عند زيارة الجارتين تونس والمغرب نلاحظ العديد من أوجه التشابه بين البلدين وشعبيهما، بدءاً من الطراز المعماري إلى شكل القباب في المساجد وزخارف الصوامع والأزقة التونسية القديمة التي تتشابه مع المدن القديمة في المغرب، مروراً بالمطبخ التونسي الذي يشترك في عدد من أطباق الطعام المعروفة في المغرب، ولكن مع مذاق حار، وانتهاءً ببساطة الناس وحسن ضيافتهم والكثير من القناعات والطباع والأحلام التي يتشارك فيهما الشعبان.
في كتابه "رحلة مغربي إلى تونس، من سلا إلى سبيطلة"، المنتمي لأدب الرحلات، يأخذنا الرحالة المغربي الدكتور فهد حمروشي، على مدار 137 صفحة من القطع المتوسط، في جولة ممتعة من المغرب إلى تونس الخضراء عبر عدة مدن، انطلاقاً من العاصمة التونسية حتى مدينة سيدي بوزيد، وصولاً إلى مدينة سبيطلة الأثرية، ليزور متاحفها وآثارها ومعالمها وكنوزها ويذوق طعامها ويلتقي أُناسها ويتعرف على ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ويجعلنا نسافر عبر صفحات الكتاب لنرى هذه الرقعة الجغرافية بعيون الرحالة المغربي.
"حول العالم، إنني الآن أحلق فوق تونس الخضراء، التي أطلق عليها هذا اللقب لكثرة الزروع والأشجار فيها عبر أنحاء البلاد. وتوجد روايات أخرى مختلفة حول أن تونس هو اسم إله في الحضارة الفينيقية وهناك من يرجع أصل تسميتها إلى أسطورة امرأة أمازيغية تدعى تناست، وآخرون يعتبرونه اسماً مشتقاً من اللغة العربية يصف سكانها بالأنس وطيب المعاشرة".
هكذا يبدأ حمروشي سرد أحداث رحلته، مقتبساً أبياتاً للشاعر نزار قباني، قال فيها: "يا تونس الخضراء جئتك عاشقاً وعلى جبيني وردة وكتابُ/ فاخضوضرت لغنائه الأعشاب/ إن الهوى ألا يكون إيابُ"، وأخرى للشاعر المصري صالح جودت يقول فيها: "قسماً بسحر عيونك الخضرِ/ يا أجمل الألوان في عمري/ ما كان لي إلاك أغنية/ لو طالعتني ليلة القدرِ".
كورنيشها يشبه طنجة المغربية
وبأسلوب سردي بسيط وممتع يسرد مؤلف الكتاب الأحداث والوقائع اليومية لرحلته ويومياته في تونس التي زارها، في عهد رئيس الوزراء التونسي إلياس الفخفاخ، قبل شهر من بداية الحجر الصحي، وتحديداً في شهر شباط/فبراير عام 2020، ولا يفوته الإشارة إلى تعنت وسوء معاملة ضابط تفتيش الجوازات التونسي بالمطار، وجحيم تكبيل السيارات من قِبل الشرطة التونسية، والذي ذّكره بما يحدث في وطنه المغرب.
يقول: "مع اتباع برنامج الرحلة الذي وضعته، توجهت إلى مدينة سوسة التي تبعد بحوالي ساعتين عبر الطريق السيار الأصل في الثالثة زوالاً وبضع دقائق إلى الفندق المقابل للبحر في مدينة سوسة التي يشبه كورنيشها مدينة طنجة المغربية".
وتبدأ الرحلة من العاصمة التونسية، ثم إلى سوسة وزيارة الكولسيوم التونسي في الجم، ثم مدينة المنستير والقيروان، مروراً بسيدي بوزيد، ووصولاً إلى مدينة سبيطلة الأثرية، كما يزور الرحالة دوغة، قبل أن يعود في نهاية رحلته إلى العاصمة التونسية، ليصفها قائلاً: "في كل مرة كنت أخرج من مدينة أو آثار في تونس، أشعر أنني خارج من باب التاريخ وداخل في آخر".
الطعام التونسي الحار
وفي مستهل زيارته لمدينة سوسة يتعرف الكاتب على الطعام التونسي للمرة الأولى في حياته؛ فبعد إتمامه الإجراءات الفندقية وصعوده إلى الغرفة التي تقابل البحر الأبيض المتوسط، أحسّ بالجوع، ولأن مطعم الفندق مغلق بحث في الهاتف، فوجد مطعماً إيطالياً اسمه "كاريسو"، يبعد عن الفندق بأقل من مئتي متر، يصفه بأنه من الدرجة المتوسطة ومزدحم قليلاً، وطلب من النادلة طبق لازانيا بالكفتة غير حار، ولكن بعد دقائق قليلة جاءت مقبلات من صلصلة وزيتون، وكان كل شيء حاراً بطريقة غير طبيعية.
ويستعرض الرحالة معلوماته التاريخية، ذاكراً أن سقوط غرناطة ساهم فى هجرة الموريسكيين الذي جلبوا معهم الفلفل، لتنتشر زراعته في تونس، ويصبح مكوناً رئيسياً في كل الأطباق.
في كتابه "رحلة مغربي إلى تونس، من سلا إلى سبيطلة"، يأخذنا فهد حمروشي في جولة ممتعة من المغرب إلى تونس ليزور متاحفها ومعالمها ويذوق طعامها ويلتقي أُناسها ويجعلنا نسافر عبر صفحات الكتاب لنرى هذه الرقعة الجغرافية بعيون الرحالة المغربي
ويوثق المؤلف في الفصل الثاني لكتابه زيارتَه للكولوسيوم (المدرج) التونسي، موضحاً أن تذكرة الدخول بلغت ثمانية دنانير تونسية، وعبر ساحة داخلية توجد العديد من المداخل كالمبنى في روما، وما إن دخل إحداها وجد نفسه في ساحة واسعة كالتي تظهر في فيلم الغلاديايتو، معتبراً أنه رغم صغر الكولوسيوم التونسي، فإنه كان أجمل من نظيره الإيطالي، وسيشعرنا الدخول إليه أننا عدنا إلى القرن الثالث الميلادي، حيث كانت الساحة حلبة للقتال والفرجة وأمور أخرى.
كما يشير إلى أن الروايات التاريخية تقول إنه في نفس المدينة بنيت ثلاثة مسارح؛ اثنان منها في الموقع الحالي، وكولوسيوم تيسدروس في عهد الحاكم الروماني كورديان الأول سنة 238 م، ثم أكمله ابنه كورديان الثاني بشكل تجاوز فيه الأخطاء الهندسية الموجودة في روما.
زعيم له مكانة خاصة عند التونسيين
ويتطرق حمروشي إلى زيارته لمدينة المنستير التي تبعد بحدود نصف ساعة عن سوسة، حيث يقصد متحف الرئيس بورقيبة الذي يقع في منطقة فخمة مطلة على البحر الأبيض المتوسط، مؤكداً على أن لهذا الزعيم مكانة خاصة عند التونسيين، خصوصاً المنستيريين منهم، مشيراً إلى الألقاب التي أطلقت على بورقيبة، مثل "الزعيم" و"المجاهد الأكبر" و"الرئيس الأبدي" و"وحيد القرن"، والتي ذكرها الكاتب الصافي سعيد في كتابه "بورقيبة سيرة شبه محرمة".
"في كل مرة كنت أخرج من مدينة أو آثار في تونس، أشعر أنني خارج من باب التاريخ وداخل في آخر"
يقول الكاتب: "بعد ذلك دخلنا فناءً واسعاً يتوسطه قبر بورقيبة بزخرفة فخمة تظهر ذوقه الرفيع أثناء حياته وحتى في مماته. بعد ذلك صعدنا الدرج لنشاهد القبر من أعلى. وما أعجبني هنا هو التصميم الذي استوحى من مختلف الأنماط الإسلامية، فمثلاً الأقواس باللونين الأسود والأبيض على غرار النمط الدمشقي وفي الأعلى أقواس من النمط الأندلسي، وحين تنظر إلى الشير تراه مزخرفاً بأسلوب عثماني مع تداخل لعناصر من الفن الإسلامي من شرق آسيا والهند".
السفر عبر الزمن في القيروان
وفي ثالث فصول الكتاب والمعنون بـ"يوم في القيروان رابعة الثلاث"، يغادر الرحالة مدينة سوسة متجهاً إلى مدينة القيروان، التي ما إن دخلها حتى شعر أنه سافر عبر الزمن، مشيراً إلى أنها كانت جزءاً مهماً من التاريخ الإسلامي لتونس، ويقال إن أصل تسميتها يعود إلى كلمة فارسية (كاروان) التي تعنى كتيبة عسكرية، وينسبها آخرون إلى القافلة، وقد تأسست على يد عقبة بن نافع عام 670 م/50 هـ، ولهذا يسمها بعض الفقهاء "رابعة الثلاث" أي بعد مكة والمدينة المنورة والقدس.
ويزور الكاتب مسجد عقبة بن نافع، المكون من ثلاثة طوابق بباب وثلاث نوافذ لكل طابق، والذي يصفه بأنه يشبه من الخارج الحصن أو القاعدة عسكرية، قائلاً: "ما أن تطأ قدمك باب الرواق الجنوبي للمسجد حتى تجد على بعد خطوات ساحة كبيرة وضعت وسطها ساعة شمسية قديمة لمعرفة الوقت، ثم تجد على يسارك مئذنة، والجميل فيه أنه بسيط ومتناسق. فقد رأيت عشرات المساجد عبر العالم، لكن لم تقع عيني يوماً على واحد بهذه البساطة... لقد بقي شامخاً لثلاثة عشر قرناً وكلما أردت وصفه لا أجد كلمات كافية لتلك التحفة التي لو كان الأمر بيدي، لصنفتها من عجائب الدنيا".
نحو سيدي بوزيد بحثاً عن البوعزيزي
ويوثق فهد حمروشي في الفصل الرابع من كتابه زيارتَه لمسقط رأس الشاب التونسي محمد البوعزيزي الذي أضرم النيران في جسده أمام البرلمان في مدينة سيدي بوزيد، والتي تحولت بعدها لمركز وشرارة انطلاق ثورة الياسمين في 2010.
أما في الفصل الخامس من الكتاب والمعنون بـ"التاريخ القديم من سبيطلة إلى دوغة" فيودع الرحالة عاصمةَ الثورة ومنطلق الثورات العربية، متجهاً إلى وسط غرب تونس، فيزور ولاية القصرين التي تبعد كيلومترات عن سيدي بوزيد، والتي عرفت أحداثاً تاريخية كثيرة، بدءاً بالمعارك بين المسلمين والرومان إلى انتفاضة الفلاحين عام 1906 أو ما عُرف باسم "ثورة الفراشيش"، مروراً بمعارك الحلفاء وفيلق الصحراء بقيادة النازي أرفين رومل.
طلب من النادلة طبق لازانيا بالكفتة غير حار، ولكن بعد دقائق قليلة جاءت مقبلات من صلصلة وزيتون، وكان كل شيء حاراً بطريقة غير طبيعية
ويزور الكاتب مدينة سبيطلة الأثرية التي اعتبرها مدخلاً مهماً لفهم نهاية الحقبة الرومانية الإفريقية في تونس، وبداية توسع المسلمين في شمال إفريقيا، ثم يتجه الحمروشي عقب ذلك إلى مدينة دوغة التونسية، الواقعة على هضبة مرتفعة فيمكن رؤيتها من بعيد، وقد أدرجت ضمن لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو لعام 1997، وذلك لمشاهدة آثارها التي تعود إلى العهد النوميدي والروماني، مروراً بمدن القصور والدهماني وزورين، حيث كانت الطبيعة مختلفة عن الأجواء الصحراوية، ثم مدينة الكريب، التي تقع في ولاية سليانة في إقليم الشمال الغربي.
نهاية الرحلة
ويوثق الرحالة زيارته لكنيسة مسيحية شيدت داخل معبد وثني تحمل اسم قديس بسفيطلة في القرن السادس الميلادي، داخل المدينة الأثرية، مشيداً بجمال الجدران والأعمدة والحمامات المزينة بفسيفساء روماني جميل، ثم دخوله قوس النصر ليجد نفسه واقفاً أمام أحد أجمل المعابد الرومانية التي شاهدها عبر العالم، وهي عبارة عن ثلاثة مبانٍ على الطراز الروماني يمثل كل واحد إلهاً معيناً: جوبيتر ، جونو ، مينيرفا، وهُم ما يُعرف في الميثولوجيا الرومانية بـ"ثالوث كابيتولين"، وهو عبارة عن ثلاثة آلهة في الديانة الرومانية القديمة، كانت تعبد في روما قديماً والأقاليم التابعة لها إلى غاية القرن الرابع الميلادي.
ويحكي مؤلف الكتاب كيف قطع مسافة 440 كيلومتراً ليعود إلى العاصمة التونسية، في الفصل السادس، موضحاً أن مظاهر مواطني العاصمة تختلف عن غيرها من المدن. وهناك يزور المتحف الوطني بباردو بمنطقة الحبيب، الذي يعود تاريخ تأسيسيه إلى عام 1881، ويضم قطعاً أثرية من مختلف الحقب التاريخية لتونس وأكثر من 20 قاعة عرض بمزيج من الطراز الأندلسي التركي، وسبق أن تعرض لهجوم إرهابي في 2015.
بعدها يتوجه إلى وسط المدينة القديمة الذي يضم مبنى الحكومة، عابراً أزقتها وماراً بمساجدها الكثيرة التي يحمل عدد منها أسماء نساء، مثل "سعيدة عجولة" التي اعتُبرت من الأولياء الصالحين، ويزور جامع الزيتونة المعمور أو الجامع الأعظم، ثاني أقدم مساجد تونس، الذي بُني في 732 م. ثم يسير في شارع الحبيب بورقيبة الذي يشبه شارع محمد الخامس في الرباط، وهناك يشاهد تمثال ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع، وساعة الحبيب بورقيبة، ثم قصر النجمة الزهراء أو "دون لبارون"، أحد أجمل قصور تونس والذي بني في 1912، مروراً بطريق القصر الرئاسي، وصولاً إلى المدينة الأثرية بقرطاج، ليقضي بقية يومه بخليج بحر المرسى، قبل أن يقصد مطار قرطاج الدولي مودعاً تونس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون