شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"حوش الحفر"...منازل مذهلة تمتلكها عائلات ليبية في حفر الجبال

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

السبت 18 فبراير 202301:33 م

في "غريان" المدينة الليبية الغافية على قمم جبل "نَفُوسة"، الجبل الغربي في ليبيا المقابل للجبل الأخضر في شرقها، تجتمع كل متناقضات الشتاء والصيف، الأول ببرده الشديد الذي يغرز مخالبه الحادة في الأجساد، والأخير بحرارته التي لا تنطفئ إذا ما أشعلتها الشمس الحارقة. في هذا المكان تحديداً يجب أن تصنع لنفسك هدنة مع الطبيعة تعيش في ظلها.

في هكذا جغرافيا يكون جوف الأرض ملاذاً يمنح الدفء من سطح الأرض الخاضع لسطوة الشمس والريح، هذا هو السر الذي فك طلاسمه الإنسان الأول بلجوئه للكهوف والمغارات، ولم ينته عنده بل امتد حتى اليوم على أرض الطين والزعفران "غريان".

الحوش... منازل الجبال 

"حوش الحَفر" أو "الداموس" كما يسمى في بعض مدن وبلدات الجبل الغربي هو بيت مختلف عن النمط التقليدي للبيت رغم تكريسه لفكرة الأمان والاستقرار التي يوفرها البيت الذي نعرفه، يقول عبدالحفيظ العابد في روايته "ماءان": "ديار الحفر الدافئة التي تشبه الأعشاش تجعل العاصفة في الخارج أكثر متعة، ديار الحفر تلك التي تشبه الأرحام مليئة بأسرارها وحكاياها التي ترويها الجدات لأحفادهن بينما تعد الأمهات السفنز الساخن والبسيسة... ثمة حميمية في دار الحفر تلك ليس في وسع البيت المعاصر المشاد من البلاط أن يهبها، حميمية دائمة لكنها تبلغ ذروتها في الشتاء عندما تتلاصق الأجساد والأنفس طلباً للدفء".
هذا الحوش هو حفرة كبيرة عامودية يتراوح عمقها بين سبعة وعشرة أمتار يكون وسطها مواجهاً لصفحة السماء، فيما تمتد أذرع غرفه بشكل أفقي من وسط الحوش إلى الداخل بضعة أمتار حسب وظيفة كل غرفة.

الغرف قد تصل إلى سبع أو تزيد، منها المطبخ الصغير الذي تستعمله كل العائلات المقيمة في الحوش، والغرف الرئيسة حيث تعتبر كل عائلة غرفتها بيتاً قائماً بذاته يعيش فيه الأب والأم وينجبان أطفالهما ويتمتعان بالخصوصية المطلقة في عالمهما "المحراب" الذي يرتفع حوالى المتر ونصف المتر عن أرضية الغرفة، حيث يفصل ستار من القماش بين المحراب وبقية الغرفة.

"حوش الحَفر" أو "الداموس" كما يسمى في بعض مدن الجبل الغربي هو بيت على شكل حفرة كبيرة عامودية يكون مواجهاً لصفحة السماء وتتوزع منه غرف تمتلكها عائلات مختلفة

السقيفة والأبواب

"السقيفة" هي الممر الرابط بين حواف هذه الحفرة العظيمة وبين وسط الحوش، ويحيط بهذه الحواف ساتر ترابي صغير يسمى "الوني" يحمي الحوش من المطر الغزير، أما ما يصل من الماء إلى أرض الحوش فيتجمع في "الحفير" وسط الحوش، في حفرة أفقية ترتفع قليلاً عن أبواب الغرف حيث يوجد "المطمور" الذي تخزن فيه العائلات الحبوب. وفي جدران الغرف تحفر عدة أشكال أفقية تعمل عمل الرفوف التي توضع فيها لوازم البيت المختلفة.  
الأبواب في الغرف تعتمد على جذوع النخل وأغصان الزيتون، تجمع بينها المسامير الخشبية الطرية التي تقتطع من جذوع أشجار الزيتون 

أما الأبواب المختلفة في هذا الحوش وغرفه فتعتمد على جذوع النخل وأغصان الزيتون تجمع بينها المسامير الخشبية الطرية التي تقتطع من جذوع أشجار الزيتون، جاء في مقدمة كتاب "التراث الحضاري في المدينة العربية المعاصرة" للدكتور المهندس عبد الباقي إبراهيم: "لكل مكان وزمان في العالم خصائصه المميزة التي تظهر على إنتاج الإنسان، والعمارة باعتبارها نتاج إنساني له العديد من الأبعاد التي من الممكن أن تعبر عن الإنسان والمكان والزمان في نفس الوقت" وحسب الكتاب أيضا فإن من العوامل المؤثرة على الخصائص التصميمية للبيت:

البدايات تفسر كل شيء 

عندما نشاهد هذه التحفة المعمارية الثمينة في غريان والمناطق القريبة منها جغرافياً وجيولوجياً فقط نخمن السبب، سنعود أولاً إلى أصل هذا الاسم "غريان" الذي يقول عدد من العلماء والمؤرخين إنه يرجع إلى قبيلة أمازيغية عاشت قديماً في المدينة ويستندون في روايتهم هذه إلى حقيقة وجود الكثير من الأسماء الأمازيغية لمناطق عدة في المدينة حتى اليوم، منها "تغسّات" مركز المدينة.
أيضاً هناك رواية قوية أخرى لأصل التسمية تقول إن غريان هي في الأصل "غريال" أي أرض الطين في إحدى اللغات القديمة للبربر، وبمرور الزمن حُرّف لفظ غريال إلى غريان التي أثبتت الدراسات الجيولوجية أنها عبارة عن أرض جبلية طينية مناسبة جداً لحفر هذه البيوت وضمان بقائها في وجه عوامل الطقس المختلفة.
في حزيران/ يوليو 2022 أدرجت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة "إيسيسكو" حوش الحفر في غريان على قائمة التراث في الدول الإسلامية ضمن 22 موقعا ليبياً آخر، وتهدف المنظمة إلى حماية هذه المواقع الأثرية التي يعكس وجودها على هذه القائمة أهميتها ودورها العظيم.

هل حوش الحفر "تراث إسلامي"؟

لكن السؤال هو كيف يوضع حوش الحفر مع قائمة طويلة من المواقع الليبية معظمها جوامع ودور عبادة؟ باستثناء "قصر الحاج" في الجبل الغربي وقوس ماركوس أوريليوس في العاصمة طرابلس فإن القائمة تضم جامع أحمد باشا وجامع درغوث وجامع قرجي وجامع الناقة وجامع أبو معروف وبضعة أسماء أخرى، فهل حوش الحفر يندرج تحت بند دور العبادة في الجبل أم أنه كان أكثر من ذلك؟
في مقابلة لوكالة الصحافة الفرنسية نشرت في أبريل/نيسان 2022 قال الباحث التاريخي الليبي يوسف الختالي عن استعمالات حوش الحفر: "لها أربعة استخدامات، بالتالي صممت لتكون متعددة المهام وصالحة لكل الحقب التاريخية المتعاقبة، وهو سبب إضافي يدل على أهميتها المعمارية في التاريخ الليبي. وأول استخداماتها للسكن البشري، والثاني مصمم للعبادة، إذ توجد دياميس في مدن الجبل حفرت كمعابد يهودية ومسيحية قبل تحويل معظمها إلى مساجد للمسلمين، أما الاستخدام الثالث فعسكري بامتياز، والرابع كان لدفن الموتى، وهناك شواهد أثرية تعود للحكم الفينيقي في ليبيا حين كانت تستخدم كمقابر".
هذا يعني أن هذه البيوت سبقت الإسلام إلى هذه الأرض. وكما عاش فيها ليبيون مسلمون يوماً وأقاموا صلواتهم وشعائرهم، فإن هذا لا يعني أنها لم تكن غير ذلك، والوجود على قوائم الإيسيسكو لا ينفي أي حقيقة تاريخية، فقوس ماركوس أوريليوس لا علاقة له بكل هذا إذا ما أردنا الجمع أو المنع.
"السقيفة" هي الممر الرابط بين حواف هذه الحفرة العظيمة وبين وسط الحوش، ويحيط بهذه الحواف ساتر ترابي صغير يسمى "الوني" يحمي الحوش من المطر الغزير

في التخريط الجيولوجي لمنطقة غريان الذي أجراه الباحث أبو بكر ارحومة سلطان من كلية العلوم "سبها" سنة 2017 يقول الباحث: "يعتبر جبل نفوسة من أهم الظواهر الجيولوجية في شمال غربي ليبيا، يراوح ارتفاعه ما بين 200 متراً و900 متراً ويتكون من تتابعات من صخور جيرية ودلوماتية ورملية وصخور مع وجود تداخلات لصخور نارية من البازلت واللافونولايت. من الناحية التكتونية يعتقد بأن الجبل تأثر بالحركة الهرسينسة في الماضي السحيق وحركات أخرى في الجوراسي والكريتاسي، وقد كانت هذه الحركات سبباً في نشوء معظم التراكيب الجيولوجية في الجبل مثل الصدوع والفواصل والطيات الصغيرة والقباب وأسطح عدم التوافق".
إن هذه العبارات تضم مفردات جيولوجية بحتة قد لا نفهمها لكن إيمان أستاذة الجيولوجيا في جامعة غريان إيمان المهدي سهّلت الأمر، تقول لرصيف22: "بدأ النشاط الناري في غريان منذ حوالى 65 مليون سنة مضت، فتكونت ما يسمى بقباب غريان". القباب هنا كما أخبرتنا إيمان هي مصطلح جيولوجي وعدد هذه القباب ثلاث تتوج رأس غريان. 

رواية يهود ليبيا 

يستهل المؤرخ "موريس روماني" المولود في بنغازي كتابه "يهود ليبيا/ من التعايش إلى الرحيل" بسرد لتاريخ اليهود القديم في ليبيا. وبحسبه تعود موجات الهجرة إلى أمد بعيد، منذ نزول الفينيقيين في المنطقة ثم "السبي اليهودي" سنة 586 ق.م. كما يورد الكتاب وثائق تتحدث عن تحول مدينة "برقة" إلى منفى لليهود مع "تيطس" الروماني خلال سنة 71 م، وهو ما نجد له صدى في مدونات المؤرخ "فلافيوس جوزيف".
وبحسب الكتاب الصادر في 2017 "لم يشكل الفتح الإسلامي لليبيا في فترة لاحقة تهديداً لتلك الديانة، وعلى العكس لقيت في أحضانه الأمان بوصفها ملة من ملل أهل الكتاب".
أدرجت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة "حوش الحفر" في غريان على قائمة التراث في الدول الإسلامية رغم أنه يعود إلى ما قبل الإسلام 

الحقائق الجغرافية تقول إن طبيعة غريان الجيولوجية قابلة منذ زمن بعيد لحفر هذه البيوت، والمؤرخون يقولون إن حوش الحفر اكتسب طابعه الديني الإسلامي لاحقاً بعدما سكنه اليهود الذين كانوا يعيشون في الجبل، وبعد أن كان سكناً وملاذاً لكل سكان الجبل مهما كانت دياناتهم وانتماءاتهم العرقية، فهو جامع ضم كل شيء وسط أركانه الطينية، لكن ربطه بدين معين أو حقبة تاريخية معينة، هو خدش لعراقة هذه الأرض الموغل تاريخها في القدم.
منذ أن خرج الفينيقيون من سواحل لبنان انتشروا في رحاب الأرض واستقر بعضهم في البلاد المجاورة لقرطاجة، وولدت "أويا" و"لبدة" و"صبراتة" في القرن السادس قبل الميلاد، منذ أن كانت عشتروت تُعبد في هذه المدن الثلاث، هذا ما قاله المؤرخون فلماذا نسجن التاريخ ونقيده بقوائم تربطه بزمن واحد؟
ليبيا بلاد يشكل الإسلام فيها الدين الأوحد للسكان رسمياً حسب خانة "الديانة" التي لا يكاد يخلو منها أي مستند رسمي، نعم هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها، والآثار الإسلامية تملأ البلاد لكن ضم "حوش الحفر" بالمطلق إلى هذه الآثار لا يبدو منطقياً إلا إذا كان المقصود هو حوش الحفر الذي احتُفِل به بقائمة الإيسيسكو، فهنا يبدو الأمر منطقياً وعمر هذا الحوش حسب مالكيه لا يتجاوز 355 عاماً. 

منازل مترفة 

حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي كان حوش الحفر المنزل الوحيد الذي تملكه وتعيش فيه بعض العائلات في غريان، اليوم أصبح ترفاً بطعم الحنين بعد أن عادت الحياة إلى بعض بيوت الحفر المهجورة. الحنين قادر على جعل المطر النازل قطرات من أسقف الصفيح المتهالكة شيئاً من الموسيقى، وهو قادر على تمييز رائحة التراب المبلول بعد أن تكنسه أم بحزمة من نبات الشيح ثم تختم طقوس النظافة بجمرة من التنور تضع عليها بعض البخور، والحنين قادر على إعادتنا إلى هناك في كل مرة يجبرنا انقطاع الكهرباء على قضاء القيلولة في هذا المكان العجيب، حيث يمكنك النوم فيه شتاء دون غطاء ولو كانت درجة الحرارة في الخارج تحت الصفر، وفي الصيف يجب أن تستعمل غطاء داخله حتى إذا كانت الحرارة في الخارج تتجاوز الأربعين درجة مئوية. بالنسبة لي لا تزال أوقاتي فيه تداعب الذاكرة كطيف جميل من زمن الطفولة ولا أزال حتى اليوم أقتنص بضع ساعات فيه رفقة جدي الذي لا يكاد يغادره عندما تجن شمس الصيف.

الحياة في أي بقعة من العالم ستكون مرسومة بدقة بيد الجغرافيا والموقع والطقس وكل الظروف المحيطة بالمكان، فهذا الأخير يؤثثه عبث الطبيعة بمكوناته وأثرها على ساكنيه الذين يتماهون مع كل ذلك ويعيشون حسب قوانينها الصارمة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard