شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
حين سافرت إلى سوريا بالشال... وبدون حقيبة

حين سافرت إلى سوريا بالشال... وبدون حقيبة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الأحد 19 مارس 202304:17 م

هذا النص هو جزء من سرد أطول يطمح الكاتب لتحويله إلى عمل روائي.

"أعطني موبايلك"، قال لي الشاب الصغير بثقة وهو يجلس خلف طاولة قديمة من الحديد الصدئ.

"لن أعطيك إياه، إذا أردته فعليك أن تأخذه بالقوة"، قلتها بثقة رغم التعب الظاهر في صوتي.

كانت الساعة الثالثة صباحاً في أواخر عام 2016، حين دخلت الحدود السورية من الجانب التركي بعد معاناة مضنية لـ 18ساعة.

انتهت نصف الساعة تلك بتوصية من المكتب بأن أخلع الشال الذي أضعه على رقبتي لأنه قد يوحي بأني "من مناصري بي كيه كيه" - حزب العمال الكردستاني- على حد تعبيره.

لقد مضى 37 شهراً منذ آخر دخول لي إلى شمال سوريا عبر الحدود التركية. كنت متعباً ومستسلماً.

وفي كل مرة أعبر فيها هذه الحدود، أشعر بسكينة نابعة من استسلامي الطوعي لقدر الصدفة البحتة، قدر لا تنفع معه تدريبات السلامة ولا تمارين اللياقة ولا القدرة على الجري لمسافات طويلة ولا دعاء أمي المتواصل بأن يبعد الله عني "أولاد الحرام".

في كل مرة أعبر فيها الحدود، أشعر بسكينة نابعة من استسلامي الطوعي لقدر الصدفة البحتة، قدر لا تنفع معه تدريبات السلامة ولا دعاء أمي المتواصل بأن يبعد الله عني "أولاد الحرام"

كلها أشياء كان جزءاً من ممارستي لها هو رغبتي في العبور المتكرر للحدود، وكلها تتلاشى مع الخطوات الأولى داخل سوريا. مستسلماً لقدر لا أؤمن به ولموت لا أشتهيه.

أسأل نفسي دائماً: "لماذا أدخل سوريا وأستسلم طواعية لأشياء غادرت لأني لا أحبها ولا أريدها؟".

أصل بعد بضع ساعات حدود المقاطعة الأولى داخل سوريا.

 "لا تضع الشال بهذه الطريقة في تلك المقاطعة، سيسبب ذلك لك المشاكل"، نصحني السائق قبل أن أنزل.

قسمت سوريا إلى مقاطعات منذ وقت طويل ولكل مقاطعة مزاجها وترجمتها الخاصة للثياب والتصرف. من المثير للاهتمام حقاً قصة هذا الشال وكيف تلقيت تعليقات مختلفة بشأنه في كل مقاطعة. هو شال أبيض تملؤه خطوط من النقاط السوداء. لسنوات عديدة مضت، ارتبط هذا النوع من الشالات بالانتفاضة الفلسطينية ومع بداية الانتفاضة في سوريا تم تصميم بوستر لامرأة تغطي كامل وجهها ورأسها باستثناء العينين بشال مشابه وكتب تحت الوجه بخط جميل "طالعة أتظاهر". أعتقد أن حبي لذلك البوستر جعلني اشتري هذا الشال حين رأيته بالصدفة في مدينة صغيرة في المكسيك تدعى واهاكا.

أسأل نفسي: "لماذا أدخل سوريا وأستسلم طواعية لأشياء غادرت لأني لا أحبها ولا أريدها؟".

حين قررت الذهاب إلى سوريا، سافرت بدون حقيبة، فقط بالثياب التي ألبسها وهذا الشال، والموبايل الذي قررت في آخر لحظة أن أحمله معي بعد أن حذفت كل ما عليه من بيانات وتطبيقات.

أول تعليق تلقيته على هذا الشال كان من صديق في إسطنبول نبهني ألا ألبسه في تركيا لأن البوليس التركي قد يظنني متظاهراً كردياً وقد أتعرض للمشاكل. رغم ذلك لبسته خلال الساعات ال18 التي قضيتها على الحدود التركية بانتظار الدخول لسوريا. وضعته على رأسي متدلياً على رقبتي كما يفعل الشيوخ والملالي، ومع ذقني الطويلة السوداء بخيوط متفرقة من الشعر الأبيض نلت الهيبة والاحترام على الحدود التركية وفي مناطق نفوذ بعض الراديكاليين الدينيين في سوريا.

لففته حول رأسي في مدينتي إعزاز والأتارب في سوريا لأبدو كعامل بناء، ادّعي النوم من التعب فأمر على حواجز التفتيش بخفة وكأن الشال تقية تجعلني مخفياً.

ألفه حول رأسي وأميله في مناطق عفرين لأبدو "آبوجيا" ورفيقاً عاد للتو من جبهات القتال وخاصة وأنا أخاطب المقاتلين الأكراد على الحواجز "ساعات خوش آبو".

يخبرني السائق إنها آخر نقطة يستطيع الوصول اليها من "إعزاز" وعلي مغادرة السيارة والمشي إلى نقطة تفتيش المقاطعة الثانية التابعة للقوات الكردية.

كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها مقاتلة كردية وجهاً لوجه حين كنت أسير ببطء ضمن خط رفيع من الرجال الملتصقين ببعضنا ضمن سورين متوازيين من الحديد بعرض كتفي.

كانت المرة الأولى التي أرى فيها مقاتلة كردية وجهاً لوجه حين كنت أسير ببطء ضمن خط رفيع من الرجال الملتصقين ببعضنا ضمن سورين متوازيين من الحديد بعرض كتفَي

تذكرت وأنا أمشي ببطء، الاصطفاف أمام الفرن في الضيعة حين كنت صغيراً وكيف كان الناس يتسلقون الأسوار الحديدية من كل الجهات. كنت حينها أقبض على النقود الورقية بقوة كي لا تفلت من يدي وغالباً ما انتهي تحت الأرجل أحاول سحب ربطات الخبز وأنا مغبر وباك لأنني فقدت بعض النقود بين أرجل رجال لا ترحم. مرة واحدة فقط عدت فيها ضاحكاً، سقطت تحت الأرجل وحين لممت ربطات الخبز والنقود، اكتشفت اني وجدت ربطة خبز زائدة وسبع ليرات. في البيت، اعطيتهم لأمي، كنت أشارك أمي ما أجد وليس فقط ما أفقد. كان هذا أحد الدروس الكثيرة التي علمتني إياها أمي وأنا صغير.

عدت الى الواقع حين طلبت المقاتلة الكردية مني أن أرفع يدي. بدوت كالمسيح بوجهي المتعب ويدي المرفوعتين على جنبي كالصليب والشال ملتف حول رأسي كقرص الشوك. ثم دخلت صالة كبيرة يتم فيها جمع الناس قبل توزيعنا على السيارات في عملية يسمونها "الترفيق" - أي تشكيل موكب من السيارات يتم مرافقتها ببعض الشرطة أو المقاتلين أو كليهما.

كالمسيح أيضاً، كنت جائعاً وشارداً. فاشتريت "صندويشة" فلافل وبدأت بأكلها دون شهية حين دخل رجال وبدؤوا يفرزوننا الى طوابير.

تم فرزي مع أربعة رجال آخرين لنستقل التاكسي. جاء السائق واستلم هوياتنا الشخصية التي ستبقى معه حتى نصل إلى نهاية هذه المقاطعة.

في التاكسي، كان الجميع مرتاباً من الجميع. كنا صامتين وبائسين. أدار السائق، أبو جوان، المسجل وانطلقت موسيقى كردية جميلة. كنت سعيداً بالموسيقى والأغاني على عكس الرجال الأربعة الاخرين الذين زادتهم الموسيقى الكردية تحفظاً.

عند أحد الاستراحات عرضت أن أشتري القهوة للجميع لكن سائق التاكسي وحده من وافق على عرضي. أصبح أكثر وداً معي بعد القهوة، حتى إنه عبر عن ذلك بأن شغل أغاني عربية فلعلعت أغنية "بنت الأكابر" قبل أن أطلب منه مزيداً من الأغاني الكردية.

نقف مجدداً في طوابير رفيعة ليتم التدقيق في وجوهنا قبل إعادة الهويات لنا. هذه المرة، الطوابير بدون سياج حديدي يحيط بنا، كنا محاطين بالأشجار.

مجدداً، أعود لذكريات طفولتي. كنا نأتي إلى هنا وأنا صغير في رحلات مدرسية متواترة لقلعة سمعان وأحياناً أخرى مع عائلتي في "شمة هوا" وغداء من اللحمة والدجاج التي يشويها أبي.

يصل دوري في الطابور، ينظر الرجل في الهوية وفي وجهي. يطلب مني أن أخلع الشال. ينظر مجدداً للهوية ولوجهي. أبتسم له فيعطيني الهوية. أمشي ببطء بينما الناس تركض. لا أعلم لماذا يركضون.  

في كل المرات السابقة التي زرت فيها سوريا كنت دائماً أدخل من معبر "باب الهوى" الحدودي الذي يبعد أقل من ساعة بالسيارة عن بيتنا. كان أخي أحمد دائماً ينتظرني عند المعبر. نتفق على الالتقاء عند نقطة محددة لعدم وجود اتصالات. استمتع بتلك الساعة التي التقيه فيها بعد غياب وبالضحك والمزاح داخل السيارة في طريقنا الى البيت. هو "روداج" نقوم به لنكسر كل القسوة والقهر والفقدان الذي حدث بين زيارتين. أحاول التذكر إذا كان أحمد يلبس الشال أحيانا.

هذه المرة الأولى التي أزور فيها سوريا من معبر حدودي آخر، ولن يكون أخي أحمد بانتظاري. كلما تذكرت ذلك يسيل خط رفيع جداً وغزير من الدموع على وجهي.

هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها سوريا من معبر حدودي آخر، ولن يكون أحمد بانتظاري ولن أراه مجدداً. كلما تذكرت ذلك يوجعني قلبي ويسيل خط رفيع جداً وغزير من الدموع على وجهي.

أصل الى كراج آخر هو النقطة الأخيرة من مقاطعة عفرين. أصعد إلى "سرفيس" آخر سينقلني الى المقاطعة التالية.

المقاطعة التي تلي عفرين تخضع لسيطرة "هيئة تحرير الشام"، وهي تشكيل متطرف تغير اسمه كثيراً. السيارات عليها لصاقات دينية ولا أغاني في السيارات العامة التي ستقلني من هذا الكراج. أسمع تلاوة القرآن من "سبيكرات" بعض السيارات وصريخاً عشوائياً لرجال ينادون بأسماء مناطق مختلفة. اتجه نحو شاب نحيف وصغير العمر لا أعتقد انه تجاوز الـ 18 من عمره يصرخ بهستيريا "ادلب... الدانا... سرمدا". أصعد إلى المقعد الأمامي قرب السائق الذي يصرخ ويشتم ويدخن في نفس الوقت. النموذج التقليدي لسكان منطقتي.

أول نقطة تفتيش "للهيئة" تدعى "الحاجز صفر". طابور طويل جداً من الشاحنات تليها سيارات أجرة صغيرة وميكروباصات.

من الملفت أن شاحنات البضائع والإسمنت تعبر المقاطعات المتقاتلة بخفة بينما يناضل الناس للعبور بصعوبة.

أشاهد رجلين ملتحيين وراء جهازي كمبيوتر محمولين وأحدهما يبدو أجنبياً وقد صبغ لحيته بالحناء. في نفس الوقت يطلب أحد الرجال أن نجمع هوياتنا. أحاول أن أبدو طبيعياً بينما أفكر بسرعة بأسوأ السيناريوهات المحتملة.

عدلت شالي وسألت السائق إن كان يناسب المنطقة فأجابني: "ما بتفرق هون خاااي".

نعطيه الهويات ويذهب والوقت يطول وأنا يزداد توتري وخوفي. أفكر بأخي أحمد فأهدأ فجأة.

انتابتني قشعريرة غريبة هي مزيج من الفراغ والنشوة والارتياح واللامبالاة. في هذه الأثناء عاد الرجل وأعطانا الهويات. حين انطلقنا وعادت الرائحة الكريهة لدخان السيارة احسست بالارتياح والسعادة.

عدلت شالي وسألت السائق إن كان يناسب المنطقة فأجابني: "ما بتفرق هون خاااي".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard