صباح اليوم السابع للزلزال، وهو نفسه اليوم الذي استراح فيه الرب من عمله في خلق العالم، تتصل صديقتي في وقت مبكر وبصوت متقطع وبكاء لا أسمعه بسبب ضعف تغطية الشبكة الخليوية. تقول لي: "شمّعوا البيت، مع قرار إخلاء خلال 48 ساعةً وهدم بعدها".
ينتفخ قلبي مثل صدر ضفدع.
أشعر بدموعها تبلّل شاشة الهاتف. العجز سمة من سمات البشر، وإنْ أنكرت الحداثة والتكنولوجيا ذلك. إنه الزلزال الذي استطاع، بيسر منقطع النظير، تشقيق بيتهم بكامله، واستطاع أيضاً أن يجلط أباها، وأن يُبكي أمها على "شقا العمر" الذي ضاع في طرفة عين وقدر، وبكثير من السخرية المريرة، استطاع الزلزال البعيد من هنا مئة كيلومتر على الأقل، أن يصلنا أنا وهي من جديد مع بعض بعد انقطاع دهر.
تتسلل إلى قلبي ذكريات المكان، بيتها، الذي سيتحول إلى غبار كوني بفعل زلزال حقير لم يقدّر أنّ هذه المرأةُ قُدّت من صخر الوجع وطيبة القلب، إلى درجة أكاد أشكّ أنها ستتحمل ما سيجري لها بعد اقتلاعها من بيتها.
حتى نهاية الأسبوع الأول لكارثة الزلزال، لم تتحدث الشبكات الإخبارية السورية عن سقوط منازل أبعد من مدينتي جبلة واللاذقية وبلدة إسطامو، ولكن الأخبار المحلية التي وصلت لاحقاً، أفادت بأنّ هناك أكثر من قرية وبلدة في ريف اللاذقية وجبلة والقرداحة والحفة وصلنفة، سقطت فيها أبنية وتشققت بيوت وهناك ضحايا ومصابون وأناس تركوا بيوتهم إلى العراء، فقد امتدّ قوس الأذى من القدموس جنوباً حتى قرى الحفة شمالاً.
تم إخلاء ثمانية وعشرين مسكناً في مدينة القرداحة وحدها، فيما اختلفت الأعداد في المناطق المجاورة لها
تتصل صديقتي من "القرداحة"، تعرفون هذه البلدة السورية، أليس كذلك؟ هل من داعٍ لأشرح لكم؟
القرداحة بلدة هرمة عمرها قرابة ثلاثة آلاف عام. اسمها سرياني، مثل غالبية أسماء قرى الساحل السوري التي حاول البعثيون تعريبها وفشلوا، وطبقاً لمعجم "معاني أسماء القرى والمدن في اللاذقية"، للراحل محمد جميل الحطاب، الطبعة الأولى، فإنّ معنى كلمة "قرداحة" يختصّ بالنار، وقردحت النار أي اشتد لهيبها، ويربطها المعجم بتصنيع السلاح، والأرجح، أنّ المعنى وفق هذا المعجم، مرتبط بحقبة زمنية كان يتم فيها تصنيع السلاح الأبيض (السيوف وغيرها) في بقعة ما من هذا المكان. أما أين وكيف ومتى فهذا ما لا نعرفه، إذ لا دليل مادياً على هذا الكلام. اليوم لا تصنَّع الأسلحة هنا ولكن تصنَّع أشياء أخرى. تعرفون ما هي أو لا تعرفون، تلك مشكلتكم التي لا أستطيع المساعدة في كشفها.
الله هنا... تجده في صور كثيرة
تم إخلاء ثمانية وعشرين مسكناً في مدينة القرداحة وحدها (للدقة هي بلدة كبيرة عدد سكانها لا يتجاوز مئة ألف نسمة)، فيما اختلفت الأعداد في المناطق المجاورة لها. صحيح أنّ العدد ليس كبيراً، ولكن واقعة الزلزال أيقظت كل مخاوف الناس المخفية، ورافقتها هجرة جماعية لأصحاب البيوت المتصدعة والعالية في المدن القريبة إلى تلك القرى والبلدات، فارتفعت الإيجارات على الفور أرقاماً، وبات المعروض من الشقق (وهو كثير في الأيام العادية)، نادراً.
أجل، الأبنية والبشر والشجر يمكن أن تتهاوى وتسقط في "القرداحة" بسبب الزلازل، مثلها مثل كل المدن والأماكن الأخرى. لا شيء في حياة البشر يدعى "الأبدية"، تلك كذبة مفضوحة لا يصدّقها إلا كل أحمق. الأحمق قد يكون برتبة عسكرية عالية، أو شاعراً، أو حتى إنساناً عادياً.
ربما "تنفد" (بالدال وليس الذال)، بعض الأمكنة من الزلازل، نقول "تنفد" وأحياناً كثيرةً لا تفعل، ولكن "القرداحة" "نفدت" من زلازل كثيرة ضربت الساحل والجبل العلوي بحكم ارتفاعها عن سطح البحر (نحو 350 متراً)، وبعدها عن خط الفالق العربي التركي، ربما، ولست جيولوجياً كي أقدّم التفسير العلمي، ولكن كثيرين هنا يؤمنون بأنّ الحامي هو الله، الله نفسه الذي يمكن أن تجده هنا في العديد من الصور والتجليات والكلمات وأشجار السنديان، بعيداً عن الصورة التقليدية لشيخ طاعن في السن.
هنا أيضاً، يؤمن الناس بأنّ القباب الخضراء تحميهم من كل كوارث الأرض، وفي كل "قرنة" هناك وليّ صالح يرمي بركته على المكان ويحميه من غوائل الأيام والدهر، وهؤلاء الأولياء المتنوعو المنابت والمشارب (بعضهم من العراق وفلسطين والمغرب)، أقل حضوراً من سيد الأولياء والقادة والناس: الإمام عليّ!
هناك تشققات وتصدعات في الكثير من المباني، ولكن أهلها رفضوا أن تقوم لجان الكشف الفني الهندسية بالكشف عليها، إذ لا مكان آخر يلوذون به وسط غموض "بنّاء!"، في موقف الحكومة السورية من مسألة إعادة إعمار المنازل المدمرة أو إصلاح المتشققة منها. على الأرجح، تنتظر الحكومة "نخوةً" من إحدى الدول لتتكفل ببناء أبدال لهؤلاء المتضررين، وإلا ما فائدة الأخوة العربية والدم الواحد واللغة الواحدة؟
"على من يطلّ صباحي؟ على مقبرة. على رجمة ميتة مقفرة. على كومة من جراح". هل تذكرون الشاعر والمناضل والشهيد وأحد روّاد الحداثة الشعرية العربية "كمال خير بيك"؟ نعم. إنه من القرداحة
ننسى المشهد حين نصل إلى هناك، حيث الأبدية تتجلى في صخور تقبع في أماكنها منذ صرخة الخلق الأولى. ترد الأنباء الحزينة بتواتر كبير: عدد الضحايا في عين العروس ورويسة البساتنة، القريبتين من القرداحة، تجاوز المئة، فيما زاد عدد المنازل التي أخليت من سكانها إلى ما فوق الخمسين. يخرج الناس إلى كل فج عميق بلا وجهات. بعضهم يرفض ويبني خيمةً مما توافر بالقرب من بيته. البيت مقام الأبدية. يحضر فجأةً طيف شاعر سوري تناساه السوريون قبل غيرهم وهو يهجس بالغياب:
"على من يطلّ صباحي؟ على مقبرة. على رجمة ميتة مقفرة. على كومة من جراح".
هل تذكرون الشاعر والمناضل والشهيد وأحد روّاد الحداثة الشعرية العربية "كمال خير بيك"؟ نعم. إنه من القرداحة، وكذلك فإنّ جاره هو عبد العزيز الخيّر، المناضل والمعتقل والمفقود حتى الآن، صاحب العبارة الشهيرة عن الحراك السوري: "إذا تطيّفت، تسلّحت"، لا يمكنكم النظر إلى القرداحة من شباك واحد!
"إسوارة" التاريخ وسيف الإمام علي
تعجّ جبال الساحل السوري بآلاف القرى المبنية في الوديان والقمم والسواقي وبين بقية غابات السنديان التي التهمها الفقر وغياب الوقود في السنوات الأخيرة. غالبية هذه القرى تحمل أسماءً غريبةً على الأذن الناطقة بالعربية هذه الأيام، ومعظمها بُني فوق أنقاض مواقع دمرتها الطبيعة والزلازل منها والحروب كذلك، ويمكن لمتتبعي اللغات وجذورها فيها، وبسهولة، اكتشاف أنّ لهجاتها المحلية ممتلئة بمفردات قديمة، سريانية وآرامية وأوغاريتية وأكادية وعثمانية وتركية وفرنسية. يحضر هنا حرف القاف المعطّش بوضوح شديد إلى حدّ بات فيه من العلامات اللسانية للمنطقة الممتدة من شمال لبنان حتى جبال طوروس شمالاً.
بقيت هذه القرى خلال سنوات الحرب في مقاعد الحرب الخلفية خزّانات بشريةً سقطت منها آلاف مؤلفة من الضحايا، واستقبلت مهجّرين من مناطق سورية مختلفة، بما فيها تلك المختلفة عنها في الدين واللباس والعادات. بالطبع، وعلى مدار عقود، ظلت هذه الأماكن في مقاعد السلطة السورية "تحت الإبط"، منها خرج مئات الضباط القياديين والمجندين والموظفين، ولم تكن في الأمر أحجية تحتاج إلى التفكيك في أسباب عدم الاهتمام بها تنموياً وسياحياً واقتصادياً. كانت المعادلة أبسط بكثير: ليس للعلوي سوى جهتين من جهات العالم: الجيش أو الوظيفة.
بقيت هذه القرى خلال سنوات الحرب في مقاعد الحرب الخلفية خزّانات بشريةً سقطت منها آلاف مؤلفة من الضحايا
سيعترض البعض على وضع الهوية الدينية في مقدمة الهويات الفرعية للكائن السوري. أتفهّم هذا من "رفاقنا" اليساريين، فمن المنطقي أن تكون "المواطنة" هي الهوية التعريفية الأولى بأي إنسان، تتلوها بقية الهويات، ولكننا حتى اليوم عاجزون فعلاً عن الخروج من ثوب الهوية المهلهلة، الهوية الدينية، وكثير من السوريين يعرّفون أنفسهم بها متجاهلين مواطنتهم. معهم حق في كثير من التبريرات. والحديث بهذا الأمر الآن، مؤلم وجارح، هل تابعتم تعليقات السوريين أنفسهم على حدث الزلزال بين مختلف المناطق السورية؟
حين نقترب من هذه القرى، سنكتشف (وتكتشفون أيضاً)، أنّ القاسم المشترك الأكبر بينها هو الفقر، وهذا الفقر الذي كاد الإمام علي ـالحاضر هنا بكثافة في الحلفان اليوميـ أن يقتله على ذمة مدوّنات التاريخ، وهو من نوع يقال له أيضاً في تلك المدونات "فقر أسود"، ولأني لا أعرف فقراً ملوّناً وآخر أسود، فإنّ فقر هذه الأماكن يجمع مجد المأساة من كافة أطرافها، نعيد التساؤل نفسه: ماذا فعلتم خلال نصف القرن الذي مضى؟ لا شيء... فقط انتصرنا على اللا شيء.
حسناً، هي مقاربة (مقابرة؟) أخرى لما جرى في هذا المستنقع منذ عشر سنوات؛ أنْ تترك بيتك في غفلة من الوقت وتمضي إلى الهباء. تنفجر في رأسي أسئلة أخفيناها نحن ـ بعضُ السوريين- عن أنفسنا: كيف لمن دُمّر بيته بقذيفة أو برميل متفجر أو بأي طريقة، أن ينظر إلينا نحن الناجين من هول الجحيم السوري؟ كم سيكرهنا، وكم سيلوم نفسه على أنه هو الآخر ناجٍ بغير قصد، "واتخذوا دون قصد كلام الجنرال".
لم يكن سؤالي قادماً من "عقدة الناجي". لا ناجٍ في هذه البلاد، كلنا محكومون بالهرب من كل وقائع أيامنا الماضية، ومحكومون بكثير من الأشياء، الخوف أحدها. ولو تعرفون ماذا يفعل الخوف بالكائن البشري (وأي كائن حيّ) لو تعرفون! أكتب الآن وأنا أمشي في حقل ألغام نفسي مخافة أنْ أنزلق في عتمة ما، عتمة المصادفة ربما. أيضاً، لو تعرفون ماذا يعني أن يترك إنسان بيته. الآن نفهم الفلسطيني أكثر. نفهم السوري المقيم في الخيمة. "خيمة عن خيمة تختلف". كان غسان كنفاني واهماً. لا خيمة تختلف عن خيمة، في النهاية يمكن لهبّة ريح خفيفة أن تشلّعنا نحن والخيمة والأبدية.
في الطريق إلى "الشقاء"
ذات صيف قديم جداً، كنا هناك بجوار بيت صديقتي، قرب رأس تلة مطلّة على قرى تضيئها عتمة كانون الباهرة، نمضي إلى الخفاء كي نتحادث بكامل حرية خيالنا عن كيفية اصطياد النجوم واقتياد القمر إلى النوم. في تلك الأيام اكتشفنا كمّاً كبيراً من اللذة الطفولية. منذ الغد أو ربما بعده بقليل، لن يكون هناك قمر ولا نجوم ولا ذكريات.
يظهر كمال خير بيك في هدأة ونبوءة: "جرحك يمضي من هنا، وأنت من هناك تمضي. فمن يراك؟" (من دفتر الغياب).
يقول الصديق الغريبُ: اركب معي في الفلك كي تنجو من لعنة الحنين إليها...
يشغّل الغريب الصديق سيارته، ونمضي إلى هناك. هناك حيث هي.
هنا سقطت بعض الأبنية وسقط عدد من الضحايا. يغزو الناس المحال الصغيرة بحثاً عن طعام. "الدولة" تأخرت. "أصلاً لم تحضر"، يقول "مواطن". نضحك كمن يبكي.
في الطريق إلى عين شقاق:
"نقطع الدروب" ونمضي.
يسألني صديقي الغريب، الطبيب الشاطر والمحبوب من نصف نساء المدينة، عماد الشاتوري، عن أصل ومعنى اسم البلدة، أهزّ رأسي بأني لا أعرف، يضحك: "مبيّنة، العين عين، عين مياه، والشقاق كمان مبيّنة، لذلك معنى الاسم العين التي علقت (تشاجرت) عليها نسوان الضيعة (نسوان جمع نساء)". طيب و"قبل ما يعلقوا نسوان الضيعة ماذا كان الاسم؟" يهزّ رأسه بأنه لا يعرف.
عماد من قلة قليلة من الناس ـالسوريين خاصةًـ ممن يقولون لا أعرف.
في أصل الاسم روايات متعددة، واحدة منها للمطران حنا الدبس، يقول فيها إنّ معنى الاسم من السريانية "شقائق النعمان"، وفي رواية ثانية تروي أسطورة محلية أنّ عين القرية (نبع) شهدت انقساماً بين أهلها بين مؤيدين ومعارضين لإقطاعيّ الضيعة، فحملت عين القرية الاسم، هكذا يستمر "الشقاق" بيننا نحن السوريين بين مؤيد ومعارض، فإن لم نجد من نؤيده أو نعارضه، عارضنا أنفسنا.
لا نعرف بعد ماذا فعل الزلزال بهذه البلدة التي ينتمي إليها أحد شعراء العربية الكبار من المظلومين كما أفترض لأسباب سياسية، الشاعر نديم محمد، صاحب الكثير من الأعمال الشعرية (أربعة مجلدات)، وجلّها من الشعر الموزون، وصاحب إحدى قصائد الهجاء القليلة في حق الأسد الأب (حافظ)، حسب زعم شخصيات من المعارضة السورية، برغم أنّ نديماً بقيَ في حزب البعث حتى نهاية عهد الوحدة مع مصر مطلع الستينيات من القرن الماضي، كما أنه حصل بعد وفاته على وسام رئيس الجمهورية.
نبحث في القرية عن منزل نديم محمد، وقد ترك بيته وحيداً بلا شعر ولا قصائد ولا ونيس (يختلف عن الأنيس)، فنراه وقد تهدّم جانبٌ من أطرافه الخلفية. ندخل البيت لعلّنا نعثر على طيف خفيف الظل فلا نجد سوى وحشة المكان والخوف. بقي المكان حتى سنوات قريبة مدرسةً وحيدةً في جبل مساحته آلاف الكيلومترات.
نكمل الطريق بحثاً عن الزلزال.
نصل إلى "الحفّة"، التي عبرها ذات زمان صلاح الدين الأيوبي، وترك قربها حاميةً من جنوده تحوّلت إلى قرى صغيرة
هنا سقطت بعض الأبنية وسقط عدد من الضحايا، وتكاثرت فطور الشائعات السريعة بقرب حدوث زلازل جديدة. لقد اقتربت نهاية العالم. يقول عماد وهو يضحك: "لذلك يجب أن أمتّع روحي الحلوة اليوم، تخيّل أن أذهب إلى الآخرة وفي قلبي من متع الدنيا شيء؟". ضحكتُ متذكراً سيبويه الذي مات وفي نفسه شيء من "حتّى".
يغزو الناس المحال الصغيرة بحثاً عن طعام.
"الدولة" تأخرت. "أصلاً لم تحضر"، يقول "مواطن".
نضحك كمن يبكي.
صوب الشمال... حيث لا نجم هناك
نمضي إلى الشمال، محمّلين فعلياً بكل أنواع الضحكات التي يصدرها أناس طيبو القلب إلى درجة تصدمك. في قرية "عزلاء منسيّة"، اسمها "نينتي"، نسأل سيدةً سبعينيةً: "لازمك شي يا خالة؟". تجيب: "الحمد لله ما ناقصنا شي". تدخل منزلها ـ مجازاً هو كذلك ـ تجد بضع فرشات وبطانيات على الأرض والكثير من الأطفال والنساء. المطبخ ـ مجازاً كذلك ـ يحتوي بضع طناجر ألمنيوم وصحوناً وأشياء لا تكفي العدد الموجود بأي شكل ولا يمكن تصنيفها على أنها عدّة مطبخ. نسأل السيدة فتقول بصوت مطمئن إنها مهجّرة بسبب الزلزال من "الدعتور" (حي عشوائي في مدينة اللاذقية)، وقد تشقق منزلها وتصدّع ولم يعد صالحاً للحياة. ترجع السيدة برفقة جيش من الأطفال والنساء إلى حيث كانت أمها تعيش في سالف الوقت، هذا هو العود الأبدي يا صاحبي.
نصل إلى "الحفّة"، التي عبرها ذات زمان صلاح الدين الأيوبي، وترك قربها حاميةً من جنوده تحوّلت إلى قرى صغيرة، وكبرت حتى صارت بلدةً متوسطة الحجم.
اللغة لئيمة أيضاً. لقد "حفّ" الزلزال بالحفّة، فأخرج بعض سكانها إلى الخوف، وأنامَ بعضهم في العراء لأيام تلت حدث الزلزال. لم يغضب الزلزال كثيراً من الحفّة مثلما غضبت "الدولة" عليها قبل بضع سنوات. غضبت الدولة فنسيت المدينة وأهلها. "الدولة" تصاب بالنسيان المقصود، مثلي.
الحفّة وفق تصنيفات الحكومة السورية، "بلدة سياحية" في عقاراتها وإيجاراتها ومطاعمها، ولكنكم مثلي لن تشعروا أبداً بهذه "السياحية"، ولو حاولتم بشتّى الطرق. ما ستشعرون به هو الفقر المقيم هنا، وفي جانب منها سترون بيوتاً (مجازيةً) لا الشعر يحويها ولا النثر.
تتدفق الجموع بحثاً عن معونات غذائية أو مادية أو أي شيء يقيم "الأود" بالمعنى الحرفي للكلمة. منذ سنوات طوال يعيش السوريون المشهد نفسه في كل الأمكنة السورية القابلة للعيش قرب الممكن. من تضرر من الزلزال ومن لم يتضرر. الكل يبحثون عن نجاة محتملة ولو بفعل الزلزال. فعلياً، بعضٌ ممن لم يتضرر منزله المجازي، وجدها فرصةً بعد الزلزال ليحصل على طعام لم يعد في متناول اليد: هل تتخيلون أنّ المعلبات المعدنية التي كانت موادّ نافلةً في المطبخ السوري ولا يُلجأ إليها إلا وقت الملل وقلة المروة (عدم الرغبة في الطبخ)، باتت حلماً ورغبةً شديدةً؟
أكره أنْ أكتب عن أهلي هذا الكلام. الحقيقة بشعة مثل ميدوزا الجميلة.
على بوابات الهباء مرةً ثانيةً
نكمل جولتنا الإغاثية التافهة، تافهة لأن الزلزال اللئيم كشف كميةً هائلةً من الفقر هنا. كمية هائلة من الفقر لا تستطيع مساعدات الأرض كلها تغطية عوارها. نعيد السؤال: ماذا فعلتم طوال العقود السابقة كلها منذ تأسست الدولة العظيمة حتى الآن؟ لا شيء، سوى أننا انتصرنا مئات المرات على مئات الأعداء ودحرناهم فوق جثثنا، ولم يمروا إلا على أرواحنا المتشققة جفافاً وفقراً وموتاً متنوع الأشكال.
هل تتخيلون أنّ المعلبات المعدنية التي كانت موادّ نافلةً في المطبخ السوري ولا يُلجأ إليها إلا وقت الملل وقلة المروة، باتت حلماً ورغبةً شديدةً؟ الحقيقة بشعة مثل ميدوزا الجميلة.
في قرية "الهنّادي"، هناك بيوت (مجازاً أيضاً نسميها كذلك)، من التوتياء والخشب ودواليب السيارات والأرواح المبنية من هشاشات كل شيء. في "سقوبين" مئات النازحين للمرة الثانية أو الثالثة من حلب وإدلب والشام "عاصمة الياسمين". في "الرمل الجنوبي" منازل تشبه أي شيء عدا كونها منازل "لك يا منازل في القلوب منازل".
تباً لكل شيء. تباً للزلزال. تباً للموسيقى الجنائزية التي تحضر في أغنية "موطني".
في المرة القادمة، إن كانت هناك مرة قادمة، سوف أكتب لكم عن السعادة.
إلى أنا بعد عشرين عاماً:
لا أعرف إذا كنتُ سأعيش إلى ذاك الوقت.
أكتبُ إليك يا "أنا" في حقبة سوداء من حياتنا، ولا أدري فعلاً ماذا سيكون مصيري غداً. مصيري ومصيرنا كلنا على هذه البقعة التي باتت سوداء تقهرنا في كل يوم أكثر من الذي سبقه. أنا يا أنا أخطئ كثيراً ولكني لا أعدّ أخطائي. تقول صديقتي التي لم ألتقها حتى الآن: الأخطاء جميلة مثلك. أرغب منك يا أنا أن تعود لتقرأ ما سبق وارتكبت من كلام وتعيد النظر فيه من زمانك البعيد ذاك، وتخبرني إن كان شيء ما تغّير. وإني في شكّ كبير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.