على مدار العقدين الماضيين، وربما أكثر، افتقدت صناعة الكوميديا في الجزائر روح الدعابة المنثورة. هذه الروح التي أصبحت جوفاء إلى درجة السقوط في الرتابة والملل. ولا أظن أنه في الإمكان الاستشهاد بعمل كوميدي صنع الفارق في تلك المرحلة أو نرغب في مشاهدته مراراً.
فحين يهل رمضان تكتسح "الاسكتشات" و مسلسلات "السيتكوم" الكوميدية القنوات التلفزيونية الخاصة من دون أي حضور لإنتاج كوميدي حقيقي، برغم الميزانيات المعتبرة المخصصة له، وهو ما جعلنا بعيدين كل البعد عن الفن. فكل الأعمال التي تعرض "تستغبي" المشاهدين الجزائريين، وتحرضهم حتى على النفور منه، ومن الأسئلة التي تبادرت إلى ذهني: لماذا يفشل الكوميديون الحاليون في إضحاك الجمهور؟
بات الجمهور الجزائري يبحث عن التسلية والمرح أياً كان نوعهما ولا يعثر عليهما، يحن للكوميديا التي عاشت عصرها الذهبي في الثمانينيات والتسعينيات، فنادراً ما نجد ممثلاً يجيد فن الكوميديا، ويصنع التسلية والمرح.
الحنين إلى حقبة الماضي
مع تدني مستوى ما يعرض اليوم، يمكننا بسهولة أن نلاحظ حنين الشباب والكبار للقامات الفنية التي صنعت البهجة، أمثال حاج عبد الرحمن، الممثل والمؤلف السينمائي والمخرج الجزائري الذي اشتهر باسم المفتش الطاهر وظهر في عدد من الأفلام البوليسية مع الممثل الجزائري الراحل يحي بن مبروك في دور مساعد المفتش، والفنان الراحل حسن الحسني المعروف بـ"بوبقرة"، هذا الرجل الذي يعتبر مدرسة للضحك، إذ عرف بتعدد شخصياته، وسجل حضوره في الكثير من الأعمال مثل "ريح الأوراس" و"حسن طيرو"، والفيلم الكوميدي "حسان طيرو"، و"الطاكسي المخفي"، الذي أُنتج عام 1989.
"الملفت للنظر أن معظم الشباب (الكوميدي على السوشال ميديا)٫ إن لم نقل كلهم٫ ليس لهم أي دراية فيما يخص التمثيل، ولا أظن أن هذا النوع من الشباب سيقدم إضافة فنية للمشهد الكوميدي إن لم تكن هناك دورات تدريبية في مجال التمثيل
اللافت أن الكثير من هذه الأفلام لا تزال قادرة على جذب انتباه الجمهور. وهي عندما كانت رائجة كنت في الثامنة من العمر في أواخر التسعينيات، ولا تزال الأقرب إلى قلبي على الرغم من أن بعضها بثت باللونين الأبيض والأسود عبر الشاشة الصغيرة، ولا أزال أحفظ تفاصيلها الدقيقة عن ظهر قلب، ومن أشهر العبارات الكوميدية التي أذكرها منذ الطفولة: "يما حبي تنتقيا" أي "أمي أريد أن أتقيأ"، التي أصبحت واحدة من أكثر مقولات السينما الجزائرية شهرةّ، ألقاها الممثل ارزقي رابح المعروف بـ"أبو جمال" في فيلم "الطاكسي المخفي".
وحين يشاهد الجزائري أحد هذه العروض، يعثر على العفوية والتلقائية، لأن الممثلين كانوا يترجمون واقع المواطن البسيط دون التقيد بضوابط معينة، وخلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات كانت قاعة السينما تكتظ بجمهور يأتي للاستمتاع بهذه الإبداعات السينمائية التي تعكس الهوية والثقافة واللهجة المحليتين، وهو ما يبرز في الفيلم الجزائري الكوميدي الشهير "كرنفال في دشرة"، الذي تم تصويره في مطلع التسعينيات في محافظة بسكرة (مدينة جزائرية، تقع في الجهة الشمالية الشرقية من البلاد وتبعد عن العاصمة 400 كلم)، من بطولة عثمان عريوات، ومصطفى هيمون، وصالح أوقروت، ولخضر بوخرص وإخراج محمد وقاسي، ويمثل هذا العمل الفني علامة مميزة في سجل الضحك، ولا يزال يشكل مادة ضحك خصبة في الشارع الجزائري وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، فلا تمر انتخابات دون استحضار شخصية "سي مخلوف البومباردي" التي أداها الممثل عثمان عريوات، إذ قام بترشيح نفسه لكي يصبح رئيس بلدية "دشرة" (بلدة)، ويستعين بشخصيات غريبة الأطوار، وينظم حملة كبيرة للفوز بشراء الضمائر والنفوس، وبعد فوزه ينظّم مهرجان قرطاج.
واقع فني هجين
"لقد خلف الجيل الأول من الكوميديا الجزائرية انطباعاً قوياً لاحترافيتهم. إنه جيل عرف كيف يسكن النفوس، ويجذب المشاهد، ويدخل البيوت باحترام"، يعلّق الإعلامي ضربان مهدي، ويقول لرصيف22: "لقد كانوا ممثلين من الطراز المحترف، وجعلونا نعيش معهم في عالم السينما والتلفزيون، ورسمت إطلالاتهم المهنية الواعية ما يجذب المشاهد ويتصالح معه بصورة تلقائية".
أما اليوم، فالوضع جدّ مختلف، بحسب مهدي، لأن "الواقع الفني لا يسمح للطاقات المميزة بأن تواصل نهج تمثيلها في عالم الكوميديا".
"برامج بعيدة عن المهنية والاحترافية، وتهدف إلى الإضحاك بالقوة والتهديد وأحياناً بالاحتقار، تماماً مثلما حصل عندما (بهدلت) الكاميرا الخفية الروائي العالمي الكبير رشيد بوجدرة"... ماذا حدث للكوميديا الفنية في الجزائر؟
وينتقد برامج الكاميرا الخفية، وتأثيرها السلبي اجتماعياً وإبداعياً، يقول: "سمح الزمن المقلوب لأن ندخل في عالم ابتذال فني تمثل في غزو الكاميرا الخفية التي سيطرت على برمجة القنوات التلفزيونية، أقل ما يقال عنها إنها برامج بعيدة عن المهنية والاحترافية، وتهدف إلى الإضحاك بالقوة والتهديد وأحياناً بالاحتقار، تماماً مثلما حصل عندما (بهدلت) الكاميرا الخفية الروائي العالمي الكبير رشيد بوجدرة ورسمت لنا انحطاطاً فنياًَ رهيباً، يؤطره واقع هجين، لا يمت بصلة لما عشناه مع ممثلين مثل بوبقرة، ورويشد، وعثمان عريوات، وصالح أوقروت".
ذكرتني انتقادات مهدي بكلمات الناقد السينمائي عبد الكريم قادري في منشور له عبر فيسبوك: "إننا بعيدون كل البعد عن الفن"، ويعلل موقفه: "قصص مبتذلة، حوارات غريبة، تمثيل استعجالي، أفكار ساذجة، تقريباً كلها أعمال تستغبي المشاهد الجزائري، وتحرضه على كره الفن، حتى الومضات الإشهارية منفرة للمنتج الذي تروج له"، ويخاطب عبد الكريم قادري المنتجين: "الجمال في واد وأنتم في واد آخر".
ويلقي الناقد السينمائي حليم زروقي اللوم على "الدخلاء"، ويحملهم مسؤولية تردي المستوى الفني لافتقارهم إلى مقومات الموهبة، حتى إن بعضهم صاروا يعتمدون على ما يعرض في مواقع التواصل الاجتماعي على غرار عالم "تيك توك" ثم يعرض على شاشات التلفاز.
وعن تراجع ظهور كوميديانات جدد، يقول: "للأسف أصبحت المحسوبية والوساطة تسيطر على معايير الجودة. هذه العوامل تؤثر بشكل كبير على المبدعين والمتألقين لأن فرص عملهم تقل".
لماذا يتألق البعض على السوشال ميديا مقارنة بالأعمال الاحترافية؟
"للأسف أصبحت المحسوبية والوساطة تسيطر على معايير الجودة. هذه العوامل تؤثر بشكل كبير على المبدعين والمتألقين لأن فرص عملهم تقل"
ويستدرك: "بعض المنتجين يعتمدون على صغار الفنانين هروباً من التكلفة لأن أجورهم متدنية مقارنة بأجور الفنانين المحترفين".
"لعلَ طغيان النموذج الكوميدي على مواقع التواصل الاجتماعي لم يغير شيئًا بل العكس اشتدت الأزمة"، وفق الممثل والمخرج المسرحي حليم زدام، الذي يقول: "أصبح كل من يريد أن يعبر عن رأيه أو يتكلم عن نفسه أو عن ظاهرة اجتماعية بطريقة هزلية بدون أي قيد".
وينتقد حالة "الكوميديا" على مواقع التواصل الاجتماعي، واعتمادها من قبل الناس، مما يعكس اشتداد الأزمة. يقول: "الملفت للنظر أن معظم الشباب إن لم نقل كلهم ليس لهم أي دراية فيما يخص التمثيل، ولا أظن أن هذا النوع من الشباب سيقدم إضافة فنية للمشهد الكوميدي إن لم تكن هناك دورات تدريبية في مجال التمثيل التلفزيوني. فأعمالهم تنقصها الاحترافية والجدية في بعض الأحيان".
ويضيف زدام: "الأخطر أن هذه الأعمال ستؤثر سلباً وبدرجة كبيرة على الكوميديا، ولا يمكن للفن والفنان أن يرتقيا بهذا النوع من الأعمال، مع احترامي وتقديري لقلة قليلة يمكن أن تكون هادفة ويشاهدها عامة الناس، لأن ما يقدمه هؤلاء الشباب موجه خصيصاً لأقرانهم".
ويتابع: "المنصات محترفة لأنها تقدم أعمالاً راقية جداً وبإمكانات معتبرة، فهي تتناول قضايا معينة باحترافية كبيرة لتضمن نسبة مرتفعة من المتابعين حتى توفر دخلاً كبيراً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...