أثارت كلمة ألقاها الرئيس السابق للجنة تعديلات الدستور (2014)، ووكيل مجلس الشيوخ المستحدث بهاء أبو شقة غضباً واسعاً في صفوف المصريين العاملين في الخارج، وسخرية المواطنين في الداخل، بعد أن دعا رئيس حزب الوفد السابق إلى اقتطاع الدولة نسبة من دخل العاملين في الخارج للمساهمة في سد احتياج مصر إلى العملات الأجنبية الشحيحة.
أتت تصريحات أبو شقة -التي تراجع عنها بعد رد الفعل الغاضب- في وقت تسعى السلطات إلى تدارك أزمة تراجع تحويلات المصريين العاملين في الخارج عبر القنوات الرسمية، منذ بدء الأزمة الاقتصادية الحالية في التكشُف في فبراير/ شباط من العام الماضي.
مصدراً كان مضموناً
دائماً كانت تحويلات العاملين في الخارج أكبر مصادر العملة الأجنبية للاقتصاد المصري، إذ فاقت في بعض السنوات المالية الدخل المتحصل عن إيرادات السياحة وقناة السويس. وما يميز هذا المورد هو عدم ارتباطه بأية تكلفة أو دين على الدولة، كما أنها في ارتفاع مستمر منذ السبعينيات.
وحتى مع استمرار الأزمة الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد في العقود الأخيرة، من ازدياد العجز في الميزان التجاري، بفضل ارتفاع فاتورة الاستيراد وانخفاض الصادرات ومحدودية موارد مصر من النقد الأجنبي، سارت تحويلات المصريين في مسار معاكس، فهي ترتفع سنة بعد أخرى على عكس بقية موارد الدولة.
أكثر ما كان يشغل بالنا أثناء العمل على هذه التحقيق، هو معرفة كيف يتم تهريب تحويلات العاملين إلى مصر خارج النظام المصرفي؟ وما الطريقة التي يتم بها تنظيم هذه العملية؟ وما مصير العملة الصعبة التي يتم جمعها، وكيف يتم تهريبها مرة ثانية إلى الداخل؟
وتُظهر الأرقام وإحصائيات السنوات السابقة ارتفاع معدل تحويلات المصريين العاملين بالخارج بشكل مستمر. إذ تقدر قيمة هذه التحويلات خلال السنوات العشر الأخيرة نحو 258 مليار دولار، أي أكثر من 12 ضعف إجمالي قيمة قروض صندوق النقد الدولي التي حصلت عليها مصر خلال السنوات السبع الأخيرة (2016 – 2023) ومقدارها 21 مليار دولار.
كما أن قيمتها أكثر من إجمالي حجم الدين الخارجي المصري المعلن رسمياً والبالغ - حتى ديسمبر/ كانون الثاني الماضي- 155 مليار دولار. وتشكل نسبة التحويلات خلال عشر سنوات فقط 64% من حجم الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد البالغ 404 مليار دولار.
كل ذلك جعل مصر تتصدر قائمة أكبر الدول العربية من حيث تلقي التحويلات من العاملين في الخارج.
ويعود سبب زيادة تحويلات المصريين إلى حرصهم على توفير دخل لأسرهم التي يعيلونها. وكانت تحويلاتهم خط النجاة للاقتصاد خلال جائحة كورونا والإغلاق العام وتعطل بعض الأنشطة الاقتصادية إذ سجلت التحويلات مستويات تاريخية. ومثلت حائط صد رئيسي للحكومة المصرية خلال تلك الازمة التي تحمّلها الحكومة جانباً من أزمتها الاقتصادية الحالية.
تُظهر الأرقام والإحصائيات الرسمية، أن معدلات تحويلات المصريين العاملين بالخارج، كانت ترتفع بشكل مستمر حتى آذار/ مارس 2022
ففي العام 2020، ألقت الجائحة بظلالها على كل القطاعات الاقتصادية بلا استثناء، على رأسها السياحة التي لم تتخطَّ إيراداتها أكثر من 4.4 مليار دولار خلال تلك السنة. كما لم تتجاوز عائدات قناة السويس عن نفس الفترة 5.9 مليار دولار. ومن حسن حظ الحكومة أن تحويلات المصريين بالخارج ظلت في مسارها المعاكس، إذ سجلت ارتفاعات كبيرة خلال السنة المالية 2020/2021 بمعدل 13.2% بقيمة بلغت نحو 3.7 مليارات دولار، لتحقق بذلك أعلى مستوى تاريخي لها مسجلةً نحو 31.4 مليار.
لكن كل شيء تغير منذ آذار/ مارس 2022، مع تصاعد الأزمة الاقتصادية، وخروج نحو 25 مليار دولار من الأموال الساخنة، وهو الأمر الذي تنبأ به – قبل وقوعه- خبراء لرصيف22 في تقاريرنا المنشورة منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، قبل وقوع الحرب الروسية الأوكرانية التي تحمّلها السلطات المصرية مسؤولية الأزمة.
ومع بداية اتباع البنك المركزي سياسة السعر المرن، وتراجع الجنيه مقابل الدولار. وارتفاع أسعار الطاقة والسلع الغذائية الأساسية، ليرتفع معها التضخم إلى مستويات قياسية، باتت تحويلات المصريين في الخارج أمل الحكومة، إلا أن حركة السوق كشفت ضياع ذلك الأمل.
مهاجرون أكثر، أموال أقل
وقد كشفت بيانات البنك المركزي الصادرة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، عن أن تحويلات المصريين العاملين بالخارج شهدت انخفاضاً خلال الربع الأول من العام المالي الجاري (من يونيو/ حزيران 2022 إلى سبتمبر/ أيلول 2022)، بنسبة بلغت 21%، مقارنة بنفس الفترة من العام المالي السابق. إذ سجلت 6.4 مليار دولار فقط مقابل 8.1 مليار دولار خلال نفس الفترة في العام المالي السابق. على الرغم من أن المصريين في الخارج يزداد عددهم، ما يعني افتراضياً زيادة تحويلات العملات الأجنبية. ولكن ما يحدث هو عكس ذلك.
ولم يكشف البنك المركزي أو الحكومة عن أسباب تراجع بقرة مصر الثمينة التي تُدر دولاراً في خزائن الدولة بشكل لا ينقطع، وهو الأمر الذي يستدعي التقصي ومعرفة أسبابه.
أفصح مصريون عاملون في الخارج، أن تبعات شح الدولار وانخفاض قيمة الجنيه، وما يرونه من أن السعر الرسمي للعملة المحلية لا يعكس قوتها الشرائية الحقيقية، هذه كلها أسباب تلجئهم إلى قنوات غير رسمية في إيصال الأموال إلى أسرهم في الداخل
ابحث عن المسؤول
اتفقت نتيجة التحقيق الذي أجراه رصيف22 مع تحليلات الخبراء الماليين والمصرفيين وبيوت المال العالمية حول الأثر المتواضع للسياسات النقدية التي يتخذها البنك المركزي المصري في تحفيز استجلاب العملات الأجنبية عبر السبل المختلفة، ومنها تحويلات المصريين العاملين في الخارج. إذ لا ينفصل انصراف العاملين عن تحويل أموالهم لإعالة أسرهم أو غيرها من الأفراد عن تراجع الثقة في السياسات المالية والنظام المصرفي في مصر، والمرتبطين بدورهما بهيكل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد من دون أفق للحل.
وقد أفصح مصريون عاملون في الخارج، تحدّثوا إلى رصيف22 على أن تبعات شح الدولار في الداخل وانخفاض قيمة الجنيه، وما يرونه من أن السعر الرسمي للعملة المحلية لا يعكس قوتها الشرائية الحقيقية، هذه كلها اسباب تلجئهم إلى قنوات غير رسمية في إيصال الأموال إلى أسرهم في الداخل، ما يحرم الاقتصاد الرسمي من أهم مصادره للعملات الأجنبية.
"ليّ دراع"
يتصاعد دور السوق السوداء عندما تعاني الدولة من عدم توفر العملة الأجنبية، إذ تصبح ملاذاً للمواطنين والمستوردين ورجال الأعمال، لتوفير احتياجاتهم من العملة الأجنبية، وفي ظل اضطراب سوق الصرف، يفضل العاملون بالخارج بيع العملة الصعبة التي بحوزتهم للسوق السوداء التي تمنحهم سعراً أكبر من نظيرتها الرسمية.
في هذا التحقيق، حاول رصيف22 رصد كيف أصبحت السوق السوداء تتحكم في تدفق العملة الأجنبية إلى مصر. من خلال التواصل مع 10 عمّال من المصريين في الخارج، ومعظمهم من المقيمين في الدول الخليجية، واكتشفنا وجود نظام لتداول العملات موازٍ للسوق الرسمية (البنوك، والصرافات المرخصة والتي باتت مغلقة فعلياً)- وذلك في الغروبات التي تضم العاملين بالخارج على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، بالإضافة إلى غروبات السوق السوداء تضم شبكات كبيرة من السماسرة في الداخل والخارج، علماً أن المتعاونين مع شخصيات أجنبية مقيمة في مصر تتحكم في عمليات تحويل أموال المصريين للداخل، وتحدثنا مع واحد من الذين يلجأون إلى تحويل أموالهم عبر تجار العملة في الخارج، وهو عمر علي، الذي يعمل في مدينة جدة السعودية.
بعد أن فقدت مدخراته التي كان يحولها ويودعها في البنوك المصرية نصف قيمتها جراء انخفاض العملة، سعى عمر إلى فك الودائع لحفظ مدخراته في شقة سكنية داخل مصر، لكن البنك أجبره على التنازل عن جزء كبير منها نظير "كسر الشهادات" ما جعله يقرر التوقف عن تحويل أمواله إلى مصر نهائياً
يقول علي لرصيف22 في محادثة نحتفظ بتسجيلاتها، إنه لجأ للتحويل من خلال أحد الوسطاء بسبب الإجراءات الروتينية، وما يصفه بـ"تضييق البنوك المصرية على الحوالات المرسلة" في إشارة إلى الإجراءات الأمنية المصاحبة لسحب الحوالات أو فرض سحبها بالعملة المحلية.
ويقول إنه تواصل مع "أحد الوسطاء" داخل المملكة عن طريق إحدى مجموعات فيسبوك، وإنه قابل الوسيط الذي أخذ منه قيمة التحويل بالريال السعودي، وفي نفس اللحظة أرسل الوسيط تحويلاً بالجنيه المصري من حساب بنكي داخل مصر إلى حساب شقيق علي، مقابل ثمانية جنيهات للريال، في وقت كان السعر الرسمي للريال في البنوك المصرية 6.5 جنيه.
ويوضح علي الذي يعمل مصمماً للغرافيك في إحدى شركات الدعاية والإعلان السعودية، أن ما دفعه إلى تحويل المال لأسرته خارج القنوات الرسمية هو أنه كان قد أرسل حوالة بنكية إلى أخيه في مصر، ووجد الأخير صعوبة في صرفها، وكانت بمبلغ ثلاثة آلاف دولار، "في اليوم الأول الذي ذهب فيه لاستلامها أخبره الموظفون في البنك أن المبلغ غير متوفر، وعليه أن يأتي غداً، وعندما ذهب في اليوم التالي أخبروه أنه لا يمكنه استلام الحوالة بالدولار ويمكنه بدلاً من ذلك استلامها بالجنيه، واضطر تحت ضغط الحاجة المُلحة لهذه الأموال إلى سحبها في اليوم الثالث بالجنيه ولم يستلم المبلغ كاملاً".
تمثل السعودية القوة الأكبر لتحويلات المصريين في الخارج، حيث يعيش ويعمل فيها نحو ثلاثة مليون و500 ألف مصري. وتمثل الأموال المحولة منها أكثر من نصف تحويلات المصريين في الخليج، وتحل الكويت في المرتبة الثانية
قبل هذا، ومنذ بدأ عمله في السعودية قبل خمس سنوات، اعتاد عمر علي إرسال مدخراته إلى مصر، محولاً إياها إلى الجنيه ليودعها في الأوعية الادخارية المحلية (الشهادات البنكية)، "لكن منذ التعويم في مارس السنة الماضية، خسرت جزءاً كبيراً من مدخراتي بسبب انخفاض العملة"، وعندما قرر فك هذه الودائع من أجل شراء شقة سكنية يقيم بها بعد العودة، رفض البنك فك الودائع إلا بعد حضوره لمصر وتنازله عن نسبة كبيرة من قيمتها.
يقول عمر: "وجدت نفسي بعد العمل طوال هذه السنوات أخسر نسبة كبيرة من مدخراتي بفعل التعويم، ولا أستطيع حتى استردادها كاملة لأشتري بها شقة سكنية، وعلي أن أخسر المزيد من قيمتها قهراً. قررت إذ ذاك عدم إرسال مدخراتي إلى مصر، والاحتفاظ بها كما هي بالريال السعودي في حساب بنكي هنا في السعودية، ولا أرسل إلا على قدر حاجة والدتي".
سوق سوداء
بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تمثل السعودية القوة الأكبر لتحويلات المصريين في الخارج، حيث يعيش ويعمل فيها نحو ثلاثة مليون و500 ألف مصري. وتمثل الأموال المحولة منها أكثر من نصف تحويلات المصريين في الخليج، وتقدر بنحو 11.2 مليار دولار خلال العام المالي السابق، وتحل الكويت في المرتبة الثانية، حيث بلغت قيمة تحويلات المصريين العاملين بها نحو 4.4 مليار دولار، ثم تأتي الإمارات بقيمة 3.4 مليار دولار، ثم قطر بقيمة 1.5 مليار دولار، ثم سلطة عُمان بقيمة 162 مليون دولار، وأخيراً البحرين بقيمة 104.1 مليون دولار.
يقول محمد عبد القادر الذي يعمل مُعلماً بالكويت، إنه عرف بموضوع التحويلات خارج النظام المصرفي هو وزملاؤه عن طريق ما يطلق عليه "السماسرة"، الذين ظهروا منذ خفض قيمة الجنيه في فبراير/ شباط 2022، علماً أن هؤلاء السماسرة "كثر عددهم في الفترة الأخيرة، وهم من العاملين هنا في الكويت ولكن في مهن مهمشة ودخلهم قليل".
بحسب تجربته، يقول عبد القادر لرصيف22 إن هؤلاء السماسرة موجودون بكثرة "وبمجرد معرفتهم بأنك مصري، يقومون بعرض خدماتهم بتبديل الدينار الكويتي إلى الجنيه المصري، ويضيفون التسهيلات عن طريق توفير العديد من طرق التحويل، بداية من التحويل البنكي والمحافظ الإلكترونية مثل فودافون كاش واتصالات كاش، أو عن طريق إرسال المبلغ في البريد. وإذا طلبت منهم أن يقومون بتوصيل المبلغ كاش إلى باب منزلك فإنهم يرسلون من يقوم بذلك بدون تردد. المهم حصولهم على الدينار. وحتى تطمئن بشكل نهائي يرسلون المبلغ في مصر قبل أن يتلقوا المقابل بالدينار".
وعن أسباب أتباعه هذه الطريقة، يقول عبد القادر إن سهولة إرسال الأموال ليست السبب الوحيد لإقباله على التعامل مع السماسرة عوضاً عن البنوك، "هناك أسباب أخرى تتعلق بالنسبة الضخمة التي تقتطعها شركات الصرافة من المبلغ المرسل، وعلى سبيل المثال لو أرسلت مبلغ 100 ألف جنيه إلى مصر، تقتطع شركات الصرافة منه ما يقارب 10 آلاف جنيه. وعلى العكس من ذلك يكون التحويل عبر سماسرة العملة. إذ يرسلون المبلغ كاملاً، بل وأحصل على سعر 90 جنيهاً مقابل الدينار، فيما يبلغ سعره الرسمي في البنوك 77 جنيهاً". (أسعار الصرف في وقت التواصل، بداية يناير/ كانون الثاني 2023)
أخطاء تاريخية
يشير تقرير سابق لبنك "غولدمان ساكس" إلى أنه بسبب شح الدولار في البنوك المصرية، أصبح سعره في السوق الموازي "مبالغاً فيه"، وهو ما يؤدي للدخول في دوامة من تخفيض قيمة العملة وارتفاع التضخم، وهذا ما شرحه رصيف22 البنك المركزي المصري بالتفصيل في تقريره حول الاخطاء التاريخية المتكررة المنشور تحت عنوان "ينفذ الوصفة نفسها منذ الثمانينيات... هكذا يتعثر المركزي المصري في مواجهة السوق السوداء".
في كتاب "الاقتصاد المصري في القرن الواحد والعشرين" يشير الباحث محمد سلطان إلى أن "المصريين العاملين في الخارج يتحولون إلى تجار في السوق السوداء في أوقات الأزمات الاقتصادية التي تعاني فيها الدولة من نقص في العملة الأجنبية، لالرغم من أنهم ليسوا خبراء ماليين، وقراراتهم غير مرتبطة بفهمهم للأساسيات الاقتصادية للدولة،
ولكن عند قيام الحكومة بتخفيض قيمة العملة وانتشار الأنباء عن شح الدولار في الجهاز المصرفي، يدركون بالبداهة أهمية العملة الصعبة التي في أيديهم، بعد ارتفاع قيمتها أمام الجنيه، إذ من المفترض أن يغريهم الأمر لزيادة تحويلاتهم إلى النظام المصرفي
لكن ما يحدث هو عكس ذلك ويفضلون الاحتفاظ بها بهدف الادخار وتكوين مخزون منها أو ببيعها للسوق السوداء التي تمنحهم سعراً أكبر من نظيرتها الرسمية.
سمسار تهريب لرصيف22: عملية التبادل تبدأ بالاتفاق مع "المناديب" الذين يعملون في الخليج، ويكون معظمهم من أقارب وأصدقاء السمسار الرئيسي المتواجد في مصر غالباً لضمان الثقة بين الطرفين
صعوبة الأوضاع الاقتصادية
وفي حديث أحمد عاطف (40 عاماً) الذي يقيم في البحرين، يرصد لنا هذه التجربة على الرغم من أنه ما زال يلتزم التحويلات البنكية في إرسال الأموال إلى زوجته في مصر، ولا يرى أنه سيلجأ إلى طريقة أخرى، على الرغم من أن أكثر الذين يعرفهم يقومون بالأمر.
يرجع عاطف، الذي يملك شركة مقاولات في البحرين، سبب لجوء معظم العاملين بالخارج إلى التعامل مع تجار العملة هو السعر المناسب الذين يحصلون عليه، ويقول: "من الطبيعي أن يحدث ذلك خصوصاً في الظروف الصعبة التي يعيشها العاملون هنا، إذ يواجهون ضغطاً مضاعفاً، فمن ناحية أن طبيعة العمل في الخليج أصبحت أصعب من أي وقت مضى إذ يواجه العامل منافسة من عاملين من مختلف الجنسيات. إضافة إلى أن رب العمل يضع في الحسبان ارتفاع العملة في دول الخليج عن نظيرتها في مصر، وبناءً على ذلك يمنح العامل أو الموظف المصري راتباً منخفضاً مقارنة بمجهوده وكذلك مقارنة بأقرانه من الجنسيات الأخرى، هذا عدا الضرائب ومقابل الإقامة الذي يزداد مع الوقت. ومن الناحية الأخرى يعرف العاملون هنا صعوبة الأوضاع المعيشية والاقتصادية في مصر من خلال ما يعيشه وينقله إليهم أفراد أسرهم، ويتابعون أخبار الاقتصاد المصري التي تزداد سوءاً، مما يضع عليهم ضغطاً إضافياً بضرورة المحافظة على الدخل وزيادته. ومن الطبيعي في وسط هذه الأوضاع أن يبحثوا عن أي ربح أو مكاسب إضافية".
كيف تتم عمليات تهريب العملة؟
أكثر ما كان يشغل بالنا أثناء العمل على هذه التحقيق، هو كيف يجري تهريب تحويلات العاملين إلى مصر خارج النظام المصرفي؟ وما الطريقة التي يتم بها تنظيم هذه العملية؟ وما مصير الأموال التي تُجمع، وكيف تُهرب خارج المسار الشرعي؟
للإجابة عن هذه الأسئلة تمكنا من التواصل مع أحد الوسطاء الذين عملوا حتى وقت قريب في تلك التجارة، وهو اشترط قبل الحديث، عدم الكشف عن هويته خاصة أنه كان أثناء حوارنا في بلدته بإحدى محافظات الصعيد (نحتفظ بتسجيل لشهادته نمتنع عن نشره احتراماً لرغبة المصدر).
يفصح جابر – الاسم الذي اختاره للنشر- عن أن عملية التبادل تبدأ بالاتفاق مع "المناديب" الذين يعملون في الخليج، ويكون معظمهم من أقارب وأصدقاء السمسار الرئيسي لضمان الثقة بين الطرفين، ويشتري هؤلاء "المناديب" العملة من العاملين في الخارج بأسعار أعلى من أسعار الصرف الرسمية. في المقابل يقوم هو ومجموعة ممن يعملون معه في مصر بتحويل هذه الأموال عبر كل وسائل الدفع المتاحة من محافظ إلكترونية أو حساب بنكي أو عن طريق البريد، وفي بعض الأوقات يقوم بإيصال هذه الأموال إلى أي مكان يتفقون عليه، المهم هو الحصول على الأموال الصعبة من الخارج.
سمسار تهريب: "نجمعها في الخارج ثم ترسل في تحويلات بنكية بالدولار إلى حسابات أجانب مقيمين في مصر، ومعظمهم من الجنسيات العربية ولديهم شركة مسجلة باسمهم وسجل تجاري، وعادة ما تراوح قيمة المبلغ المحول بين 100 ألف ومليون دولار"
أما عن كيفية تهريب تلك الأموال إلى مصر بعد ذلك، يوضح جابر: "نجمعها في الخارج ثم ترسل في تحويلات بنكية بالدولار إلى حسابات أجانب مقيمين في مصر، ومعظمهم من الجنسيات العربية ولديهم شركة مسجلة باسمهم وسجل تجاري، وعادة ما تراوح قيمة المبلغ المحول بين 100 ألف ومليون دولار، إذ تتساهل البنوك مع هؤلاء الأشخاص في صرف هذه المبالغ على عكس ما يحدث مع المصريين، لأن المستثمرين الأجانب يتمتعون بامتيازات خاصة بتشجيع الاستثمار في مصر وجذب العملة الأجنبية".
كذلك يتم إرسال مبالغ أصغر مع مصريين وأجانب قادمين إلى مصر من الخارج، إذ تسمح الجمارك في المطار باصطحاب 10 آلاف دولار، وهناك أيضاُ التحويلات المرسلة عبر شركات الصرافة، وعلى الرغم من النسبة الكبيرة التي تقتطعها هذه الشركات من الأموال المرسلة، يلجأ المهربون إليها إذا واجهوا عجزاً في الطرق الأخرى أو احتاجوا إلى مبالغ ضخمة في فترة قصيرة.
في هذا السياق يقول عمر علي إنه يعرف صديقاً مصرياً يعمل في تجارة العملة ويسافر إلى مصر ثلاث مرات شهرياً وفي كل مرة يصطحب معه 10 آلاف دولار.
ولكن لمن تذهب هذه الأموال؟
يخبرنا جابر أنه لا يتعامل مع "أي شخص والسلام" في صفقات العملة التي يقوم بها، بسبب تشديدات الحكومة في الداخل، وأنه يتعامل فقط مع عدد قليل من الموثوق بهم "ومعظمهم من تجار الصاغة، الذين يقومون بدورهم ببيع الدولار للمستوردين ومستخلصي الجمارك الذين لا يجدون الدولار في البنوك وبعض الأشخاص الذين يريدون الحفاظ على مدخراتهم، إذ يوفرون أي مبالغ يحتاجونها، ولدى تجار الصاغة خبرة في تجارة العملة تجعل العمل معهم أكثر أماناً".
ويخبرنا أحمد عاطف أن تلك الأموال التي يتم جمعها قد لا تذهب كلها إلى مصر، وأن معظمها يرسل إلى حسابات خارجية خاصة بالمستوردين والتجار وأصحاب الشركات المصريين الذين يحصلون عليها من أجل شراء بضاعتهم أو مواد الإنتاج والخام من دون المرور بالقيود المشددة التي باتت السلطات المصرية تفرضها على الاستيراد. والنتيجة أن عمليات الاستيراد تجري بسلاسة من دون دخول الأموال إلى النظام المصرفي المصري الذي يتعطش إليها لاسباب كثيرة، على رأسها سداد مستحقات الديون الرسمية.
وأقر البنك المركزي المصري قانون الاعتمادات المستندية ووضع قيود على الاستيراد بسبب عدم توفر عملة أجنبية لتلبية طلبات الاستيراد، ووضع أولوية لواردات السلع الاساسية، بالإضافة إلى الخوف من استنزاف الاحتياطي النقدي الأجنبي لدى البنك المركزي. واتخذت البنوك عدداً من القرارات الاستباقية بتحديد حد السحب ورسوم إضافية. حينها بدأت التحليلات واضحة سواء لاقتصاديين أو بنوك أجنبية بارتفاعات جديدة للعملة الأجنبية أمام الجنيه، وهو ما دفع كثيرين لبدء الاحتفاظ بها أو الإعلان عن شرائها.
ولجأ المستوردون والتجار وأصحاب الأعمال إلى السوق السوداء لتوفير عملة أجنبية يمكنهم بها تخليص بضائعهم ومنتجاتهم المكدسة في الموانئ. ومن هنا كان الدافع لتجار السوق السوداء والمستوردين من أجل البحث في الخارج عن منافذ جديدة للعملة الصعبة. وكان التوجه نحو الاستحواذ على تحويلات المصريين العاملين بالخارج عبر العديد من الحيل كما سبق أن وضّحنا. وهو الأمر الذي مكنهم من الاستحواذ على التحويلات وحجبها عن النظام المصرفي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع