شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عجيبة العصر العباسي… القرية الفضّية التي صُنعت للخليفة المراهق

عجيبة العصر العباسي… القرية الفضّية التي صُنعت للخليفة المراهق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 6 مارس 202303:42 م

اشتهر عن الفن الإسلامي أنه امتلك نظرة حذرة تجاه التجسيم ونحت التماثيل٫ لذا اهتم أكثر بالزخرفة وتطويع الخطوط وتجميلها على حساب رسم وتكوين الأشكال والحيوانات وكل ما بداخله روح استجابة للتحذيرات الفقهية في هذا الشأن.

لم يكن هذا الموقف محل إجماع وإنما عارضه الخلفاء أنفسهم في بعض الأحيان. يقول محمد الشيخ في كتابه "الحكمة العربية": "تشدد بعض فقهاء الإسلام في تحريم التصوير. لم تعترف به الحضارة العربية الإسلامية نفسها، بعدما وجدنا في وقائعها وحكايات أيامها عشرات الأمثلة العامرة بالحديث عن المجسّمات التي نصبت في الشوارع وفي البيوت وفي باحات القصور".

الطريف، والغريب ربما، أن وقائع عرض هذه المنحوتات والمجسمات علناً في شوارع بغداد لم تواجه بادعاءات متشنجة للتدمير والتكسير وإذابة الوجه كما يتردد على الألسنة اليوم.

لقد حفظت كتب التاريخ لنا أنباء عن تنفيذ مجسمات خلابة كانت مثار إعجاب الخلفاء مثل نموذج مسجد برواقيْن صنع من الفضة هديةً للخليفة المعتمد على الله بأمر من يعقوب بن الليث أمير خُراسان، كذلك ورد عن القائد العسكري الأموي أسد بن عبدالله القسري أنه تلقى هدية عبارة عن نموذجين لقصرين أحدهما صنع من فضة والآخر من ذهب.

القطعة المنحوتة الأشهر، ربما في تاريخ العباسيين بأسره، هي "القرية الفضية"، التي صنعت من أجل الخليفة العباسي المقتدر بالله في القرن الرابع الهجري

أيضاً اشتهر في بعض الإمارات الإسلامية، عند عودة السلاطين من الحروب منتصرين استقبالهم بنماذج خشبية دقيقة للقلاع والحصون، حرص الأهالي على حملها والتلويح بها في مظاهراتهم الحماسية إشارة للمدن التي فتحها حكامهم بالسيف والغزو.

وحسبما أورد المقريزي في "تاريخ المقريزي الكبير"  فإن خزانة الخلافة العباسية آوت عدداً آخر من التماثيل مثل نموذج لبستان يزنُ 300 رطل، صنعت أرضه من الفضة، وكانت أشجاره من الذهب، وحكى أيضاً عن تمثال امرأة جيء به من مصر لم يشكّ أحد أنه امرأة حقيقية.

وبعيداً عن هذه الأعمال الفنية، تبقى القطعة المنحوتة الأشهر، ربما في تاريخ العباسيين بأسره، هي "القرية الفضية"، التي صنعت من أجل الخليفة العباسي المقتدر بالله في القرن الرابع الهجري.

وأورد ابن العمراني في كتابه "الإنباء في تاريخ الخلفاء"، رواية مختلفة ومتفردة ادعت أن هذه القرية صُنعت في عهد الخليفة المستعين لا المقتدر، وأنها صنعت من الذهب والجواهر وليس الفضة، وهو قولٌ انفرد به، ولم يشاركه فيه أغلب المؤرخين.

القرية الفضية

وفقاً لما أورد ابن الجوزي في كتابه "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم"، فهي إحدى عجائب العصر العباسي في بغداد، كانت قرية من فضة نُحت فيها كل ما يوجد في القرى من بقر وغنم وجِمال وجواميس وأشجار ونباتات وناس، وكل ذلك صنع بأدق صنعة.

وفي كتابه "النفقات وإدارتها في الدولة العباسية"، بذل ضيف الله الزهراني مجهوداً ملحوظاً في الوصول إلى القيمة المالية لأغلب ممتلكات الخلفاء العباسيين حتى بلغ القرية الفضية فذكر أنها "لم تقدر بثمن معلوم". وعند تقديرها اكتفى الجوزي بالتأكيد على أن الخليفة أنفق عليها "ألوف مؤلفة من الدنانير"، وذكر عبد الله القليصي في كتابه "التوليد اللغوي"، أن قيمة القرية ناهزت 200 ألف درهم.

"كانت الوفود تزور القرية الفضية، وتستغرب كثرة الإسرافَ عليها بينما كان العامة في بغداد يعانون من العوز والفاقة".

لا نعلم شيئاً عن الفنان الذي صنع تلك القرية ولا الظروف التي جلبت فيها إلى الخليفة، أما الغرض الأساسي من صناعتها فكانت "ليرى الخليفة كيف تكون القرى".

وهنا يجب الإشارة إلى أن المقتدر تولى الخلافة وهو لا يزال طفلاً في الـ13 من عُمره، لذا لا يستبعد أبداً أن تكون هذه القرية صنعت له كلعبة يسلي بها وقته مثلما يلعب الأطفال اليوم بدمى بلاستيكية لحيوانات وأشجار، وذلك بسبب استلام أمه "شغب" صلاحيات الحُكم كلها لدرجة وتوليها إدارة الخلافة.

يتطابق هذا الاستنتاج مع ما توصل إليه المفكر العراقي رشيد الخيون في كتابه "بعد إذن الفقيه" بأن أم الخليفة أقامت "داراً خاصة على هيئة حديقة ألعاب، عرفت بالقرية الفضية".

شاهدة على عصر السيدة شغب

فور تولي المقتدر الخلافةَ تدخّلت أمُّه وسيّرت كافة مقاليد الدولة، وربما لكثرة اهتمامها بتربية ابنها، قررت الإنفاق لبناء قرية من فضة باهظة الثمن ليلعب الصبيُّ ويرى الدنيا التي لا يعرفها وهو شبه حبيس في قصره.

يقول الخيون: "كانت الوفود تزو القرية الفضية، وتستغرب كثرة الإسراف عليها، بينما كان العامة في بغداد يعانون من العوز والفاقة، لذا كثرت ثوراتهم وتكرر تغيير الوزراء، واتسم ذلك العصر بالاضطراب الشديد". وهذا التقييم ليس غريبًا، إذ تشيع في كتب التاريخ انتقادات النساء في السلطة، على أنها لا تمثّل بالضرورة التاريخ ولا انطباع الناس وقتها، وإنّما يخفي اعتراض المؤرخين أنفسهم على أدوار النساء السياسية.  

بناء هذه القرية هو واحد من أمارات البذخ التي كانت سمات عهد المقتدر، الذي قيل عنه إنه كان ينفق في يوم عرفة 30 ألف رأس من البقر ومن الإبل عشرة آلاف، وكان في داره 10 آلاف خادم من الصقالبة، وفي إصطبله امتلك 10 آلاف فرس و5 آلاف بغلة، ومن الأموال والأثاث والمتاح ما لا يحصى٫ حسبما ذكر ابن الجوزي في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان".

ولقد شهد عصر المقتدر صناعة منحوتة فضية أخرى لا تقل روعة وهي شجرة الفضة، التي أُقيمت في دار الشجرة ببغداد، وكانت تزن نصف مليون درهم، ووضعت فوق غصونها طيورٌ من الفضة تصفر وتحرك أجنحتها كما لو كانت حقيقية.

نهاية غريبة

يقول المؤرخ السوري صلاح الدين المنجد في مقال له بمجلة "الدراسة" إن الذي يدعو إلى العجب والدهشة معاً قصة هذه القرية الفضية وأثر السيدة في مصيرها، وهي تكشف لنا طريق تبذير الأموال في ذلك العهد، وأيضاً كيفية قدرة النساء في أمور البلاط.

كانت إحدى المقربات من السيدة شغف امرأة تدعى "نظم"، قربتها أم الخليفة منها ومنحتها العديد من الصلاحيات حتى باتت أهم مركز قوى في العصر العباسي، وكانت الذراع الداعمة التي تساعد شغف في تسيير البلاد.

لا نعلم شيئاً عن الفنان الذي صنع تلك القرية ولا الظروف التي جلبت فيها إلى الخليفة، أما الغرض الأساسي من صناعتها فكانت "ليرى الخليفة كيف تكون القرى"

أراد أبو القاسم يوسف بن يحيى، هو أحد أبرز أعوان نظم، إقامة حفل في داره بمناسبة "تطهير" ابنه، فلما أرسلت له نظم الأطعمة والهدايا أجابها بأنه يريد القرية الفضية الخليفية ليجمل بها داره و"ليتشرف بما لم يحصل لغيره، حتى يعلم الناس مكانه من الخليفة". استنكرت نظم الطلب وقالت له: "متى سمعتَ بخليفة يعير شيئاً؟ وهل يجوز أن يكون في دار الخليفة شيء فيخرج إلى الناس؟!".

ولكن حينما نظم عرضت الأمر على أم المقتدر وافقت، ليس هذا وحسب، وإنما عدّلت صفة الهدية، فبعدما كان الطلب مجرد استعارة ليوم واحد يُقام فيه الحفلة حوّلته إلى هبة لا ترد، قائلة: "كيف يقال إن الخليفة استعار منه بعض خدمه شيئاً ثم استرده، هذه فضيحة".

لاحقاً، أقنعت شغب ولدها الخليفة بقرارها، فحملت القرية الفضية إلى دار أبي القاسم، ولم تعد لقصر الخلافة وانقطع ذكرها في كتب التاريخ بلا رجعة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image