"فرحة لم تكتمل"، هكذا علّق الكاتب السياسي أنور الهواري، على ما حصل لكتابيه الأخيرين "ترويض الاستبداد" و"الديكتاتورية الجديدة". فبعدما كانا موجودين في معرض القاهرة للكتاب بنسخته الـ 54، صدر قرار بمنعهما.
عبّر الهواري في منشور على فيسبوك عن فرحته بعرض الكتابين في البداية، معتبراً ذلك مؤشراً طيباً على قَدْر من التسامح تبديه السلطة الحاكمة تجاه الرأي المختلف، كون الكتابين يحملان نقداً صريحاً للسلطة، إلا أن فرحته لم تكتمل.
أُنزل الكتابان عن الرفوف بقرار غير معلومة جهته ولا سند له من القانون، فانتقلت الكتب من الرفوف المفتوحة إلى الكراتين المغلقة.
أُنزل الكتابان عن الرفوف بقرار غير معلومة جهته ولا سند له من القانون، فانتقلت الكتب من الرفوف المفتوحة إلى الكراتين المغلقة.
تظل أهمية الكتاب أنه صدر تحديداً في العصر الذي شهد حملة أعنف على الحريات، حيث بنى الهواري كتابه على يقين، يبدو في أوقات كثيرة هو البداهة عينها، لكن من كثرة ما تشوّشت تلك البداهة وشكّكنا فيها، تحتاج إلى من يصرخ بها واضحة مجلجلة، لكنها صرخة محمولة فوق صوت العقل، وهذا اليقين "أن المنطقة العربية – وفي قلبها مصر- كانت ومازالت تسعى بالوعي وبالغريزة نحو الحرية بكل تجلياتها"، وهي وإن سعت في القرن التاسع عشر للتحرر من الدولة العثمانية، وفي القرن العشرين من الاستعمار الأوروبي، فإن القرن الواحد والعشرين كان بامتياز قرن التحرّر من الديكتاتوريات الوطنية، أياً كان الثوب الذي ترتديه: جمهورية أو وراثية، علمانية أو دينية، مدنية أو عسكرية.
أهمية الكتاب أيضاً تأتي من أنه، ورغم كل شيء وفي ظل الظروف العصيبة، صادر عن دار نشر مصرية "روافد"، كأن مصر والوطن العربي لن يعدما، مهما كانت الظروف، أن يدرك المثقف مسؤوليته في إنتاج المعرفة، فيصوّب سهامه بوضوحه لنقد تجربة دولة يونيو 2013، بعد مضي عقد كامل على قيامها، لذا فهو برأيي كتاب شجاع، إذ لا يتوسّل في التاريخ، ولا يختبئ خلف قناع الماضي، وما عودته أحياناً إلى التاريخ إلا ليوضّح الجذور والخلل. هذا الكتاب لا يتوارى في أحكامه حتى خلف الكلمات نفسها: التجربة فشلت لأنها اتخذت المسارات الخطأ.
"فرحة لم تكتمل"، هكذا علّق الكاتب السياسي أنور الهواري، على ما حصل لكتابيه الأخيرين "ترويض الاستبداد" و"الديكتاتورية الجديدة". فبعدما كانا موجودين في معرض القاهرة للكتاب، صدر قرار بمنعهما
يضع الهواري يده على مكمن الخلل في رؤية العسكريين لأنفسهم عندما يصلون إلى الحكم، وهو أمر متكرّر في المرتين، عند تأسيس دولة يوليو 1952، وكذلك في يونيو 2013، إذ يعتبرون أنفسهم "أصحاب رسالة أخلاقية، وليسوا أصحاب مطامع سياسية"، وهو ما تنكره الوقائع بعد ذلك، إلا أن رؤيتهم لذلك التصوّر تشوّشت بعد ذلك بكاملها، فطالما اعتبروا تحركهم هو مهمة إنقاذ وطني، بناء على استدعاء قطاعات من الشعب، أو ترحيب قطاعات منه، أو عدم ممانعة قطاعات أخرى، ومن ثم فإن أول ما يظنون أنه حق لهم هو واجب الطاعة المطلقة، ويطلبون منا في المقابل" أن نخلد إلى الهدوء والسكينة"، بحسب تعبير بيان اللواء محمد نجيب بعد ثورة يوليو، وأن " ننتظر التوجيهات"، وأن نتضافر معهم عبر التوحّد مع رؤاهم، أي أن "نخرس"، وهو الطلب عينه الذي كرّرته دولة يوليو 2013، بوضوح أكثر فجاجة من خلال خطابات الرئيس.
لذا فإن أول ما يعمد إليه النظام العسكري هو "قصقصة" الكلام، إذ لا يعود مطلوباً صوت سوى صوته، فتقمع الحريات في المجالات كلها التي ينتج فيها الكلام، أي المعرفة.
تستوقف الهواري تلك المفارقة أن دساتير مصر طالما كفلت الحريات نصّاً، لكنها بطريقة عجيبة يتم إخضاعها لتكريس سلطة الحاكم الفرد. يلتفت الهواري لهذا التناقض، إذ ينص الدستور على "حق الكرامة والحياة الآمنة والحرية والشخصية والإبداعية" حتى في دستور 2014، ورغم تعديل نصوصه، ينصّ على تلك المواد صراحة، ورغم ذلك تظل الهوة كبيرة بين الدستور والواقع، الدستور ينص على كوننا مواطنين في دولة، بينما الواقع يكرّس حقيقة أخرى: أننا أفراد عاجزون، غير مكتملي الأهلية، داخل مجتمع خاضع لسلطة غاضبة، لا تخفي غضبها مهما حاولت كتمانه.
يقدم الهواري 25 يناير كمرتكز لرؤيته، إذ يراها رغم فشل أهدافها، نقطة الحقيقة التي كان يجب أن تضيء الطريق للسلطة، لكنها تحولت بالنسبة إليهم إلى النقطة المخيفة والمظلمة، في وعي حكام يونيو و2013.
لذا فهو برأيي كتاب شجاع، إذ لا يتوسّل في التاريخ، ولا يختبئ خلف قناع الماضي، وما عودته أحياناً إلى التاريخ إلا ليوضّح الجذور والخلل
يرى الهواري أن الدولة الحالية، هي أول سلطة في تاريخ مصر – قديمة وحديثة- ترى المصريين من هذه الزاوية الفريدة وغير المسبوقة في التاريخ: "شعب حي يقظ، حاضر، هادر، متحضر، واع، ينزل إلى الميادين والشوارع، ويرفع صوته ويملي إرادته، ويذكر كل من له عقل، أنه شعب مالك لعموم البلد، وليس ضيفاً فيها أو طارئاً عليها، ولا عابر سبيل، ولا مقيماً على نفقة الدولة، بل إن الدولة وما فيها ملك له، وهي من تعيش على نفقته"، وإن كانت 25 يناير تفتقر إلى التخطيط والرؤية والقيادة، فقد كان ذلك "ضدها كثورة، ولكن معها كحقيقة شعبية".
تلك السلطة، وفقاً للكتاب ووفق ما أراه، تحاول إعادة إنتاج لحظات تاريخية قديمة، لكن في اللحظة الخطأ.
كان أمام الدولة خياران: الأول أن تعترف أن المجتمع المصري في مطلع القرن الواحد والعشرين، قد تغير كثيراً عن الشعب المصري في منتصف القرن العشرين، وأننا أمام مجتمع جديد، يقتضي تصويب مسار السلطة، ويغير رسم موازين القوة.
أما الخيار الثاني الذي اتخذته، هو اعتبار ما حدث في 25 يناير، "غفلة من الدولة لا يجب تكرارها، خطأ من الشعب لا يجوز السماح به".
وبدلاً من الانطلاق من النقطة التي انتهت إليها الإرادة الشعبية، قامت بالتعامي عن تلك الإرادة وقمعها، لكنها نسيت أنها لم تحل التناقض بين الشعب وسلطته، فظلت تحمل روح الدولة القديمة، لكن بطريقة أغلظ وأعنف.
تلك السلطة، وفقاً للكتاب ووفق ما أراه، تحاول إعادة إنتاج لحظات تاريخية قديمة، لكن في اللحظة الخطأ. إنها تعاند شيئاً أكبر منها هو المنطق، وتسير عكس منطق الزمن وضرورته، لذا لا نجاة لها إلا بحل هذا التناقض والقبول بما تسعى إليه الشعوب العربية، عبر "وعي" و" غريزة" يحركها تغير طبيعته، لأنها طبيعة الزمن نفسه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 17 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت