دائماً يفوز الأكثر تنظيماً، بغض النظر عن صدق نواياه. فالاستبداد المنظَّم ينتصر على الديمقراطية المفككة التي لا تملك خطةً.
يدور الجدل، كل عام، بين رفاق الميادين، حول أين تكمن المشكلة؟ هناك إجابة شائعة وسهلة ومباشرة، وهي أن المشكلة تكمن في أن الغاضبين تركوا الميادين يوم 12 شباط /فبراير، أي في اليوم التالي لتنحّي الرئيس المصري حسني مبارك. هي إجابة سهلة لكنها، من وجهة نظري، إجابة غير دقيقة.
لم تكمن المشكلة في مغادرة الميادين يوم 12 أو يوم 11، بل كانت في أنه لم يكن هناك مشروع وخطة لدى مَن في الميادين حول ما الذي يجب أن نفعله بعد ذلك. وبرغم أن كل الأطراف لم تكن تملك خطةً، لكن في مثل تلك اللحظات سيفوز الأكثر تنظيماً، ومَن يملك موارد أكثر، ومَن يستطيع أن يقنع أكبر عدد من الناس بروايته.
أين كانت المشكلة؟
طرحُ السؤال الصحيح يشكّل نصف الطريق إلى الإجابة الصحيحة. فهل طرحت الحركة الاحتجاجية المصرية في كانون الثاني/ يناير 2011، الأسئلة الصحيحة عن طبيعة النظام المصري وعن التحالفات المؤسِّسة لنشأته واستمراره؟ هل كان مبارك ودائرته الأقرب السبب الأهم في أزمات مصر العميقة؟
كانت إجابة موجة الاحتجاج الأولى ليناير عن السؤال الأخير بالإيجاب. لم تدرك يناير في تلك الموجة شبكة مصالح جمهورية يوليو العسكرية التي أسست لمعادلات الحكم والتحكم في موازين السلطة السياسية، وطريقة توزيع الموارد الاقتصادية. كان النظام أعمق من مبارك وإدارته بكثير.
لم يكن الجيش والحركة الاحتجاجية "إيد واحدة"، كما صوّرت دعاية الأيام الخوالي الأولى. وبرغم تلاقي رغبة الطرفين في 11 شباط/ فبراير، حول الإطاحة بمشروع توريث الحكم، غير أن الأهداف كانت متباينةً تماماً.
هدف جمهورية يوليو الإستراتيجي
هدف جمهورية يوليو الإستراتيجي لم يتغير تحت حكم الرؤساء المصريين أنور السادات، حسني مبارك، أو عبد الفتاح السيسي، فهم امتداد إستراتيجي لجمهورية يوليو العسكرية، وجزء من اتفاق ضمني على الهدف النهائي، وهو التمكين للسيطرة العسكرية على الحكم.
هم فقط اختلفوا تكتيكياً مع الناصرية، فالسادات أراد أن يحافظ على امتيازات يوليو، لكن بثمن أقلّ، لأن الدولة التي تقدّم الخدمات أصبحت غير قادرة على تقديم المزيد منها، فأراد أن يخلق سوقاً تحت السيطرة وطبقةً منتفعةً تعيش على تخوم السلطوية العسكرية، هي طبقة رجال أعمال ترضى بالسيطرة العسكرية، وفي الوقت نفسه تحاول أن تؤسس لاقتصاد رأسمالي تحت سيطرة الأوليغارشية العسكرية.
طبقة رجال الأعمال هذه تطورت نسبياً، وأرادت كسر الاحتكار العسكري من داخل بيت مبارك الحاكم. نقلة جيدة "good move"، بحسب تعبير هواة لعبة الشطرنج. وهكذا، ظهر صراع مؤقت، لكنه مؤثر بين الأوليغارشية العسكرية، وبين طبقة لها تطلعات في التوسع حتى لو على حساب العسكريتاريا الحاكمة.
طرحُ السؤال الصحيح يشكّل نصف الطريق إلى الإجابة الصحيحة. فهل طرحت الحركة الاحتجاجية المصرية في كانون الثاني/ يناير 2011، الأسئلة الصحيحة عن طبيعة النظام المصري وعن التحالفات المؤسِّسة لنشأته واستمراره؟
واختارت هذه الطبقة بعقلية تاجر ذكي من داخل بيت مبارك حلقة وصل بينها وبين العسكر، أي جمال مبارك، في مساومة بدت ذكيةً، وكادت أن تنجح لولا أن العسكر فطنوا إليها وإلى أنها ربما تكون تجاوزاً لاتفاق المرحلة الساداتية غير المعلن، والذي سمح لهذه الطبقة بالتمدد لكن تحت سيطرة صنّاع قرار عسكريين كحكم نهائي ومرجع أخير. لم يغفر العسكريون حقيقة أن مبارك الابن (المدني)، تطلّع إلى منصب ظل حكراً عليهم منذ تأسيس جمهوريتهم.
ميدان واحد أم ميادين متعددة؟
كانت المؤسسة العسكرية متماسكةً تماماً ومحددة الأهداف، إلا أن الحركة الاحتجاجية المصرية في يناير لم تكن كذلك. ربما اجتمع ملايين المصريين في الميدان بهدف إسقاط مبارك، لكن اكتشفنا بعد هذا أن هؤلاء الملايين لم يشكلوا حركةً منظمةً تجتمع على أهداف متفق عليها لتأسيس النظام الجديد. رفع الجميع شعارات حول العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ولكن لم يتفق أحد على برامج أو خطط لتحقيقها.
اتفق الجميع على الديمقراطية، ولكن اختلفوا ما المقصود بها: هل هي ديمقراطية ليبرالية تعددية تضع حدوداً فاصلةً بين الدين والدولة؟ أم أنها ديمقراطية محكومة برؤية المؤسسات الدينية التي لها الحق في التدخل في العملية التشريعية، وتحديد ما تجوز مناقشته والاختلاف عليه وما لا تجوز، مثلما نص دستور 2012 حول دور الأزهر؟ أم أنها ديمقراطية بالمعنى اليساري الأحمر الذي كان سائداً في الاتحاد السوفياتي، بمعنى تدمير الطبقية وابتلاع السوق لصالح الدولة؟
طبقة رجال الأعمال التي ظهرت في عصر السادات تطورت نسبياً في عهد مبارك، وأرادت كسر الاحتكار العسكري... وهكذا، ظهر صراع مؤقت، لكنه مؤثر بين الأوليغارشية العسكرية، وبين طبقة لها تطلعات في التوسع حتى لو على حساب العسكريتاريا الحاكمة
وأيضاً، اختلفت الرؤى حول دور الجيش في السياسة، ومساحة حقوق الأقليات، ومساحات الحريات العامة وحرية الضمير والاعتقاد.
وبينما كان ميدان التحرير مساحة التقاء للقوى التي تهدف إلى الإطاحة بمبارك، في الفترة من 25 يناير حتى 11 فبراير، كان أيضاً مساحةً للتعبير عن تشتت الأهداف بين رفاق الـ18 يوماً الأولى، وبداية الاستقطاب بين قوى التغيير. فالميدان الذي رفع شعار الدستور أولاً في يونيو 2011، عاد ورفع الشريعة أولاً في يوليو من العام نفسه في ما عُرف لاحقاً بجمعة قندهار.
كان الانقسام في الائتلاف الواسع الذي شكّل يناير يزداد حدةً بما يوحي بأن التحرير لم يكن ميداناً واحداً للثورة، بل كان نقطة التقاء لفرقاء غير قادرين على العمل معاً لوضع قواعد نظام سياسي يسمح للجميع بالمشاركة وطرح السياسات والأفكار.
اختصاراً، أثبتت الشهور التالية ليناير، أن التحرير لم يكن ميداناً يعبّر عن حركة ثورية موحّدة ومنظّمة، بل كان ميداناً اجتمع فيه الناس وهم جميعاً يعرفون ما الذي لا نريده الآن، لكن اختلفوا حول ما الذي نريده في ما بعد.
يناير وسيلة لتصفية صراعات جبهات الحكم
في نهاية حكم مبارك، تصاعد الصراع المكتوم بين مكوّنات حكمه، الأوليغارشية العسكرية المؤسِسة للجمهورية من جهة، ورجال الأعمال المتحالفين مع جمال مبارك ولجنة سياسات الحزب الوطني من جهة.
"عدم قدرة يناير على فهم طبيعة الصراع القائم وأبعاده داخل النظام الحاكم، وعدم وحدة أهدافها، وعدم تنظيمها، جعلها لا تفطن إلى أنه تم استخدامها كمارد خرج من قمقم الشعب، في تصفية بين أحد أطراف الدولة المعسكرة لطرف آخر تطلّع إلى دور أكبر من المتفق عليه"
يناير كانت فرصةً قدريةً غير مرتبة استغلت فيها العسكريتاريا طرفاً ثالثاً أراد أن ينقلب على الهدف الإستراتيجي ليوليو، ويخلق حالةً تعود فيها الأمور إلى الحالة الطبيعية، وهي أن يكون العسكر تحت السيطرة المدنية وأن تنتظم القوى الحية في المجتمع المصري في شكل تنظيمات سياسية تتنافس على أصوات الناس وعقولهم وقلوبهم. غير أن عدم قدرة يناير على فهم طبيعة الصراع القائم وأبعاده داخل النظام الحاكم من ناحية، وعدم وحدة أهدافها ووضوحها من ناحية أخرى، والأهم عدم تنظيمها، جعلها لا تفطن إلى أنه تم استخدامها كمارد خرج من قمقم الشعب، في تصفية بين أحد أطراف الدولة المعسكرة لطرف آخر تطلّع إلى دور أكبر من المتفق عليه.
وبعد انتهاء دور يناير، أراد الطرف المنتصر، وهو العسكر، أن يصفّي يناير ويرجع إلى القواعد القديمة لدولة يوليو مع نفوذ أكبر للأوليغارشية العسكرية واستبعاد أكبر لشركاء عصر السادات ومبارك وقمع أكبر لتحالف يناير المدني.
لم يكن خطأ يناير أنها تركت الميدان في 12 شباط/ فبراير، لكن خطأها الأكبر كان أنه بعد أن انفضّ الميدان، انقسم إلى ميادين عدة، وكل ميدان له رؤيته حول كيف يدير مرحلة ما بعد مبارك؛ فمَن أرادها يميناً ومَن أرادها يساراً، ولكنهم جميعاً اشتركوا في أنهم لم يكونوا يعرفون طبيعة الخصم المتماسك الذي يواجهونه ولا طبيعة أهدافه النهائية ولا أدواته لتحقيق هذه الأهداف.
يظل الخبر الجيد أنه، وبالرغم من الهزيمة التي أظنها غير دائمة ليناير، ستظل قدرتها على كشف طبيعة القوى الحاكمة وعلاقات المصالح بينها، انتصارها الأكبر الذي حتماً سيشكّل ما بعده، حتى لو تراجعت تحت تأثير المصالح المضادة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع