على مقربةٍ من مقاهي منتجع "توتشال" Touchal في العاصمة طهران تتداخل أضواءُ المدينة مشعةً تكسر بألوانها الدافئة برودة الطقس هنا. يتبادل الزوّارُ زوايا المكان لالتقاط "السلفيّ" مع طهران الجميلة. اللواحات الاسمنتية الجافة في الخلف تتلألأ كحبّة رمان فُتحت لتوّها. أحاول أن استذكر ما كتبه "ابنُ بلخي" عن طهران، أستعين بالإنترنت لإصل إلى كتابه "فارس نامة"، ولا أعثر عليها في قائمة المدن.
قبل أن أفقد الأمل، أتمكّن من إيجاد ما دوّنه ذلك الكاتب المجهول في القرن الثاني عشر الميلادي عن طهران، بينما كان يسترسل في وصف مدينة كوار في بلاد فارس، يقول: "جميع فواكهِها في غاية الجودة، وخاصّة الرُّمّان الذي يضاهي بجودته الرمّان الطهرانيّ". ولم يبقَ وحيداً في مدحِه لرمّان طهران بل لحق به "السمعاني" في كتابه "الأنساب"، فكتب: "طهران قرية صغيرة قرب ري تُعرف برمّانها الجيّد". ولازالت طهران تشبه الرمّانَ، مضيئةً من الداخل، وخلف قشورِها الجافة ثمة ألف حكاية.
مدينة تحت الأرض
تضحك المرشدة السياحية وتقول: "كلّنا نرغب في أن ننتسب للعاصمة، فجمعينا الآن طهرانيّون! ولكن ربّما سترغبون في أن تغيروا هذا النسب إذا ما علمتُم أن أجدادَكم في طهران كانوا لصوصاً وقُطّاعَ طُرُق". حسب كتاب "مرآة البلدان" لاعتماد السلطنة فإن كلمة "طهران" تعني "تحت الأرض"، وسبب هذا النوع من البناء آنذاك كان كثرة الغارات وانتشار قطّاع الطرق.
يقول بعضُ المؤرخين إن الطهرانيين كانوا أنفسهم قطّاع طرق لا يرحمون بعضهم بعضاً. وحسب قول"ياقوت الحموي" وكتابه "معجم البلدان" فإن : "طهرانُ قريةٌ كبيرة مبنية تحت الأرض، ولا سبيل لأحدٍ عليهم إلا بإرادتهم، وفيها اثنتا عشرة محلّة، كلُّ واحدة تحارب أختها.. ويخافون على دوابهم من غارة بعضهم البعض".
يبدو أن هذا الحيّ حظي بتاريخ عريق في استضافة مختلف الطوائف والأقوام، فتقسيماته بين حيّ اليهود وحيّ العرب ومسجد للأكراد ترسم ملامح الحيّ القديم أيام ازدهاره.
تقول الحكاية هنا إن حيّ "عودلاجان" هو أقدم منطقة في طهران؛ فعمره 300 عام تقريباً. ويقع بالقرب من السوق الرئيسية "البازار"، وهو أحد خمس مناطق قديمة عُرفت مع بداية العهد القاجاري وهي: "دولت"، "عودلاجان"، "سنغْلج"، "تشالِه حصار"، و"تشاله ميدان".تتغير ملامح طهران مع عبور شارع "أمير كبير"، نحو المدينة القديمة؛ تكثر المنحنيات والشوارع الصغيرة، نعبر في رحلتنا نحو بيوت تشبه تلك العربية قليلاً، لها عمارتها الخاصة وهوية مقترنة بالعهد القاجاري. أكثر العابرين وأصحاب المحالّ في منطقة "عودلاجان" التاريخية هم من الأفغان، فسكّانها الأصليون غادروها نحو الأحياء الراقية أو خارج البلاد، مما جعل بيوتهم ملجأً للقادمين الجدد. ويبدو أن هذا الحيّ حظي بتاريخ عريق في استضافة مختلف الطوائف والأقوام، فتقسيماته بين حيّ اليهود وحيّ العرب ومسجد للأكراد ترسم ملامح الحيّ القديم أيام ازدهاره.
بقايا من عودلاجان... لكن جميلة
أيام ناصر الدين شاه القاجاري كان أغلب سكّان هذه المنطقة من اليهود المعروفين في إيران باسم الكليميين، نسبةً للنبي موسى كليم الله. وإلى جانبهم بنى أقارب الملك ووزراؤه بيوتاً فخمة تشبه بفسحتها السماوية البيوتَ الإيرانية التقليدية، إلا إنها حملت بصمات غربية في الزّخارف والأثاث. كان ناصر الدين شاه أول حاكم إيراني يزور أوروبا ويتأثر بثقافتها.
أيام ناصر الدين شاه القاجاري كان أغلب سكّان هذه المنطقة من اليهود المعروفين في إيران باسم الكليميين. وإلى جانبهم بنى أقارب الملك ووزراؤه بيوتاً فخمة تشبه بفسحتها السماوية البيوتَ الإيرانية التقليدية.
شارع "قوام حضور"، بيت "معتمد السلطنة"، عمارة "دَبير المُلك"، كلها مقترنة بأسماء شخصيات من العصر القاجاري. لا أسماء للشهداء هنا ولا للقادة، كما في هو الحال في أغلب شوارع طهران الحديثة. يأخذك المكان بعيداً إلى زمن كانت قد بدأت فيه طهران بالتوسّع والازدهار كعاصمة جديدة لم يعرفها التاريخ القديم؛ فاختيار القاجاريين لها كعاصمةٍ جاء مفاجئاً، فهي لا تحمل عراقة أصفهان ولا أصالة شيراز ولا قوّة تبريز؛ مدينة أشبه بمجموعة قرى متقاربة بدأت تكبر وتتتوسع لتصبح بعد 200 عام إحدى أهمّ عواصم الشرق.
باب خشبيّ موصود مع مطرقتين، واحدة للنساء وأخرى للرجال. يعلو الباب رخام منقوش بآيات قرآنية؛ باب عريض مهترئ وآخر موصود، ولكنه سهل الفتح؛ بعض البيوت مغلقة بإحكام وتبدو مؤهولة بالسكّان، وبعضها الآخر أبوابه مشرعة تستقبل السيّاح؛ هنا بيت لزوجة ناصر الدين شاه، وهناك بيت لوزير له، وثمة بيت لخلوة مع صديقة؛ حكايا عجيبة عن هذا السلطان تتعقد مع منحنيات هذا الحيّ. في كلّ بيت حوض ماء كبير، بعضه دائري وآخر مستطيل مزينٌ بالنباتات من حوله، وفي زوايا باحة البيت أشجار تظلّل المكان، وُضِعت تحتها بعض المقاعد الخشبية للزوار. يرتفع بناء المنزل المكون غالباً من طابقين بعدة دراجات. لا تزال النوافذ مزينة بزجاج ملون. على طرف الحيّ منزل مميز آخر لـ"آية الله مدرّس" رجل الدّين والسياسة الشهير، وقد تحوّل قبوه إلى مقهى للزوار.
في الحيّ القديم عددٌ من الحمّامات العامة، بعضها لازال قيد العمل، فيما تحوّل أشهرها "حمام نواب" لمكانٍ أثري يمكن التنقل فيه بحريّة. نصعد على سطح الحمّام، فيبرز التصميم القديم المميز لقبب الحمام ونوافذه العلوية إلى جانب عمارات شاهقة قد شَوّهت جماليات المكان.
قبل أن نصل إلى بيت "كاظمي" الذي تحول إلى متحف شعبيّ، نعبر من قرب مرقد ديني لـ"لشيخ يحيى"، يتميز بقبة مسجد على الطّراز المغولي، ويبوح بتنوع آخر لهذه الزاويا من العالم. إلى جانب السور كتب على جذع شجرة قديم خرجت منه أغصان جديدة. قيل لنا: "إن هذه أقدم شجرة دلب في طهران، وعمرها 900 سنة". في المتحف الشعبي وُضعت مجسمات شمعية لملابس السكّان القدماء تعرّف بالمهن الرائجة آنذاك، وبعض التقاليد القديمة.
أبواب مغلقة لليهود ودكاكين عربية عامرة
رحل أغلب اليهود عن هذا الحيّ، ولم يتبقَّ لهم سوى أبواب بيوت مغلقة، وأسماء دكاكين قديمة كانت عامرة منذ 100 عام، وكنيس هنا وآخر هناك. بعضها لازال يفتح أبوابه أيام السبت لمن بقي من يهود طهران. يقول جار كنيس "عزرا يعقوب": "لازال بعضهم هنا، لكنهم لا يرغبون بفتح الأبواب دائماً. عليكم أن تنتظروا كثيراً حتى يُفتح لكم الباب".
من السوق تتفرع الكثير من الأزقّة الضيقة التي يطلق عليها في إيران اسم "أزقّة المصالحة"؛ فلا يمكن لشخصين العبور منها دون الاقتراب من بعضهما البعض.
على مقربة من كنيس "عزرا يعقوب" يقبع أقدم بنك في إيران، والذي تأسس على يد اليهود في العهد القاجاري، ويُعرف باسم "تيمتشه أكبريان". لا يعرف القائمون عليه اسم صاحبه الأول، لكنهم ورثوا إدارة المكان بعد أن تحوّل إلى مقهى يقدّم مأكولات شعبية.
يسود الصمت على زقاق اليهود في سوق عودلاجان، تعقبه ضجة ممزوجة بلهجة عربية تعلن وصولك إلى النقطة الشمالية الغربية من الحيّ، حيث يقطن العرب هنا منذ تأسيس هذا الحي، وقد جاؤوا تجاراً في العهد القاجاري من العراق واستقرّوا هنا، وما زالوا ماهرين في تجارتهم، فيمكن ملاحظتهم بقوّة حتى في سوق العاصمة الرئيسي.
من السوق تتفرع الكثير من الأزقّة الضيقة التي يطلق عليها في إيران اسم "أزقّة المصالحة"؛ فلا يمكن لشخصين العبور منها دون الاقتراب من بعضهما البعض. ويحدث أن يلتقي فيها المتخاصمون فيتصالحون، ولاسيما الجيران. أغلب هذه الأزقّة مغلقة، وبعضها ينتهي ببيوت مهدمة. يتردّد الزوّار في العبور نحوها فقد تحوّلت إلى مكان تجمّع المدمنين والمشرّدين.
لا تحمل أزقّةُ طهران القديمة لزائرها تلك الدهشة التي تتركها أحياء يزد وأصفهان، فالمدينة هنا ليست ضاربة في التاريخ؛ لكنّ لها إيضاً مرحلتها المميزة، فما عاشته طهران منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى منتصف العشرين لم تعِشْه مدنٌ أخرى في إيران. لكنه لم يحفظ جيداً، ولم يعتنَ به، فأغلب زوّار طهران يمضون نحو جبالها للتمتّع بطبيعتها، بعيداً عن ضجيج العاصمة التي تخفي بين أبراجها العالية تاريخَها في أزقة عودلاجان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...