"البازين"، هذا السر الهرمي الصغير، القبة التي تتوسط بحراً من النكهات، الجزيرة التي تتلاشى في البطون الجائعة، طبق يتربع في صدارة المطبخ الليبي، وهو أكثر الأطباق غرابة في نظر الغرباء.
غريب وفخم في آن واحد، مكوناته نظيفة وصحية ولذيذة، عمادها سنابل الشعير. وله مظهر لا يفتقر للترتيب والأناقة، لكن طريقة أكله هي ما يجعل البعض يتحاشاه، أو على الأقل، لا يشترك مع غريب في أكله. فهو يؤكل بالأصابع دون وسيط بين اليد والفم، كما يؤكل المنسف وأطباق الأرز المتنوعة لدى عرب آسيا. لكن البازين عصي على الالتهام المباشر. فهو قبة من العجين اليابس الناضج الذي يُعدّ بطرق مختلفة. يحتاج المرء أن يُعمِل فيه أصابعه حتى يمتزج مع الحساء ويلين ليكون جاهزاً للالتهام.
بين ما يقدم للعائلة وما يقدم للضيف
الدقيق الذي يصنع منه البازين قد يكون شعيراً يُطحَن ويُعجَن بالماء وشيء من الملح، ويُشكل أقراصاً ويُطهى في الماء الذي يغلي حتى ينضج، ثم يعجن من جديد وتُصنَع منه قبة تتوسط صحناً كبيراً وتحاط بالمرق واللحم الذي من شروطه لبازين الضيوف والمناسبات أن يكون كبيراً حتى يكاد يخفي قطعة البازين تحت وطأة العظام البارزة وكتل اللحم الناضجة تماماً.أما البازين الذي تعده سيدة المنزل لأسرتها فلا يخضع لهذه الشروط المرهقة مالياً، إذ يكفي أن تتشكل قبة العجين وتتوسط الصحن الكبير، ثم لا بأس إذا تقلصت كتل اللحم فدعمتها بعض القطع من البطاطا والبيض المسلوق.
يصنَع من العجين قبة تتوسط صحناً كبيراً وتحاط بالمرق واللحم الذي من شروطه لبازين الضيوف والمناسبات أن يكون كبيراً حتى يكاد يخفي قطعة البازين تحت وطأة العظام البارزة وكتل اللحم الناضجة تماماً.
في بعض المناطق يصنع البازين بطريقة أخرى تشبه إعداد الـ"اكلير" الحلوى الفرنسية الشهيرة والعصيدة أيضاً، فيوضع الماء والملح ليغلي قبل أن يوضع فيه مزيج من دقيق الشعير والفارينا أو الدقيق الأبيض، ثم يُحرك بسرعة حتى يمتزج، ويصنع عجيناً ناضجاً يوضع عليه المرق واللحم، وفي بعض مناطق ليبيا، يضاف لهذا العجين اللحم المجفف "القدّيد" والبطاطا والبيض المسلوق ويقدم في ما يُعرَف بـ"لَمّات النّفاس" أو في استقبال مولود جديد.
مدحه الشعراء ووصفه المؤرخون
تقول "الآنسة توللي"، وهي قريبة للقنصل الإنجليزي في طرابلس (1783_1793) ريتشارد توللي في مذكراتها التي نشرت أكثر من مرة في كتاب "عشرة أعوام في طرابلس": "لأجل أن تكرم سيدة البيت ضيف زوجها إكراماً مميزاً تضع أمامه صحناً من البازين من صنع يديها يُعدّ من الدقيق والماء".
وقد لخص الشيخ إبراهيم باكير مفتي طرابلس سنة 1906 كل شيء في أبيات قليلة هي لسان حال عشاق البازين في ليبيا لأن هناك من لا يأكله حتى من الليبيين:
خَيرُ الموائدِ عندنا البازينُ
واللحمُ حولهُ ناضجٌ وسمينُ
فاقطع بكفِّكَ قطعةً من أصلهِ
ثم ادلَكَنها جيدا فَتَلينُ
حتى إذا ما أُشبِعَت مَرَقا فَكُل
بالخَمسِ من يُمناكَ فهيَ تُعينُ
هذا هو الأكلُ اللذيذُ وإنهُ
ذو لذةٍ للآكِلينَ تَبينُ
تشتهر بعض مناطق ليبيا أكثر من غيرها في إعداد البازين والاعتماد عليه راعياً للمناسبات الاجتماعية والاحتفالات المختلفة مثل غريان وبني وليد، ومن تستطيع تحضير البازين لأسرتها يوم الجمعة من كل أسبوع لن تتردد في مشاركة نساء العائلة أو حتى نساء القرية في إعداد عشرات الأطباق منه تكفي المئات من المدعوين لأي عرس أو احتفال، فهو مع الكسكسي يشكل الثنائي الذي لا يغيب عن موائد الفرح، خاصة في غرب ليبيا، لأن الشرق الليبي يميل إلى الأرز يرافقه الكسكسي وبعض الأطباق الأخرى التي لا يختلف عليها ليبيَّان.فاطمة (55 عاماً) سيدة ليبية من قرية في مدينة غريان، تقول لرصيف22: "لا أتذكر عدد المرات التي طهوت فيها البازين وحدي لأسرتي أو مع النساء في أعراس القرية، وحتى اليوم أجهزه كل يوم جمعة إذا كانت الظروف المالية جيدة، بلحم الخروف وإن لم تكن كذلك فبلحم الدجاج أو حتى باللوسة والقدّيد".
والـ"لوسة" هي مزيج من الطماطم والفلفل والبصل والثوم وخثارة دقيق الشعير والماء، والقدّيد هو اللحم المجفف الذي يُجهّز عادة في عيد الأضحى ويستخدم على طول العام في أطباق معينة.
كيف نخبر الجدات اللواتي قضين أعمارهن في حصد القمح والشعير، وطحنه بالرحى، وفتل الحبات الصغيرة أن الكسكسي ليس ليبياً؟ هكذا تقول اليونسكوعندما نتحدث عن بعض الأطباق في شمال أفريقيا مثل الكسكسي الذي أخرجه تصنيف اليونيسكو من المطبخ الليبي، ونسبه لدول الجوار، ثمة سؤال يطرح نفسه وهو: كيف نخبر الجدات بهذا وماذا سنقول لهم وقد انقضت أعمارهن في حصد سنابل الشعير والقمح وطحنها بالرحى الثقيلة العنيدة في عملية تتولاها السواعد الفتية والكفوف الغضة التي تفتل حبات الكسكسي بأعداد كبيرة تكفي الجميع.
لماذا لم يرتبط الكسكسي بليبيا مثل البازين؟
وائل حسونة (40 سنة) وهو لبناني عاش طفولته وشبابه في ليبيا وعاد إلى بيروت بعد تخرجه، يقول لرصيف22: "لم يحقق الأكل الليبي الشهرة التي حققها نظيره التونسي والمصري مثلاً، هذا يعود لسببين هما الإعلام أولاً، وطبيعة البلد ثانياً، فالإعلام يلعب دوراً مهماً في هذا الجانب، إن تونس أو مصر أو حتى إيطاليا هي دول سياحية بالدرجة الأولى، أما ليبيا بتاريخها الحديث ورغم امتلاكها لمقومات سياحية كاسحة لم تأخذ هذا الطابع السياحي حتى الآن".ويشير إلى سياحة الطعام ودور الإعلام الذي جعلنا نعتقد أن البيتزا إيطالية والباستا إيطالية رغم وجود مخطوطات تاريخية تؤكد وجود وصفات مختلفة لها في اليابان وفي الصين، وإلى أن الإعلام كرس البرغر رمزاً للثقافة الأميركية رغم أن التاريخ يؤكد ارتباط فكرة البرغر بالاحتلال المغولي للشرق كطعام سهل الحمل والتناول بالنسبة لجنود منشغلين بالغزو والحروب، ومن هناك انتقل إلى ألمانيا، فالإعلام القوي هو الفيصل. فالصين مثلا لن تستطيع اليوم إقناعنا أن الباستا صنعت لأول مرة بأيدي أبنائها.
ويضيف: "سبب آخر لشهرة أي طعام هو طبيعة البلد وأعني بها أن المجتمع الليبي بطبعه لا يميل للهجرة أو ليس مجتمع رحّال، فعندما نتكلم مثلا، عن المطبخ اللبناني والتبولة والكبة واللبنة وغيرها فهناك من يأتي من أميركا وأوروبا من أجلها لأن اللبنانيين منذ زمن بعيد يهاجرون ويرتحلون آخذين معهم ثقافتهم وطعامهم. أما الليبيون فتبادلهم الثقافي مع الآخر أقل بكثير".
قلة السياحة الخارجية إلى ليبيا، وعدم ميل أهلها للهجرة، لم يساهما في ترويج المطبخ الليبي، يضاف أن الإعلام لم يروجه له كما روّج المطابخ العربية الأخرى كالمصرية واللبنانية والتونسيةوعن الطعام الليبي وتجربة حسونة معه يقول: "كنت أسمع من صديقة اسكتلندية بالهاجيس أو هاغيس الذي هو حرفياً "العُصبَان" الليبي، وهذا هو طبقي المفضل على الإطلاق، عائلتي أمي وأبي وإخوتي لا زالوا في ليبيا وفي زيارتي الأخيرة لهم قبل شهور طلبت منهم فقط الأكل الليبي الذي أشتاقه، وأمي بارعة جداً في إعداده، أما البازين فأحبه جداً رغم أن بيتنا تأثر بأفضلية أطباق أخرى على البازين كمقيمين في الشرق الليبي، وأغلب اللبنانيين الذين زاروا ليبيا أشادوا بالأكل الليبي، سمعت مؤخراً مقابلة مع مدرب كرة السلة إلياس سركيس يشيد به. والحاجز الوحيد بين المعدة اللبنانية وهذا الطعام اللذيذ هو فقط "الحار" أو البهارات الحارة والفلفل التي تميز الأطباق الليبية".
بعض من جربوا الأطباق الليبية أخذوها إلى بلادهم. تقول لطيفة (58 عاماً) لرصيف22: "قبل سفرها علّمت جارتي العراقية طريقة الكسكسي بالتفصيل لأن أسرتها تحب هذا الطبق، وهي تريد أن تعده عندما يغادرون ليبيا ويبتعدون عن أصدقائهم من العائلات الليبية التي كانت ترسل لهم الأطباق الليبية بشكل دائم ومنها البازين، وكانوا يأكلونه بالملعقة".
طقوس أكل البازين
مثل أي طبق مهم، للبازين طقوس خاصة في أكله وتقديمه خاصة مع حساسية الأمر بوجود الأيدي المختلفة داخل طبق واحد. فصحن البازين عادة يُجَهّز ليكفي أربعة أشخاص فقط، ربما لتكون الاتجاهات متقابلة ويتمتع كل منهم ببعض الخصوصية، أيضاً فإن لعق الأصابع مرفوض بشدة ويجب أن يتناول كل آكل قطعة اللحم القريبة منه دون غيرها مهما كان حجمها، ويسبق تقديم البازين وضع صحن خاص لغسل الأيدي جيداً قبل البدء في الأكل. ويوضع الحساء في إناء خاص يُسكَب منه على صحن البازين فور الانتهاء من أكل قطع اللحم، يُصنَع عادة من الفخار أو الخزف المحلي، وهو عبارة عن قدر منفوخة بأذنين صغيرتين للإمساك به وفتحة لسكب الحساء أو الإدام أو الطبيخة حسب تسمية سكان المكان أو المدينة.لأنه يؤكل باليد فلعق الأصابع مرفوض بشدة، ويجب أن يتناول كل شخص قطعة اللحم القريبة، ويسبق تقديم البازين وضع صحن خاص لغسل الأيدي قبل البدء
في مدينة غريان التي تشتهر بهذه الأكلة تشتهر أيضاً بتقديمها في أوانٍ وصحون تصنع في المدينة خصيصاً لتقديم هذا الطبق الذي لا يغيب عن بيوت المدينة بمناسبة أو بدونها.
تاريخياً تعددت الروايات عن أصل البازين وتسميته، هناك من قال إنه طعام روماني في الأصل، والبازين تعني الشكل المخروطي باللغة الليبية، يؤيد هذا الطرح ما جاء في رواية "ماريش في الزمن الغابر" ليوسف إبراهيم، والتي قال عنها الناقد عبدالحفيظ العابد تحت عنوان "أسطرة البازيل":
"البازين لا يحقق إشباعاً كاملاً، لكنه تعويض أكثر حسية وحيوية عن صرح البازيل المنهار، بل هو تعويض عن البازيل الأول المتمثل في ثدي الأم، لأنه يتيح من جديد اختبار الجمع بين الغذاء والنشاط الجنسي ولو على نحو جزئي ورمزي".
خرجت البيتزا من إيطاليا، والسوشي من اليابان، والطاجين من المغرب، وغيرها من الأطباق الشهيرة التي تربطها الأذهان دائماً ببلد أو مدينة دون غيرها.
في ليبيا، لم تُعرف الأطباق الرئيسة والشهيرة في البلاد طريقها إلى أذواق غير الليبيين بما يكفي ربما، رغم عشق بعض المقيمين في ليبيا للطعام المحلي وحرصهم على تحضيره وتناوله بشكل دائم. ولمطبخ ليبيا مثل أي بلاد في العالم خصوصية، وهذا ما يجعل الحنين يستعر عندما يتعلق الأمر بما تضعه الأيادي في الأفواه من زاد.
بعيداً عن "الكسكسي" الذي يُعدّ في ليبيا بطريقة مختلفة عن مثيلاتها في تونس والمغرب والجزائر، والذي يعلم الليبيون وحدهم أن منح اليونيسكو صك ملكيته التاريخية لدول الجوار لن يجردهم من حقهم الأصيل في امتلاكه رفيقاً لأوقاتهم في الحزن والفرح.
وهنالك أيضاً "العُصبان" الذي يعتبره بعضهم الطبق الألذ على الإطلاق و"المبطّن" و"المبكبكة" التي لم تسلم أيضاً من محاولات تجريد الليبيين من ملكيتها بإعادة تسميتها "المعكرونة السريعة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Zain Array almansor -
منذ 4 ساعاتاسطورة ابادة جيش قمبيز
مستخدم مجهول -
منذ يومربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ يومحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.