ما قاله رجل الأعمال الملياردير "وارن بافيت": "يقول الناس الناجحون لا لكلِّ شيءٍ تقريباً".
إن قول "لا" يسمح لكم بأن تقولوا "نعم" لكلِّ ما هو مهم بالنسبة إليكم، ويسمح لكم بأن تكونوا شخصاً أفضل في الحياة، لأن موافقتكم تكون نابعةً عن طيب خاطر، وليست ناجمةً عن استياءٍ أو خوف، وهكذا يكون بوسعكم خلق مساحةٍ لما هو أكثر أهمية بالنسبة إليكم، بدلاً من الغرق في الانشغال.
باختصار إن كلمة لا" هي حقٌّ وليس امتياز، إذ يحقُّ لنا كبشرٍ أن نقول "لا" بكلِّ حريةٍ لأي شيءٍ يؤذينا، سواء كان ذلك جسديّاً أو نفسيّاً ويجعلنا أسرى قراراتنا، وهكذا تصبح كلمة "نعم" نافذتنا إلى الفرص في الحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...