على الرغم من أن النسب العريق كان أحد الشروط المرعية الواجب توافرها في الأشخاص الذين يصلون إلى السلطة والرئاسة في العصور الوسطى، إلا أن التاريخ الإسلامي شهد الكثير من الحالات التي وصل فيها "مماليك"، أي موالٍ ومستعبَدين حُرروا من الرق، إلى سدة الحكم.
تمكن هؤلاء "المماليك" من إقرار شرعيتهم السياسية في المجتمعات التي حكموها من خلال بعض التنظيمات التي غلبت عليها الصبغة الدينية. في الوقت ذاته، استسلم علماء الدين لإكراهات الأمر الواقع المفروض عليهم فثبّتوا شرعية سلاطين المماليك، واكتفوا بنصحهم لما في صلاح الدولة والدين.
من الأتراك إلى المماليك... نماذج تاريخية
ظاهرة وصول المستعبَدين إلى السلطة وقعت للمرة الأولى في التاريخ الإسلامي في النصف الأول من القرن الثالث الهجري. في تلك الفترة، اشترى الخليفة العباسي المعتصم بالله الآلاف من المسعبَدين الأتراك القادمين من بلاد آسيا الوسطى وما وراء النهر.
يذكر المؤرخ العراقي الدكتور عبد العزيز الدوري، في كتابه "العصر العباسي الأول"، أن المعتصم كان يطلب من ولاته أن يبعثوا له بالغلمان الأتراك من كل مكان، وأنه بنى لهم مدينة سامراء، وعيّن بعضهم في مناصب قيادية مهمة في الجيش والدولة.
وفي سنة 247هـ، قتل بعض من هؤلاء المماليك الأتراك الخليفة العباسي جعفر المتوكل على الله، وقبضوا على السلطة بشكل فعلي، وصار الخلفاء واقعين تحت سيطرتهم الكاملة. رغم ذلك، أبقى هؤلاء القادة على الشكل الاعتيادي للسلطة العباسية، ولم يحاولوا القضاء على دولة الخلافة، واكتفوا بالسيطرة على كافة شؤون الدولة.
في مصر، وقعت تجربة مشابهة في أواسط القرن الرابع الهجري. اشترى الوالي محمد بن طغج الأخشيد المستعبَد الحبشي كافور، وأعتقه بعدها وأسند إليه بعض المهام. وبعد وفاة الأخشيد، في العام 334هـ، تولى كافور الوصاية على العرش، وأضحى الحاكم الفعلي لمصر لمدة 23 سنة.
وفي شبه الجزيرة الأيبيرية، مرّت الدولة الأموية في الأندلس بظروف مماثلة في بدايات النصف الثاني من القرن الرابع الهجري. في تلك الفترة، تمكن الخصيان الصقالبة، وهم مستعبَدون اشتراهم أمراء بني أمية من روسيا وبلاد السلاف، من الاستحواذ على قدر كبير من السلطة. يذكر محمد عبد الله عنان، في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس"، أن فائقاً وجوذراً، وهما من كبار زعماء الصقالبة، حاولا أن يستغلا الاضطراب الناشب في البيت الأموي عقب وفاة الخليفة الحكم المستنصر في العام 366هـ، وخططا لصرف أمر الخلافة إلى الأمير المغيرة بن عبد الرحمن الناصر بدلاً من ولي العهد هشام المؤيد بالله بن الحكم المستنصر. ولكن خطة الصقالبة باءت بالفشل في نهاية الأمر، وقُضي على نفوذهم، وتلافى الأمويون وقوع دولتهم في يد الصقالبة.
تبقى تجربة الدولة المملوكية في مصر والشام التجربة الأكثر بروزاً والأطول زمناً في التاريخ الإسلامي. استكثر الأيوبيون من شراء المستعبَدين المقاتلين من بلاد الشراكسة وآسيا الوسطى والقوقاز. على سبيل المثال، يذكر ابن واصل، في كتابه "مفرِّج الكروب في أخبار بني أيوب"، أن الملك الصالح نجم الدين أيوب "اشترى من المماليك الترك ما لم يشتره أحد من أهل بيته حتّى صاروا معظم عسكره، ورجّحهم على الأكراد وأمَّرهم، واشترى خلقاً منهم، وجعلهم بطانته والمحيطين بدهليزه، وسمّاهم البحرية". بعد فترة قصيرة من وفاة نجم الدين أيوب، وصل المماليك إلى سدة الحكم في مصر وبلاد الشام، وأسسوا الدولة المملوكية التي حكمت لما يقرب من ثلاثة قرون، في الفترة من 648- 924هـ/ 1250- 1517م.
الفقهاء من الرفض إلى القبول
وردت بعض الروايات الدينية التي تقول بإمكانية وصول المستعبدين إلى السلطة. على سبيل المثال، جاء في صحيح البخاري قول النبي: "اسمعوا وأطيعوا، وإنْ استُعمل عليكم عبدٌ حبشي، كان رأسه زبيبة". كذلك، ذكر ابن عبد البر في كتابه "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" أن الناس لمّا طلبوا من عمر بن الخطاب في لحظاته الأخيرة أن يستخلف عليهم، قال: "لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لوليته...". بموجب تلك الأدلة، ذهب الخوارج إلى أن أي مسلم بوسعه أن يتقلد منصب الخلافة/ الإمامة الكبرى بغض النظر عن أصوله الطبقية أو القبلية. في الجهة المقابلة، رفض أهل السنة والجماعة ذلك الرأي وقالوا إن النسب القرشي من بين الشروط التي يجب توافرها في شخص الخليفة.
لم يفرّق علماء الدين الأوائل بين منصب الخليفة ومنصب السلطان. كان المنصبان متوحدين في شخص رجل واحد في العصر الراشدي، والأموي، وفي العصر العباسي الأول. ولكن مع سيطرة الأتراك على السلطة، بدأ العلماء يفرقون بين المنصبين. فقبلوا -على مضض- بوصول المستعبدين إلى السلطة.
ظاهرة وصول المستعبَدين إلى السلطة وقعت للمرة الأولى في التاريخ الإسلامي في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، بعدما اشترى الخليفة العباسي المعتصم بالله الآلاف من المسعبَدين الأتراك القادمين من بلاد آسيا الوسطى وما وراء النهر
ومع تأسيس الدولة المملوكية في منتصف القرن السابع الهجري، صار التساؤل حول وضع السلاطين المماليك مُلحاً وحاضراً في العقل الفقهي خصوصاً وأن بعض القبائل العربية في صعيد مصر أعلنت ثورتها على الحكم المملوكي، رافضةً أن يحكمها خوارج ومستعبدون.
يمكن التمييز بين موقفين مختلفين للتعاطي الفقهي مع ذلك الإشكال. الموقف الأول مثّله الفقيه عز الدين بن عبد السلام (ت. 660هـ)، والموقف الثاني مثّله تقي الدين بن تيمية الحراني (ت. 728هـ).
اهتم ابن عبد السلام بالإطار الشكلي النظري، فعمل على إثبات نيل المماليك لحريتهم قُبيل وصولهم إلى الحكم، وذلك حتى يصبح حكمهم موافقاً للشرع بشكل كامل. يذكر جلال الدين السيوطي في كتابه "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة" أنه "لمّا تولى الشيخ -العز بن عبد السلام- القضاء تصدى لبيع أمراء الدولة من الأتراك، وذكر أنه لم يثبت عنده أنهم أحرار، وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فبلغهم ذلك، فعظم الخطب عندهم، واجترم الأمر، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعاً ولا شراء ولا نكاحاً...". في المعنى نفسه، ذكر ابن شاكر الكتبي في كتابه "فوات الوفيات" أن السلطان الظاهر بيبرس لمّا طلب مبايعة العلماء ورجال الدين فإن ابن عبد السلام قال له: "يا ركن الدين، أنا أعرفك مملوك البندقدار، فما بايعه حتى جاء مَن شهد له بالخروج عن ملكه إلى الملك الصالح، وعتقه...".
على الجهة المقابلة، كان ابن تيمية أكثر واقعية في تناوله لذلك الإشكال. لم يلتفت كثيراً إلى البعد الشكلي في المسألة، ولم يبتغ تغيير الأمر الواقع. بل استهدف إصلاح الأحوال قدر المستطاع بحيث يقترب الحكم المملوكي -قدر الإمكان- من الصورة الشرعية المُثلى. ظهر ذلك الموقف في كتابه "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية". لم يتطرق على الإطلاق لأي من الشروط الواجب توافرها في السلطان، فيما ركز جهوده في تقديم النصح إلى المماليك باعتبارهم أولي الأمر وأصحاب الشوكة.
يقول ابن تيمية في كتابه معترفاً بشرعية الحكم المملوكي لكونهم الأصلح لمواجهة الأخطار التي تتهدد الأمة: "ينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة... والقوة في كل ولاية بحسبها؛ فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها؛ فإن الحرب خدعة وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر ونحو ذلك... والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنّة وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام...".
كيف فرض المماليك شرعيتهم؟
لجأ سلاطين المماليك إلى الكثير من الوسائل التي ساعدتهم في فرض شرعية حكمهم في مصر والشام وبلاد الحجاز. كانت أولى تلك الوسائل هي قيامهم بإحياء الخلافة العباسية في القاهرة بعد زوالها من العراق عقب الغزو المغولي لبغداد. يذكر أبو الفدا في كتابه "المختصر في أخبار البشر" في أحداث سنة 659هـ أن الظاهر بيبرس بايع الأمير العباسي أبو القاسم أحمد كخليفة جديد على المسلمين، وسماه بالمستنصر بالله الثاني. يقول أبو الفدا: "عقد الملك الظاهر بيبرس مجلساً حضر فيه جماعة من الأكابر... فأثبت القاضي تاج الدين نسب أحمد المذكور ولقب المستنصر بالله... وبايعه الملك الظاهر والناس بالخلافة واهتم الملك الظاهر بأمره... واستخدم له عسكراً وغرم على تجهيزه جملاً طائلة...".
لجأ سلاطين المماليك إلى الكثير من الوسائل التي ساعدتهم في فرض شرعية حكمهم في مصر والشام وبلاد الحجاز... حرصوا على الظهور بمظهر المدافعين عن المذهب السنّي الأرثوذكسي ضد جميع المبتدعين والمارقين
من جهة أخرى، عمل المماليك على استثمار الانتصارات التي حققوها في المعارك العسكرية التي خاضوها للدفاع عن البلاد الإسلامية. فروجوا لحكمهم باعتباره حكماً إسلامياً شرعياً يُعلي من فريضة الجهاد ضد الصليبيين والمغول. وفي ذلك المعنى، تم الاحتفاء بالعديد من الانتصارات المملوكية الباهرة ومن بينها القضاء على الحملة الصليبية السابعة في معركة المنصورة سنة 648هـ، والانتصار على المغول في عين جالوت سنة 658هـ، واسترداد مدينة عكا الحصينة، آخر المعاقل الصليبية في بلاد الشام، سنة 690هـ.
في السياق نفسه، حرص المماليك على الظهور بمظهر المدافعين عن المذهب السنّي الأرثوذكسي ضد جميع المبتدعين والمارقين. ولهذا تم الاحتفاء بالانتصار العسكري الذي حققه السلطان الناصر محمد بن قلاوون على المغول الإيليخانيين الشيعة في معركة شقحب سنة 702هـ.
كما استجاب المماليك لدعوة الفقيه ابن تيمية لاستئصال أهالي كسروان (في لبنان حالياً)، وكانوا من الشيعة، ووصفهم في بعض رسائله بأنهم "أهل البدع المارقون، وذوو الضلال المنافقون الخارجون عن السنة والجماعة، المفارقون للشرعة والطاعة". فشنّ المماليك مجموعة حملات ضد أهل كسروان في الفترة بين عاميْ 691 و705هـ. وتحدث تقي الدين المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك" عما جرى في بعض تلك الحملات فقال: "سار الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب الشام من دمشق في عساكرها لقتال أهل جبال كسروان، ونادى بالمدينة من تأخر من الأجناد والرجالة شنق. فاجتمع له نحو الخمسين ألف راجل، وزحف بهم لمهاجمة أهل تلك الجبال، ونازلهم وخرب ضياعهم وقطع كرومهم، ومزقهم بعدما قاتلهم أحد عشر يوماً... ووضع فيهم السيف وأسر ستمائة رجل، وغنمت العساكر منهم مالاً عظيماً، وعاد إلى دمشق...".
من جهة أخرى، عمل المماليك على تثبيت شرعيتهم السياسية من خلال الاهتمام بممارسة الطقوس والعبادات الدينية بشتى الطرق الممكنة. يقول المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار" شارحاً حرص المماليك على تنفيذ الشريعة أنهم "فوّضوا القاضي في كل ما يتعلق بالأمور الدينية من الصلاة والصوم والزكاة والحج، وناطوا به أمر الأوقاف والأيتام، وجعلوا إليه النظر في الأقضية الشرعية، كتداعي الزوجين وأرباب الديون ونحو ذلك".
أيضاً، أظهر المماليك الاحترام والتبجيل لكافة الرموز الدينية الإسلامية المؤثرة في الأوساط الشعبية. على سبيل المثال، يوضح السيوطي احترام الظاهر بيبرس لمكانة العز بن عبد السلام فيقول: "وكان (بيبرس) بمصر منقمعاً تحت كلمة الشيخ عز الدين بن عبد السلام، لا يستطيع أن يخرج عن أمره، حتى إنه قال لما مات الشيخ: ما استقر ملكي إلا الآن".
وتحمل المصادر التاريخية المملوكية العشرات من القصص التي تبيّن كيف تسابق السلاطين لنيل رضا كبار شيوخ الصوفية من أمثال السيد أحمد البدوي، وإبراهيم الدسوقي، وخضر العدوي، وأبي السعود الجارحي وغيرهم. في السياق نفسه، اهتم سلاطين المماليك بالعمائر الدينية سواء كانت زوايا، أو مساجد، أو تكايا، أو حتى كتاتيب ومدارس. وفي ذلك يقول أحمد بن علي القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى في صناعة الإنشا": "ابتنى أكابر الأمراء وغيرهم من المدارس ما ملأ الأخطاط (الأحياء) وشحنها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه