يعيش أهل بلدي
كيف لنا أن نطمئن
"عندما نكون صغار السن، يبدو كل شيء كبيراً، وعندما نكبر يبدو كل شيء صغيراً"، تكرّر جوفانا، الشخصية الرئيسية في مسلسل "حياة الكبار الكاذبة"the lying life of adults، المبني على رواية إيطالية بالعنوان نفسه، تروي سيرة انتقال جوفانا من المراهقة إلى البلوغ، واكتشافها "كذب" حياة البالغين.
كنا صغار السن حين أصبحنا سجناء، لأن كل شيء كان يبدو لنا كبيراً، بما في ذلك إرادتنا على قلب العالم. كنا مجموعة من طلاب جامعة دمشق في السنوات الأولى من مختلف الفروع، من الطب إلى الهندسة إلى الآداب إلى الاقتصاد ... الخ. وقد أصبحنا سجناء كما يصبح المراهق بالغاً. هكذا، بهذه البساطة وهذه الطبيعية، وكأنه تطور طبيعي لمن يستكبر الأشياء في بلد تركت أمرها للأقوى، ثم خافت واستسلمت وأكملت حياتها تغطي خوفها منه بتمجيده.
كنا خمسة عشر طالباً وطالبة، في أوائل ثمانينات القرن الماضي، كانت الطفولة لا تزال عالقة على رموشنا. كان يبدو لنا كل شيء كبيراً، أو على الأقل، أكبر مما يراه الكبار. مثلاً، كان يبدو لنا كبيراً أن يصفع عسكري رجلاً في الشارع لسبب ما، دون أن يجرؤ الرجل على ردّ الكف، أو على محاولة ردّ الكف، أو حتى على التفكير بردّ الكف، مثلما لا يفكر الابن بردّ صفعة أبيه، هنا بدافع الأخلاق وهناك بدافع الخوف من العاقبة، الخوف نفسه الذي يمنع المارة من التدخّل.
كذلك، كان يبدو لنا كبيراً، مثلاً، أن يدخل طالب إلى الجامعة بسيارة فاخرة مع عناصر مرافقة، يرافقونه حتى في قاعة الامتحان. وكان يبدو لنا كبيراً أننا متخلفون في كل مجالات الحياة. وإذا كانت أشياء أصغر من ذلك تبدو لنا كبيرة، مثل أن يحرم طالب في كلية علمية قادم من محافظة بعيدة، من الحصول على غرفة في السكن الجامعي، كي تعطى لطالب في كلية الآداب ومن سكان دمشق، لا حاجة له بالغرفة سوى كي يسهل عليه ملاحقة طالبات السكن الجامعي، فكيف ستبدو لنا إذن أشياء كبيرة، مثل أن يحاصر الجيش الإسرائيلي عاصمة عربية ويدخلها.
كنا صغار السن حين أصبحنا سجناء، لأن كل شيء كان يبدو لنا كبيراً، بما في ذلك إرادتنا على قلب العالم. وقد أصبحنا سجناء كما يصبح المراهق بالغاً. هكذا، بهذه البساطة وهذه الطبيعية، وكأنه تطور طبيعي لمن يستكبر الأشياء في بلد تركت أمرها للأقوى... مجاز
الأكبر سناً يميل بهم الزمن إلى الاعتياد، وعلى خلافهم، أو بصورة أكثر حدة منهم، بدا لنا أن كل ما يحيط بنا غير معقول وغير مقبول ويحتاج إلى تغيير نحو الأفضل، وينبغي أن نعمل نحن لتحسين كل شيء. ما المانع؟ لماذا الانتظار؟ من سيعمل إذا لم نعمل نحن؟ كيف نعمل؟ ومن أين نبدأ؟ كنا ندرك أننا أميون في الثقافة، لا نعرف كثيراً أبعد مما تقدمه الكتب المدرسية، فاتفقنا أن نبدأ بقراءة ما يتوفّر من كتب عن تاريخ منطقتنا وبلدنا إضافة إلى كتب أخرى في السياسة، في الاقتصاد، في الفلسفة، في كل شيء.
انقسمنا إلى مجموعتين، ووضعنا برنامج قراءة ومواعيد للحديث عن الكتاب بعد الانتهاء منه. وهكذا كان، رغبة كبير في المعرفة ودافع كبير للتأثير في الحياة العامة. يخالط ذلك، ولا شك، رغبة الشباب في التميز وربما في الاستعراض وفي استجرار قيمة من المعرفة وفي تلبية نداء بطولي عميق.
يمكن القول، بنكهة سينيكية غير خافية، إنه لا يخلو كل نشاط بشري إرادي من أنانية ما، بما في ذلك الانشغال في الشأن العام أو حتى العمل الخيري. هذا لا ينتقص شيئاً من قيمة التضحية والعمل العام، ولا يشكل مأخذاً على الفاعلين. الأهم هو أن ذلك لا يعطي أي جهة في العالم الحق في أن تعترض على ما تقوم به المجموعة، فكيف في أن تعتدي عليها وتصادر حياة أفرادها.
جَمَعَنا ميل يساري بعيد عن الدين وعن القومية، وجدنا أنفسنا أقرب إلى الفكر الماركسي، الفكر اليساري الذي كان دارجاً في بلادنا في تلك الفترة، فيما كان في البلدان الماركسية يدخل في أزمة متصاعدة انتهت بانهيار تلك البلدان. غير أن هذا لا يهم في السيرة التي نعرضها، فليس اللون الفكري هو ما حدّد مصيرنا البائس التالي، إنما استقلالية ما نقوم به عن مدارات السلطة ونشاطات أجهزتها.
كل نشاط جماعي مستقل يشكل تهديداً للسلطة التي لا تستمد شرعيتها سوى من قوتها الأمنية، مهما يكن نوع النشاط المستقل، حتى لو كان رياضياً أو ترفيهياً. ما حدث لمجموعتنا لا يتوقف على نوعية الكتب التي اخترنا قراءتها أو على اتجاه ميلنا السياسي أو الفكري. ما حدث لنا حدث لاحقاً (بعد حوالي ربع قرن) مع مجموعة شباب سوريين من إحدى بلدات ريف دمشق، كانت "جريمتهم" أنهم ندبوا أنفسهم لتنظيف بلدتهم بصورة مستقلة عن الدولة، فانتهى بهم الأمر في السجن.
وقعنا إذن في المحظور دون أن يكون ذلك في حسابنا، ودون أن يكون في بالنا أن المحظور الذي وقعنا فيه من النوع الذي يجعل الدولة بكاملها تستنفر، وكأننا على وشك "قلب نظام الحكم". سنعلم لاحقاً أن التهمة التي وجهت للمجموعة تجاوزت قلب نظام الحكم، إلى "تهديد الأمن القومي". يجب أن نقول، استباقاً، إن شخصاً واحداً من هذه المجموعة قُدّم إلى محاكمة، وهو صاحب هذه السطور، وأن توجيه التهمة هو بحد ذاته رفاهية لا يحظى بها كل معتقل، فهناك من يعتقل سنوات دون أن توجّه له تهمة، وأحياناً دون أن يوجّه له سؤال، وتصبح معرفة سبب الاعتقال طموحاً مستقلاً بذاته.
هل يمكن أن تبتلع السجون "أطفالاً" لأنهم يجتمعون على قراءة كتب ومناقشتها فيما بينهم؟ كان يبدو لي أن هذا من الشرور التي تمتلك الحياة وسائل دفاع ذاتي ضدها، وأن هناك ما يحمي العقل والأخلاق من الانتهاك البليغ... مجاز
لطالما أغراني هذا الحال في تشبيه الاعتقال الصامت، أي دون توجيه أي تهمة أو سؤال للمعتقل، بالموت المفاجئ بسكتة قلبية أو دماغية، في الحالتين يكون السبب خافياً على الضحية.
لكن لنعد إلى القصة، في ذلك الوقت كان يملأ نفسي اطمئنان غامض بأن هناك أشياء لا يمكن أن تحدث لأنها بالغة السوء، وأن هناك قوة ما داخل رأس الإنسان، أو خارجه، تحول دون وقوعها. اكتشفت مراراً، من تجاربي الشخصية، ومن تجارب غيري، أن هذا الاطمئنان كاذب، مثلما اكتشفتْ بطلة المسلسل كذب حياة البالغين، ولكني مع ذلك لم أستطع التحرّر من هذا الاعتقاد، بل أشعر أن في داخلي ما يحميه من الضياع خشية أن يضيع معه إيماني بالحياة نفسها.
هل يمكن أن تبتلع السجون "أطفالاً" لأنهم يجتمعون على قراءة كتب ومناقشتها فيما بينهم؟ كان يبدو لي أن هذا من الشرور التي تمتلك الحياة وسائل دفاع ذاتي ضدها، وأن هناك ما يحمي العقل والأخلاق من الانتهاك البليغ. لا شك أن هناك ما يجعلك مطمئناً وأنت تسير على الرصيف، رغم أن الرجل الذي يسير خلفك قادر على أن يطعنك، ورغم أنك، في طمأنينتك ولا مبالاتك، هدف سهل لقبضة الرجل الذي يمر بجوارك من الجهة المعاكسة، ورغم أن سائق السيارة التي تعبر الشارع، يمكنه، بحركة بسيطة من المقود، أن يهرسك تحت عجلات سيارته. حتى إذا قررت أن تسير لصق الحائط ولا تطلب سوى السترة، لا بد لك من الاطمئنان إلى أن الحائط الذي تلتصق به، لن ينهار في لحظة ويهرسك.
لا شك أن الحياة كانت ستغدو جحيماً إذا لم يكن المرء مطمئناً من أن الماء الذي يشربه لا يحوي ما يمكن أن يدمر صحته، وكذا الحال في كل شيء. لا يمكن لنا أن نعيش دون طمأنينة. حتى في مكان ميزته الأساسية انعدام الطمأنينة، مثل "سجن تدمر"، لا يمكن للسجين العيش ما لم ينجح في أن يحصل لنفسه على قدر من الطمأنينة.
لكن تأخر الوقت على اكتشاف أن أخطر مرض يمكن أن يصيب الإنسان في ظل نظام يسهر على "الأمن القومي"، هو الطمأنينة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين