شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
سيرة طبيعية للانتقال من خارج السجن إلى داخله (2)

سيرة طبيعية للانتقال من خارج السجن إلى داخله (2)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والحريات العامة

السبت 18 مارس 202311:32 ص

يعيش أهل بلدي



كل ذلك كان في صيف 1983، قبل أن يعرف العالم ما يعرفه اليوم من تواصل رقمي يمكن للإنسان بواسطته أن ينقل في غضون ثوان، كتاباً من طرف الدنيا إلى طرفها الآخر.

ما حدث في ذلك التاريخ أن جلال حاول، بتكليف من الحزب، أن ينقل علبتي بقلاوة ملغومتين بالمنشورات، من دمشق إلى حمص. البقلاوة الشامية متميزة ولا غرابة أن يأخذها مسافر من دمشق إلى حمص. لن يثير هذا انتباه موظفي بولمانات النقل العسكري، لكن سارت الأمور على غير ذلك.

هل ظهر على جلال ارتباك أثار ريبة الموظف؟ هل كانت هناك وشاية ما؟ هل لأن علب البقلاوة كانت مشبوهة حينها بوصفها وسيلة لتهريب المنشورات؟ مهما يكن، فقد كانت تلك الحادثة هي البداية المشؤومة، أو هي نقطة التحول في حياة دزينة من الأشخاص مع عائلاتهم.

كل شيء بدأ حين طلب الموظف من جلال أن يريه قاع علبة البقلاوة. في لحظة تخيل ذلك الشاب العشريني التتمة "الطبيعية" للقصة: اكتشاف المنشورات، الاعتقال، التعذيب ... الخ، فاختار أن يترك كل شيء، على الفور، وينطلق هارباً بأقصى ما يستطيع من سرعة. لحق به بضعة موظفين ولكنه كان الأسرع، فهو شاب معافى في العشرين. فقط لولا أن هويته سقطت من جيب قميصه، وعاد لالتقاطها. هكذا تقلصت المسافة التي تفصله عن مطارديه، فتمكنوا منه. نضارة التجربة جعلته يخسر ما أكسبته إياه نضارة الجسم. انتهى به الأمر في فرع التحقيق المباشر في الميسات، التابع لشعبة الأمن السياسي.

سوف نسخر في السجن مراراً من سوء التقدير هذا: "هويتك معروفة من حجز البولمان يا رجل، ما الغاية من عودتك لالتقاطها، لو أكملت ركضك لما كنا محشورين هنا الآن، يلعن أبو الهويات"، "يا لك من حريص، ألم تجد مكاناً تضع فيه الهوية سوى جيب القميص المفتوح"؟

كان جلال ضمن دائرة الأصدقاء الذين قرروا قراءة الكتب ومناقشتها معاً، ولكنه سقط معتقلاً لأمر لا يتصل بما اتفقنا على تسميته "مجموعات ثقافية". والحقيقة أن السياط لم تستطع فك صمته. فذهب المحققون إلى بيت أهل "مهرب البقلاوة" واستفسروا من أهله عن أصدقائه، فلا بد أن يكون أصدقاؤه من محبي البقلاوة أيضاً. وهكذا انتشرت الدوريات الأمنية في كل مكان، كالقضاء المستعجل. في معسكرات التدريب الجامعي، في القرى، في المدن، في كل مكان.

 حاول جلال، بتكليف من الحزب، أن ينقل علبتي بقلاوة ملغومتين بالمنشورات، من دمشق إلى حمص. البقلاوة الشامية متميزة ولا غرابة أن يأخذها مسافر من دمشق إلى حمص. لن يثير هذا انتباه موظفي بولمانات النقل العسكري، لكن سارت الأمور على غير ذلك... مجاز

القضاء المستعجل أدرك وائل وناصر ونبيل في بيوتهم واقتادهم إلى الفرع، الفرع الذي يمتد إلى كل مكان ويجد أصله في القصر (غير) الجمهوري، كما كان يقول زميلنا في السجن، الشاعر الراحل عدنان مقداد، الذي كتب مرة عن اعتقاله: "فقط حين تعلق الأمر بي، كان كل شيء جاهزاً، السيارات والبواريد والعناصر وأجهزة الاتصال... كل شيء، فقط حين تعلق الأمر بي".

القضاء المستعجل أدرك أيضاً برهان وعبد الحميد في معسكر التدريب الجامعي في الديماس، (الموضوع كله سؤال وجواب وتعودان لإكمال المعسكر). قبل سنة من هذا، أي في 1982، وقبل قصة البقلاوة، كنت في المعسكر الجامعي نفسه، واستيقظنا على حركة سيارات شاحنة عسكرية مترافقة مع صراخ مسؤولي المعسكر: "الكل يضب اغراضه بسرعة ويتجه إلى السيارات على الحارك. بسرعة". كان هناك قضاء مستعجل آخر اسمه إسرائيل، يحاصر بيروت وتحتل طائراته السماء، وخشية أن يقصف المعسكر الجامعي في الديماس لقربه من الحدود اللبنانية، جرى نقل المعسكر إلى الضْمير (الضاد ساكنة كيلا يختلط الأمر).

عندما أفرغ الحقيبة على المكتب، خبط على المكتب، مسدس عسكري. فوجئ المحقق، وحين استفسر علم أن سناء هي من المظليات اللواتي يحظين بعناية خاصة من "القائد"

أما نور الدين، وكان في التاسعة عشرة من عمره، فقد كبست عليه الدورية بينما كان في بيته ساهياً عن كل هذه الأمور، بل كان يتشاجر حينها مع أخيه لسبب ما. تضاءل شأن الشجار وانطفأ على وقع خطى عناصر مسلحة تدخل البيت. عاد العناصر إلى السيارة ومعهم نور المدهوش وتحت أنظار أهله المذهولين. لكن ما حدث بعد قليل كان غريباً. فقد توقفت فجأة سيارة الدورية التي اعتقلته، وطلب رئيس الدورية من نور أن ينزل من السيارة ويعود إلى بيته. أفرجوا عن نور قبل أن يصلوا به إلى الفرع. كانوا قد ابتعدوا مسافة لا بأس بها عن البيت، وسأله رئيس الدورية: هل تستطيع أن تعود وحدك إلى بيتكم؟

عاد نور إلى البيت وهو بين دهشتين، دهشة اعتقاله ودهشة الإفراج المفاجئ عنه. استوى الأمر في نفسه على أن خطأ ما قد وقع ثم جرى تصحيحه. ولكن في المساء عادت الدورية لاقتياده ثانية إلى الفرع دون توقف هذه المرة. إلى اليوم لا يعلم نور سر تلك الحركة. هل هي تكتيك لمراقبته مثلاً، من أجل كشف الصلات واعتقال المزيد من الناس، أم أنها بالفعل قرار مفاجئ بالتراجع عن اعتقاله، ثم جرى التراجع عن التراجع، أم ماذا؟

امتد فرع التحقيق بعيداً، فوصل إلى السويداء على شكل سيارات تويوتا عالية نصفها العلوي بلون أبيض والسفلي بلون أحمر، سيارات عادت إلى دمشق بعد أن قطفت صديقين هما حسن وخير، قطفتهما من الأرض حيث كانا يساعدان الأهل في العمل. وامتد الفرع بعد ذلك إلى حمص، وعادت السيارات بصديقين آخرين هما محمد وعلي، وبعد ذلك امتد الفرع إلى أبعد من ذلك، فوصل إلى ريف اللاذقية، حيث أخذتني سيارة تويوتا بلون العلم البولوني أيضاً، سلمتني إلى دورية أخرى في اللاذقية، وهذه بدورها قطعت 400 كم، وسلمتني إلى دورية في دمشق.

بادرني رئيس دورية دمشق، بالسؤال: هل أنت ممن يحبون البقلاوة أم ما تحت البقلاوة؟ وأتبع سؤاله بضحكة صاخبه تنم عن إعجاب بالذات، وجاراه بالضحك عناصر المفرزة دون أن يعرفوا، على الأغلب، شيئاً عن القصة... مجاز

بادرني رئيس دورية دمشق، الذي يبدو أنه يعرف قصة البقلاوة، ولديه شيء من حسّ الفكاهة، بادرني بالسؤال: هل أنت ممن يحبون البقلاوة أم ما تحت البقلاوة؟ وأتبع سؤاله بضحكة صاخبه تنم عن إعجاب بالذات، وجاراه بالضحك عناصر المفرزة دون أن يعرفوا، على الأغلب، شيئاً عن القصة.

 كانت أيام عيد الفطر، وكنت في تلك اللحظة المشؤومة التي وصل فيها عناصر الدورية إلى بيتنا في القرية، في سهرة عامرة مع أهلي وأخوتي المجتمعين بمناسبة العيد. كنت في لباس الخروج، فأنا لا أحب لبس البيجاما إلا في النوم. قميص أزرق غامق يميل إلى البنفسجي (كان القميص في الحقيقة لأخي أكرم وقد أعارني إياه رغم حبه له، فمن أين له أن يعلم أنه سيخسره إلى الأبد)، مع بنطلون جديد أسود، وحذاء رمادي اللون دون رباط، مزين على مشط القدم بخيطين ناعمين من الجلد يخرجان من نقطة واحدة وينتهي كل منهما بكرة رمادية صغيرة (شيء يشبه أحذية الأطفال ولكنها كانت أحد مذاهب الموضة حينها).

كان يكفي إذن أن أنهض وأرافق مندوبي القضاء المستعجل إلى سيارتهم. لا يستوجب الأمر أي شيء آخر، فأمام ثقل حضورهم، تختل الموازين، وتخرج بلا وداع ولا حتى التفاتة إلى الخلف لن يكون لها من قيمة سوى إثقال قلوب الأهل، وإثقال قلبك بما سترى من نظرات مكسورة في عيونهم. حتى أمي التي كانت غافية بجانبنا على أصوات سهرتنا، لم تدرك ما جرى إلا بعد أن احتوتني تلك السيارة ذات اللونين.

في غرفة في قبو، بينما هم يصادرون ما تجب مصادرته مني (ساعة اليد، بضع قطع من النقود، حزام البنطلون، لا يوجد شيء آخر)، يصل عنصر وبيده حقيبة نسائية ويقول للمحقق: "تم إحضار المدعوة سناء وهي فوق سيدي". وعندما أفرغ الحقيبة على المكتب، بناء على طلب المحقق، خبط على المكتب، إلى جانب المحتويات العادية الأخرى، مسدس عسكري. فوجئ المحقق، وحين استفسر علم أن سناء هي من المظليات اللواتي يحظين بعناية خاصة من "القائد"، حينها كانت هذه الكلمة تحيل إلى شخص واحد واسع السلطات والتطلعات اسمه (رفعت الأسد) الذي سيقوده طموحه بعد أكثر من سنة إلى القيام بتمرد فاشل على أخيه (حافظ الأسد).

صمت المحقق لحظات ثم قال: "لا بأس، أعد الحقيبة إلى صاحبتها وافرجوا عنها. أما "الدكتور" (قال الكلمة بسخرية ونظر إلي مع ابتسامة متوعدة) فضعوه في المنفردة رقم 8.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

لا ليل يطول، ولا خريف

بعد ربيعٍ عربي كان يزهو بفورات الأمل ونشوة الاحتجاج، ها هي نوستالجيا الحريّة تملأ قلوب كلّ واحد/ ةٍ منّا حدّ الاختناق.

نوستالجيا أفرغها الشلّل القسريّ الذي أقعدنا صامتين أمام الفساد العميم والجهل المتفشي. إذ أضحت الساحات أشبه بكرنفالاتٍ شعبية، والحقيقة رفاهيةً نسيناها في رحلتنا المضنية بحثاً عن النجاة.

هنا في رصيف22، نؤمن بالكفاح من أجل حياةٍ أفضل لشعوب منطقتنا العربية. ما زلنا نؤمن بالربيع العربي، وربيع العالم أجمع.

Website by WhiteBeard