شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
“هذه البلاد تبصقنا”... العودة إلى سوريا أهون من العيش في لبنان

“هذه البلاد تبصقنا”... العودة إلى سوريا أهون من العيش في لبنان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 31 أغسطس 202101:50 م

“انتشلت جثث أصدقائي من تحت الطاولة التي كانت تجمعنا في المساء. كنّا نحتسي الشاي ويأتي الصاروخ ليجلس معنا. هكذا كنّا نموت في حلب”.

في بداية العام 2017 ترك الشاب السوري عبده، مدينته حلب، وانتقل للعيش في بيروت هرباً من الخدمة العسكرية الإلزامية في سوريا. وصل عبده إلى بيروت التي يصفها بأنها من أصعب مدن العالم على الرغم من أنه لم يزر كل مدن العالم، لكنّه يصر على رأيه، ويؤكّد: “مستحيل القدر يرجع يجمع كل هالصعوبات بمدينة وحدة. هيدي لعبة حظ... وبتكون مدينة حظها كتير عاطل”.

لو فيي اليوم إرجع على سوريا برجع، بس ما بدّي اضطر إقتل حدا من ولاد بلدي، وما بدّي إخدم لا النّظام ولا المعارضة

منذ العام 2017 حتى العام 2019، استطاع عبده أن يبني شبكة علاقات واسعة في بيروت، أدّت إلى حصوله على وظيفة براتب شهري يقارب الـ1500 دولار أمريكي، جعله يحظى بحياة مستقرة تضمن عدم عودته إلى سوريا، والانخراط في السلك العسكري ،والتورّط في عمليات لا يريد أن يكون له شأن فيها.

بيروت التي أعطت الأمان لعبدو ولغيره من الذين قصدوها من سوريا، عادت اليوم وتحوّلت لجحيم جديدة، اختبروا ملامحها سابقاً وبالتالي يعرفون جيّداً مسارها.

يقول عبده لرصيف22 إن ما يشهده اليوم في بيروت شهده سابقاً في سوريا، من عمليات الخطف والترهيب، عندما سيطرت الأحزاب على الشوارع والمناطق وصولاً إلى انتشار السرقات وعدم توفّر الأمان المعيشي والاجتماعي. لكنّ الفرق بين سوريا ولبنان أن الأخير ليس بلده، ففي العام 2016 حين خُطف عبده في سوريا من قبل الجيش الحر بهدف الاستيلاء على سيارته، استطاع أن يتواصل مع شقيقه العسكري الذي أطلق سراحه، لكن في لبنان لن يستطيع أحد الدفاع عنه في ظل الوضع القائم، فالبلد لن يتقبّله كابن له حتى لو استقرّ فيه لسنوات طويلة، ولن يحميه حين يتفاقم الخطر، وبالتالي فإن معاناته ومخاوفه تتضاعف.

يشتغل عبده في عدّة وظائف بهدف ادّخار تكلفة إعفائه من الخدمة العسكرية في سوريا، وقيمتها 8000 دولار أمريكي، وهذا سبيل نجاته الوحيد، يقول: “لو فيي اليوم إرجع على سوريا برجع، بس ما بدّي اضطر إقتل حدا من ولاد بلدي، وما بدّي إخدم لا النّظام ولا المعارضة. عم بشتغل بلبنان بوضع صعب وعم حاول جمّع باقي التكلفة، لإرجع على سوريا كمواطن مش كعسكري”.

انتشلت جثث أصدقائي من تحت الطاولة التي كانت تجمعنا في المساء. كنّا نحتسي الشاي ويأتي الصاروخ ليجلس معنا. هكذا كنّا نموت في حلب

مُنعت من تلقي اللقاح

قبل حوالى العامين، عمدت مديرة المؤسّسة التي يعمل فيها فيصل في بيروت إلى خصم ثلث راتبه الشهري المتّفق عليه في عقد العمل، لأن إقامته في بيروت ليست قانونية، قبل أشهر استقال فيصل من عمله وبدأ التخطيط لرحلة عودته إلى سوريا التي كان قد سبقه إليها صديقه هشام.

جاء قرار فيصل حين لم يتمكّن من تلقي اللقاح المضاد لفيروس كورونا في بيروت، وذلك بعد أن وصل إلى موعده وتبيّن له أنه غير مؤهّل للحصول على اللقاح لأنه مقيم غير شرعي. يروي فيصل قصّته لرصيف22: “كفيلي السابق فقد مؤسّسته في ظل الانهيار الاقتصادي وغادر البلد، وبقيت أنا هنا أبحث عبثاً عمن يكفلني. ولأن لا أمل لي بالعودة إلى سوريا والتهرّب من الخدمة العسكرية قرّرت البقاء في بيروت خلال فترة الحجر التي بدأت منذ العام 2019 بطريقة غير شرعية. وحين عُدنا إلى أشغالنا وإلى الحياة شبه الطبيعية تبيّن لي أن لبنان لم يعد يرحّب بأبنائه وبالتالي تمّ طردي تلقائياً كلاجئ".

يتابع: "بدأت برحلة اللجوء إلى بلد أوروبي، الأمر الذي فعله صديقي هشام، لكنه حين لم يتلقَّ إجابة سريعة ولم يعد بإمكانه البقاء في بيروت وتحمّل كافّة المصاريف المفروضة عليه، عاد إلى سوريا، واستطاع أن يتهرّب من الخدمة العسكرية. الواقع واضح أمامي، في حال بقيت هنا، يتوجّب علي تحمّل الفقر الذي سيحل على الجميع، وسينهش الفئات المهمّشة أكثر من غيرها، سأعاني من انقطاع الكهرباء والمياه ولن أتمكّن في نهاية المطاف من دفع بدل إيجار المنزل الذي حماني لسنوات من العودة إلى سوريا. اليوم، صارت العودة إلى بلاد خارجة من حرب، أي إلى سوريا، أهون من العيش في بيروت”.

يحكي فيصل عن بيروت بحسرة، بالنسبة له هذه الأرض كانت وسيلة نجاته من الموت في يوم من الأيام من العام 2014، وفي الوقت عينه يحكي بواقعية، ويتقبّل أن لا خيار أمامه: “بيروت أعطتني الأمان الذي كنت أحتاجه، واليوم لم تعد تقوَ على ذلك. ولهذا السبب تواصلت مع أفراد عائلتي وطلبت منهم أن يؤمنوا المبلغ اللازم كي أُعفى من الخدمة العسكرية وأعود إلى سوريا، إذ هناك لن ينتابني الهلع الاقتصادي كل ليلة، وسيكون عندي ظهر عائلتي لأتّكل عليه”.

صارت العودة إلى بلاد خارجة من حرب، أي إلى سوريا، أهون من العيش في بيروت

وفق تقرير “استطلاع رأي الشباب العربي” الصادر العام الماضي عن "مرصد الأزمة"، فإن 77% من الشباب اللبناني يفكّرون بالهجرة. وبحسب تقرير “البنك الدولي” يحتاج لبنان إلى 19 عاماً ليعود إلى مستويات الناتج المحلي التي كانت في العام 2017. وبحسب التقرير نفسه، فإن 1 من 5 عمال فقدوا وظائفهم، و41 في المئة من العائلات لديها صعوبات في الحصول على الطعام والمواد الأساسية الأخرى، و36 في المئة يتعذر عليها الوصول إلى الرعاية الطبية، فضلاً عن انتقال آلاف الطلاب من المدارس الخاصة إلى المدارس الحكومية.

هذه الأرقام تُظهر بوضوح أن لبنان لم يعد قادراً على احتواء أحد، وهذه الأرقام تنعكس بطريقة مباشرة على السوريين الذين لجأوا إليه هرباً من الحرب في سوريا.

سلسلة هروب مستمرة

تشرح مني (اسم مستعار) هذا الانعكاس عليها لرصيف22: “أنا بحالة هرب مستمرة منذ خمس سنوات، هربت من سوريا إلى لبنان لأتجنّب الحرب، واليوم عدت وهربت من لبنان إلى سوريا لأتجنّب الفقر”.

في نهاية العام الماضي عادت منى إلى منزل عائلتها في دمشق بعد غياب خمس سنوات، تخلّلته زيارات قصيرة، وبحسب قولها فهي بعودتها تخلّت عن حريتها وليس فقط عن حياتها في لبنان، تقول: “وضعي يختلف عن وضع الشباب الذين تجنّبوا العودة بسبب الخدمة العسكرية، فأنا برجوعي أعود لأخضع لسلطة العائلة التي كنت قد كسرتها في بيروت. هذه السلطة تتحكّم بكل جوانب حياتي. لم أترك بيروت، مثلي مثل أصدقائي اللبنانيين، طردت من بيروت لأنني خسرت وظيفتي وبالتالي فقدت قدرتي على مجاراة المتطلبات المعيشية. فكانت النتيجة إمّا التشرّد، وإمّا العودة إلى سوريا. وفي الأخير عُدت”.

البلاد التي نعيش فيها تبصقنا كل فترة، وحين نُبصق نهرب إلى بلاد أخرى لنكرّر محاولتنا ببناء حياة عادية

تتقدّم منى اليوم إلى برامج أجنبية معنيّة بتقديم فرص للشباب السوريين بالسفر وتكملة تعليمهم في الخارج، كوسيلة أخيرة لبناء مستقبل يشبهها. وتختم: “من الشام إلى بيروت، من بيروت إلى الشام، واليوم من الشام إلى لا أدري أين. معاناتي واحدة. البلاد التي نعيش فيها تبصقنا كل فترة، وحين نُبصق نهرب إلى بلاد أخرى لنكرّر محاولتنا ببناء حياة عادية”.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard